ولو كان في العلم دون التقى شرف *** لكان أشرف خلق الله إبليس

منذ 2012-04-14

قد يتجنب ابن آدم ما فيه صلاحه لأحد سببين: إما أن يكون جاهلاً به أو عالماً به وغير مريد له لمشقة أو غلبة شهوة أو هوى في تركه، وقد يطلب ما فيه فساده لنفس الأسباب: إما جاهلاً به أو عالماً به مريداً له بغلبة شهوة أو هوى، فتكون علة هذا من فساد الإرادة ...


بســـــــــــم اللــــــه
بعد حمد الله والثناء عليه سبحانه بما هو أهله، والصلاة والسلام على رسول الله صلى الله عليه وسلم وعلى آله وصحبه أجمعين، وبعد،،،
"فإن نجاة العبد في هذه الدار الدنيا وفي الآخرة مرهونةٌ بصلاح علم وصلاح عمل........................"

فإذا قلنا بأن صلاح ابن آدم في الدنيا مرهون بصلاح "العلم" فإننا نقصد بالعلم هنا: العلم بالمصالح والمفاسد: أي علمه بما فيه نفعه وضره، ثم يأتي بعد ذلك عمله على القيام بما فيه المصلحة والبعد عما فيه الضرر والمفسدة: ولن يكون الإنسان مصيباً لكماله في الدنيا والآخرة إلا إذا صح علمه بالمصالح والمفاسد قبل عمله طالباً ما فيه المصلحة أو البعد عن المفسدة، وإلا فلو فسد علمه بالمصالح والمفاسد فلا ضامن له أن يطلب ما فيه فساده وعطبه أو أن يجتنب ما فيه صلاحه ومنفعته.

ولكن هل يظن بعاقل أن يطلب ما فيه فساده وأن يجتنب ما فيه صلاحه؟

نقول: نعم، فقد يتجنب ابن آدم ما فيه صلاحه لأحد سببين: إما أن يكون جاهلاً به أو عالماً به وغير مريد له لمشقة أو غلبة شهوة أو هوى في تركه، وقد يطلب ما فيه فساده لنفس الأسباب: إما جاهلاً به أو عالماً به مريداً له بغلبة شهوة أو هوى، فتكون علة هذا من فساد الإرادة (من أراد يريد إرادة فهو مريد وما يريده فهو مراد) وعلة الأول من فساد العلم.

الغرض المقصود: أن فساد العلم بالمصالح والمفاسد سبب من أسباب الهلكة ودواؤه هو العلم.

ولكن ما هو هذا العلم؟ هل هو علم مخصوص أم هو عام يشمل كل أنواع العلوم الشرعية من حفظ وفهم لكتاب الله وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم ومعرفة الأحكام العملية وأصول الفقه والاستدلال من الكتاب والسنة؟ والعلوم المادية الدنيوية مثل الطب والهندسة والكيمياء وعلوم الإدارة والاقتصاد والحساب؟

المبحث الأول
ما جاء في بيان جنس العلم الذي به نجاة العبد في الدنيا والآخرة:


يستدل البعض على القول الثاني أن ذكر الله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم للعلم والحث على التعلم والثناء على العلماء وأهل العلم وحملته وطلبته كان المراد جميع أنواع العلوم، واستدلوا على ذلك بما يلي:
قوله تعالى: {يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ} [المجادلة:11]،
وقوله تعالى: {إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ} [فاطر:28]،
وقوله تعالى: {هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ} [الزمر:9].

ومن الحديث قوله صلى الله عليه وسلم: «إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلا من ثلاث: صدقة جارية، أو علم ينتفع به، أو ولد صالح يدعو له» (رواه الامام مسلم رحمه الله عن أبي هريرة رضي الله عنه).

وقوله صلى الله عليه وسلم: «من سلك طريقاً يلتمس فيه علماً سهّل الله له طريقاً إلى الجنة» وهذا الحديث سيأتي تخريجه وذكره كاملاً.

وقالوا أن وجه الشاهد من جميع ما سبق: هو ذكر لفظة العلم معرفة بالألف واللام فتكون من صيغ العموم في كل علم سواء شرعي ديني أو مادي دنيوي.

فنقول: أن هذا الاستدلال قاصر وغير صحيح لما يلي:
أن سياق الآيات والأحاديث التي استدلوا بها مخصِّص لعموم العلم بعلم مخصوص:

القاعدة تقول: (السياق، والسباق، واللحاق من المقيدات) أي أنه إذا كان اللفظ يحتمل في معناه عدة معاني أو مدلولات مختلفة فإن المرجح لمعنى عن آخر هو السياق الذي جاءت فيه اللفظة.

مثال ذلك: قول الله تعالى: {وَكَانَ وَرَاءَهُمْ مَلِكٌ يَأْخُذُ كُلَّ سَفِينَةٍ غَصْبًا} [الكهف:79] فـكلمة "وراء" من كلمات الأضداد فى اللغة وتحتمل معنى الأمام والخلف، والسياق هنا الذى يحدد لها المعنى الذى يجب أن تحمل عليه، وهنا فإنها تحمل على معنى "أمامهم" وهذا موجود أيضاً فى كلام العامة إذا قيل: "ورائي عمل كثير" أي: أمامي.

روى الطبري رحمه الله تعالى: عن قتادة: {وَكَانَ وَرَاءَهُمْ مَلِكٌ} قال قتادة: أمامهم، ألا ترى أنه يقول: {من ورائهم جهنم} وهي بين أيديهم.

ومثاله أيضاً قوله تعالى: {وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنْ سُلَالَةٍ مِنْ طِينٍ . ثُمَّ جَعَلْنَاهُ نُطْفَةً فِي قَرَارٍ مَكِينٍ . ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظَامًا فَكَسَوْنَا الْعِظَامَ لَحْمًا ثُمَّ أَنْشَأْنَاهُ خَلْقًا آخَرَ فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ} [المؤمنون:12-14].

فلفظة الخلق تحتمل عدة معاني: منها الإنشاء من العدم أو التحويل من حال إلى حال، والسياق الذي جاءت فيه هذه الكلمة في الآية السابقة يرجح حملها على معنى التحويل من حال إلى حال: {ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظَامًا فَكَسَوْنَا الْعِظَامَ لَحْمًا ثُمَّ أَنْشَأْنَاهُ خَلْقًا آخَرَ} [المؤمنون:14].

وبنفس القاعدة نقول:
أما الدليل الأول: قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قِيلَ لَكُمْ تَفَسَّحُوا فِي الْمَجَالِسِ فَافْسَحُوا يَفْسَحِ اللَّهُ لَكُمْ وَإِذَا قِيلَ انْشُزُوا فَانْشُزُوا يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ} [المجادلة:11].

ذكر الامام الطبري في تفسيره اختلاف أهل التأويل حول المراد بالمجلس هنا على قولين: أنه مجلس النبي صلى الله عليه وسلم خاصة، والثاني أنه مجالس القتال:

فذكر أن ممن قال بالأول: عن مجاهد وقتادة أنه قال: كانوا إذا رأوا من جاءهم مقبلاً ضنُّوا بمجلسهم عند رسول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم، فأمرهم أن يفسح بعضهم لبعض.
وروى عن ابن زيد قال: هذا مجلس رسول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم، كان الرجل يأتي فيقول: افسحوا لي رحمكم الله، فيضنّ كلّ أحد منهم بقربه من رسول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم، فأمرهم الله بذلك، ورأى أنه خير لهم.
وروى عن الضحاك: قال: كان هذا للنبيّ صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم ومن حوله خاصة يقول: استوسعوا حتى يصيب كلّ رجل منكم مجلسًا من النبيّ صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم، وهي أيضًا مقاعد للقتال.
وروى عن ابن عباس أنه قال: ذلك في مجلس القتال.

قال رحمه الله:
"يقول تعالى ذكره: يرفع الله المؤمنين منكم أيها القوم بطاعتهم ربهم، فيما أمرهم به من التفسح في المجلس إذا قيل لهم تفسحوا، أو بنشوزهم إلى الخيرات إذا قيل لهم انشزوا إليها، ويرفع الله الذين أوتوا العلم من أهل الإيمان على المؤمنين، الذين لم يؤتوا العلم بفضل علمهم درجات، إذا عملوا بما أمروا به". اهـ

قال محمد الطاهر بن عاشور رحمه الله في التحرير والتنوير:
"وعطف الذين أوتوا العلم منهم عطف الخاص على العام لأن غشيان مجلس الرسول صلى الله عليه وسلم إنما هو لطلب العلم من مواعظه وتعليمه، أي والذين أوتوا العلم منكم أيها المؤمنون، لأن الذين أوتوا العلم قد يكون الأمر لأحد بالقيام من المجلس لأجلهم، أي لأجل إجلاسهم، وذلك رفع لدرجاتهم في الدنيا، ولأنهم إذا تمكنوا من مجلس الرسول صلى الله عليه وسلم كان تمكنهم أجمع للفهم وأنفى للملل، وذلك أدعى لإطالتهم الجلوس وازديادهم التلقي وتوفير مستنبطات أفهامهم فيما يلقى إليهم من العلم، فإقامة الجالسين في المجلس لأجل إجلاس الذين أوتوا العلم من رفع درجاتهم في الدنيا.
ولعل البدريين الذين نزلت الآية بسبب قصتهم كانوا من الصحابة الذين أوتوا العلم.
ويجوز أن بعضا من الذين أمروا بالقيام كان من أهل العلم فأقيم لأجل رجحان فضيلة البدريين عليه، فيكون في الوعد للذي أقيم من مكانه برفع الدرجات استئناس له بأن الله رافع درجته". اهـ

وفي مختصر تفسير ابن كثير:
وقوله تعالى: {يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ} أي لا تعتقدوا أنه إذا فسح أحد منكم لأخيه أن ذلك يكون نقصاً في حقه، بل هو رفعة ورتبة عند الله، والله تعالى لا يضيع ذلك له، بل يجزيه بها في الدنيا والآخرة، فإن من تواضع لأمر الله رفع الله قدره ونشر ذكره.
ولهذا قال تعالى: {يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ} أي خبير بمن يستحق ذلك وبمن لا يستحقه:
روى الإمام أحمد، عن أبي الطفيل أن نافع بن عبد الحارث لقي عمر بن الخطاب بعسفان، وكان عمر استعمله على مكة، فقال له عمر: من استخلفت على أهل الوادي؟ قال: استخلفت عليهم ابن أبزى رجل من موالينا، فقال عمر: استخلفت عليهم مولى؟ فقال يا أمير المؤمنين إنه قارئ لكتاب الله، عالم بالفرائض، قاض، فقال عمر رضي الله عنه: أما إن نبيكم صلى الله عليه وسلم قد قال: «إن الله يرفع بهذا الكتاب أقواماً ويضع به آخرين» (أخرجه أحمد ورواه مسلم من غير وجه عن الزهري)." اهـ

ويقول سيد قطب رحمه الله تعالى في ظلال القرآن:
"وعلى طريقة القرآن في استجاشة الشعور عند كل تكليف، فإنه يعد المفسحين في المجالس بفسحة من الله لهم وسعة: {فَافْسَحُوا يَفْسَحِ اللَّهُ لَكُمْ} ويعد الناشزين الذين يرفعون من المكان ويخلونه عن طاعة لأمر الرسول برفعة في المقام: {وَإِذا قِيلَ انْشُزُوا فَانْشُزُوا يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجاتٍ} وذلك جزاء تواضعهم وقيامهم عند تلقي الأمر بالقيام.
وقد كانت المناسبة مناسبة قرب من الرسول صلى الله عليه وسلم لتلقي العلم في مجلسه. فالآية تعلمهم:
أن الإيمان الذي يدفع إلى فسحة الصدر وطاعة الأمر، والعلم الذي يهذب القلب فيتسع ويطيع يؤديان إلى الرفعة عند الله درجات. وفي هذا مقابل لرفعة المكان الذي تطوعوا بتركه ورفعوا عنه لاعتبار رآه الرسول صلى الله عليه وسلم {وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ} فهو يجزي به عن علم ومعرفة بحقيقة ما تعملون، وبما وراءه من شعور مكنون.
وهكذا يتولى القرآن تربية النفوس وتهذيبها، وتعليمها الفسحة والسماحة والطاعة بأسلوب التشويق والاستجاشة.
فالدين ليس بالتكاليف الحرفية، ولكنه تحول في الشعور، وحساسية في الضمير.." اهـ

أما الدليل الثاني: فقوله تعالى: {أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجْنَا بِهِ ثَمَرَاتٍ مُخْتَلِفًا أَلْوَانُهَا وَمِنَ الْجِبَالِ جُدَدٌ بِيضٌ وَحُمْرٌ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهَا وَغَرَابِيبُ سُودٌ . وَمِنَ النَّاسِ وَالدَّوَابِّ وَالْأَنْعَامِ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ كَذَلِكَ إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ غَفُورٌ} [فاطر:27-25].

قال الامام الطبري رحمه الله تعالى: "وقوله {إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ} يقول تعالى ذكره: إنما يخاف اللهَ فيتقي عقابه بطاعته العلماءُ، بقدرته على ما يشاء من شيء، وأنه يفعل ما يريد، لأن من علم ذلك أيقن بعقابه على معصيته؛ فخافه ورهبه خشية منه أن يعاقبه. وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل." اهـ.

ثم روى رحمه الله تعالى عن ابن عباس أنه قال: "الذين يعلمون أن الله على كل شيء قدير".

قال الشيخ عبد الرحمن بن ناصر السعدي رحمه الله في تفسيره:
"فتفاوتها دليل عقلي على مشيئة الله تعالى، التي خصصت ما خصصت منها، بلونه، ووصفه، وقدرة الله تعالى حيث أوجدها كذلك، وحكمته ورحمته، حيث كان ذلك الاختلاف، وذلك التفاوت، فيه من المصالح والمنافع، ومعرفة الطرق، ومعرفة الناس بعضهم بعضا، ما هو معلوم.
وذلك أيضا، دليل على سعة علم الله تعالى، وأنه يبعث من في القبور، ولكن الغافل ينظر في هذه الأشياء وغيرها نظر غفلة لا تحدث له التذكر، وإنما ينتفع بها من يخشى الله تعالى، ويعلم بفكره الصائب وجه الحكمة فيها. ولهذا قال: {إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ} فكل من كان بالله أعلم، كان أكثر له خشية، وأوجبت له خشية الله، الانكفاف عن المعاصي، والاستعداد للقاء من يخشاه، وهذا دليل على فضيلة العلم، فإنه داع إلى خشية الله، وأهل خشيته هم أهل كرامته." اهـ.

قال الامام ابن عاشور رحمه الله:
"والمراد بالعلماء: العلماء بالله وبالشريعة، وعلى حسب مقدار العلم في ذلك تقوى الخشية فأما العلماء بعلوم لا تتعلق بمعرفة الله وثوابه وعقابه معرفة على وجهها فليست علومهم بمقربة لهم من خشية الله، ذلك لأن العالم بالشريعة لا تلتبس عليه حقائق الأسماء الشرعية فهو يفهم مواقعها حق الفهم ويرعاها في مواقعها ويعلم عواقبها من خير أو شر، فهو يأتي ويدع من الأعمال ما فيه مراد الله ومقصد شرعه، فإن هو خالف ما دعت إليه الشريعة في بعض الأحوال أو في بعض الأوقات لداعي شهوة أو هوى أو تعجل نفع دنيوي كان في حال المخالفة موقنا أنه مورط فيما لا تحمد عقباه، فذلك الإيقان لا يلبث أن ينصرف به عن الاسترسال في المخالفة بالإقلاع أو الإقلال. وغير العالم إن اهتدى بالعلماء فسعيه مثل سعي العلماء وخشيته متولدة عن خشية العلماء." اهـ.

ثم ذكر الامام رحمه الله قول الشيخ أبو محمد بن أبي زيد: "والعلم دليل على الخيرات وقائد إليها، وأقرب العلماء إلى الله أولاهم به وأكثرهم له خشية وفيما عنده رغبة".

أما الدليل الثالث: فقوله تعالى:
{أَمَّنْ هُوَ قَانِتٌ آنَاءَ اللَّيْلِ سَاجِدًا وَقَائِمًا يَحْذَرُ الْآخِرَةَ وَيَرْجُو رَحْمَةَ رَبِّهِ قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُولُو الْأَلْبَابِ} [الزمر:9].

سياق الآيات كما قال تعالى: {إِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنْكُمْ وَلَا يَرْضَى لِعِبَادِهِ الْكُفْرَ وَإِنْ تَشْكُرُوا يَرْضَهُ لَكُمْ وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى ثُمَّ إِلَى رَبِّكُمْ مَرْجِعُكُمْ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ . وَإِذَا مَسَّ الْإِنْسَانَ ضُرٌّ دَعَا رَبَّهُ مُنِيبًا إِلَيْهِ ثُمَّ إِذَا خَوَّلَهُ نِعْمَةً مِنْهُ نَسِيَ مَا كَانَ يَدْعُو إِلَيْهِ مِنْ قَبْلُ وَجَعَلَ لِلَّهِ أَنْدَادًا لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِهِ قُلْ تَمَتَّعْ بِكُفْرِكَ قَلِيلًا إِنَّكَ مِنْ أَصْحَابِ النَّارِ . أَمَّنْ هُوَ قَانِتٌ آنَاءَ اللَّيْلِ سَاجِدًا وَقَائِمًا يَحْذَرُ الْآخِرَةَ وَيَرْجُو رَحْمَةَ رَبِّهِ قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُولُو الْأَلْبَابِ} [الزمر: 7-9].

قال الامام الطبري رحمه الله:
"وقوله: {قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ} يقول تعالى ذكره: قل يا محمد لقومك: هل يستوي الذين يعلمون ما لهم في طاعتهم لربهم من الثواب، وما عليهم في معصيتهم إياه من التبعات، والذين لا يعلمون ذلك، فهم يخبطون في عشواء، لا يرجون بحسن أعمالهم خيراً، ولا يخافون بسيئها شراً؟ يقول: ما هذان بمتساويين." اهـ.

وفي مختصر تفسير ابن كثير للصابوني:
"{قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ} أي هل يستوي هذا، والذي قبله ممن جعل لله أندادا ليضل عن سبيله؟ {إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُولُو الْأَلْبَابِ} أي إنما يعلم الفرق بين هذا وهذا، من له لب، وهو العقل، والله أعلم." اهـ.

أما من الأحاديث:
فالحديث الأول: قوله صلى الله عليه وسلم: «إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلا من ثلاث: صدقة جارية، أو علم ينتفع به، أو ولد صالح يدعو له» (رواه الامام مسلم رحمه الله عن أبي هريرة رضي الله عنه).

فوجه الاستدلال بالحديث بعيد لأن لفظة "علم" جاءت نكرة مقيدة بوصف المنفعة: فهي في كل علم نافع، ولا خلاف أن الأنفع هو الأبقى ولا أبقى من خير الآخرة.

أما الحديث الثاني: ما روى الإمام أحمد رحمه الله في مسنده عن قيس بن كثير قال: قدم رجل من المدينة إلى أبي الدرداء، وهو بدمشق، فقال: ما أقدمك أي أخي؟ قال: حديث بلغني أنك تُحَدِّثُ به عن رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قال: أما قدمت لتجارة؟ قال: لا. قال: أما قدمت لحاجة؟ قال: لا. قال: ما قدمت إلا في طلب هذا الحديث؟ قال: نعم، قال: فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «من سلك طريقاً يطلب فيه علماً سلك الله به طريقا إلى الجنة، وإن الملائكة لتضع أجنحتها رضاً لطالب العلم، وإنه ليستغفر للعالم من في السماوات والأرض، حتى الحيتان في الماء، وفضل العالم على العابد كفضل القمر على سائر الكواكب، إن العلماء هم ورثة الأنبياء، لم يورثوا ديناراً ولا درهماً، وإنما ورثوا العلم، فمن أخذ به، أخذ بحظ وافر» (1).

ووجه الشاهد من الحديث هو قوله صلى الله عليه وسلم: «وإن الأنبياء لم يورثوا درهماً ولا ديناراً وإنما ورثوا العلم» فقوله صلى الله عليه وسلم "العلم" معرفاً بالألف واللام هو بيان للعلم الذي هو محل الثناء والموعود حامله وسالك طرق حمله بتيسير طريق إلى الجنة واستغفار من في السماوات ومن في الأرض حتى الحيتان في الماء إلى آخر ما وعد الله تعالى، فهذا كله لحامل علم النبوة الذي علّمَه اللهُ تعالى لأنبيائه صلوات الله عليهم أجمعين، ثم علّمه أنبياءُ الله تعالى أقوامَهم من بعدهم، وأكملُه وأتمُّه وأحسنُه ما علّمَه نبيَنا صلى الله عليه وسلم كما قال تعالى: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا} [المائدة:3].

فالمراد ختاماً لهذا المبحث هو أن أشمل علم بالمصالح والمفاسد هو العلم الموروث عن الأنبياء فهذا هو جنس العلم الذي نقصده ونعنيه ونريده وهو المراد من العلم الذي أثنى الله ورسوله في غير ما موضع من كتابه وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم على حامليه وناشريه والمجاهدين في تعلمه وحمله ونشره:

وقد ذكر الله تعالى هذا النوع من العلم في كتابه في غير ما موضع منه:

قوله تعالى: {قُلْ إِنَّ هُدَى اللَّهِ هُوَ الْهُدَى وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُمْ بَعْدَ الَّذِي جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ مَا لَكَ مِنَ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا نَصِيرٍ} [البقرة:120].

وقوله تعالى: {فَمَنْ حَاجَّكَ فِيهِ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ فَقُلْ تَعَالَوْا نَدْعُ أَبْنَاءَنَا وَأَبْنَاءَكُمْ وَنِسَاءَنَا وَنِسَاءَكُمْ وَأَنْفُسَنَا وَأَنْفُسَكُمْ ثُمَّ نَبْتَهِلْ فَنَجْعَلْ لَعْنَتَ اللَّهِ عَلَى الْكَاذِبِينَ} [آل عمران:61].

وقوله تعالى: {إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ يَا أَبَتِ لِمَ تَعْبُدُ مَا لَا يَسْمَعُ وَلَا يُبْصِرُ وَلَا يُغْنِي عَنْكَ شَيْئًا . يَا أَبَتِ إِنِّي قَدْ جَاءَنِي مِنَ الْعِلْمِ مَا لَمْ يَأْتِكَ فَاتَّبِعْنِي أَهْدِكَ صِرَاطًا سَوِيًّا} [مريم:42-43] وحتى قوله تعالى: {فَتَكُونَ لِلشَّيْطَانِ وَلِيًّا} [مريم:45].

وقوله تعالى: {ثُمَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يُخْزِيهِمْ وَيَقُولُ أَيْنَ شُرَكَائِيَ الَّذِينَ كُنْتُمْ تُشَاقُّونَ فِيهِمْ قَالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ إِنَّ الْخِزْيَ الْيَوْمَ وَالسُّوءَ عَلَى الْكَافِرِينَ} [النحل:27].

وقوله تعالى: {وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَيُؤْمِنُوا بِهِ فَتُخْبِتَ لَهُ قُلُوبُهُمْ وَإِنَّ اللَّهَ لَهَادِ الَّذِينَ آمَنُوا إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ . وَلَا يَزَالُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي مِرْيَةٍ مِنْهُ} [الحج:54-55].

وقوله تعالى: {وَقَالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَيْلَكُمْ ثَوَابُ اللَّهِ خَيْرٌ لِمَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا وَلَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الصَّابِرُونَ} [القصص:80].

فهذا في بيان جنس العلم الذي فيه صلاح العبد، نسأل الله أن يعلمنا ما ينفعنا وأن ينفعنا بما علمنا وأن يجعله حجة لنا لا علينا.

وصلي اللهم وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
__________________________________________________
(1) مسند الإمام أحمد بن حنبل - تحقيق: شعيب الأرنؤوط - عادل مرشد، وآخرون - إشراف: د عبد الله بن عبد المحسن التركي- الناشر: مؤسسة الرسالة، الطبعة: الأولى، 1421 هـ - 2001 م- قال المحقق في حاشية ص 46: حسن لغيره، وهذا إسناد ضعيف، وقيس بن كثير، وقيل: كثير بن قيس -وهو قول الأكثرين- ضعيف، ثم إن عاصم بن رجاء لم يسمعه من قيس، فهو منقطع، بينهما داود بن جميل كما في الحديث التالي، وهو ضعيف أيضاً.
وأخرجه الترمذي (2682) من طريق محمد بن يزيد الواسطي، عن عاصم بن رجاء بن حيوة، بهذا الإسناد. وقال: ولا نعرف هذا الحديث إلا من حديث عاصم ابن رجاء بن حيوة، وليس هو عندي بمتصل هكذا: حدثنا محمود بن خداش بهذا الإسناد، وإنما يروى هذا الحديث عن عاصم بن رجاء ابن حيوة، عن الوليد بن جميل، عن كثير بن قيس، عن أبي الدرداء، وهذا أصح من حديث محمود بن خداش.
وأخرجه أبو داود (3642) من طريق الوليد بن مسلم، عن شبيب بن شيبة، عن عثمان بن أبي سودة، عن أبي الدرداء. ولم يسق لفظه، وقال: بمعناه. وشبيب بن شيبة مجهول.
وأخرجه أبو يعلى كما في "إتحاف الخيرة" 1/65 عن أبي همام، عن الوليد، عن رجل سماه أبو همام، عن عثمان بن أعين، عن أبي الدرداء. وفي رجل مبهم.
وأورده ابن عبد البر في "جامع بيان العلم وفضله" 1/37 قال: ومن حديث الوليد بن مسلم، عن خالد بن يزيد، عن عثمان بن أعين، عن أبي الدرداء.
وأخرجه ابن ماجه (239) عن هشام بن عمار، عن حفص بن عمر، عن عثمان بن عطاء، عن أبيه، عن أبي الدرداء قال: سمعت رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول: "إنه ليستغفر للعالم من في السماوات ومن في الأرض، حتى الحيتان في البحر". وإسناده منقطع، عطاء -وهو ابن أبي مسلم الخراساني- لم يسمع من أبي الدرداء، وعثمان ابنه ضعيف.
وقد أورد البخاري بعضه في "صحيحه" في كتاب العلم ضمن عنوان باب العلم قبل القول والعمل، فقال: "وإن العلماء هم ورثة الأنبياء، وَرَّثوا العلم، من أخذه أخذ بحظ وافر، ومن سلك طريقاً يطلب به علماً سهل الله له به طريقاً إلى الجنة". قال الحافظ في "الفتح" 1/160. وهو طرف من حديث أخرجه أبو داود، والترمذي، وابن حبان، والحاكم مصححاً من حديث أبي الدرداء، وحسنه حمزة الكناني، وضعفه غيرهم بالاضطراب في سنده، لكن له شواهد يتقوى بها، ولم يفصح المصنف بكونه حديثاً فلهذا لا يعد في تعاليقه، لكن إيراده له في الترجمة يُشعر بأن له أصلاً.
ويشهد لقوله: "من سلك طريقاً يطلب فيه علماً ..." حديث أبي هريرة سلف برقم (7427) . وهو صحيح على شرط الشيخين.
ويشهد لقوله: "إن الملائكة لتضع أجنحتها ... " حديث صفوان بن عسال سلف برقم (18089) ، وإسناده حسن.
ويشهد لقوله: "وإنه ليستغفر للعالم من في السماوات ... " حديث أبي أمامة عند الترمذي (2685) بلفظ: "إن الله وملائكته وأهل السماوات وأهل الأرضين حتى النملة في جحرها وحتى الحوت ليصلون على معلم الناس الخير". وإسناده محتمل للتحسين.
وحديث جابر عند الطبراني في "الأوسط" (6215) بلفظ: "معلم الخير يستغفر له كل شيء حتى الحيتان في البحار". وإسناده حسن.
وعن مكحول مرسلاً عند الدارمي (289) .
ويشهد لقوله: "فضل العالم على العابد.." حديث معاذ بن جبل عند أبي نعيم في "الحلية" 9/45، وإسناده ضعيف.
وحديث أبي أمامة عند الترمذي (2685) ، ولفظه: "فضل العالم على العابد كفضلي على أدناكم".
وحديث أبي سعيد الخدري عند الحارث بن أبي أسامة كما في "إتحاف الخيرة" 1/263، ولفظه: " ... كفضلي على أمتي". وإسناده ضعيف.
وعن مكحول مرسلاً عند الدارمي (289) .
وقوله: "إن العلماء هم ورثة الأنبياء" أورد السخاوي في "المقاصد" (703) له شاهدين. عن البراء بن عازب وعن أنس فقال: ولفظ الترجمة عند الديلمي من حديث محمد بن مطرف، عن شريك، عن أبي إسحاق، عن البراء بن عازب بزيادة: "يحبهم أهل السماء وتستغفر لهم الحيتان في البحر إذا ماتوا"، وكذا أورد لفظ الترجمة بلا سند عن أنس بزيادة: "وإنما العالم من عمل بعلمه". قلنا: شريك سيئ الحفظ.


كريم محمود القزق
24-ربيع الآخر-1433 هـ
17-مارس-2012 م
 
المصدر: خاص بموقع طريق الإسلام
  • 14
  • 4
  • 88,934

هل تود تلقي التنبيهات من موقع طريق الاسلام؟

نعم أقرر لاحقاً