لا تحكم على الكتاب من عنوانه!!
في مقولات العوام مقولة شديدة الذُّيوع يمكن التعبير عنها بالفصيحة بالقول: "الكتاب يتضح من عنوانه"، وهي مقبولة إذا أخذناها بحذر وبصفة نسبية، لكنها تغدو مضلِّلة إذا صدقها المرء بحرفيتها وعلى إطلاقها..
- التصنيفات: قضايا إسلامية معاصرة -
في مقولات العوام مقولة شديدة الذُّيوع يمكن التعبير عنها بالفصيحة بالقول: "الكتاب يتضح من عنوانه"، وهي مقبولة إذا أخذناها بحذر وبصفة نسبية، لكنها تغدو مضلِّلة إذا صدقها المرء بحرفيتها وعلى إطلاقها.
والكتاب الذي نعرضه اليوم نموذج على خطورة الاكتفاء بالعناوين، فعنوانه هو: قلمي وألمي/100يوم في سوريا، للكاتبة: غَدى فرنسيس، الصادر عن دار الساقي ببيروت في عام 2012 م.
والذي أسهم في انخداع بعض المواقع الإلكترونية الطيبة بالكتاب ليس عنوانه الموحي بتعاطف نسبي مع ثورة الشعب السوري على حكم عصابات بشار الأسد الدموية الطائفية الغارقة في فساد غير مسبوق في التاريخ الإنساني، حيث جرى نهب ثروات بلد على يد عائلة واحدة ونفر قليل من المرتبطين معها بعلاقات القرابة والمصاهرة!! فبالإضافة إلى العنوان هناك الكلام المنشور على الغلاف الأخير للكتاب، وخلاصته أن السلطات القمعية السورية اعتقلت الكاتبة ثم منعتها من دخول البلاد بسبب مقالاتها عما يجري في سوريا، وإن كان الناشر قد ادعى في الغلاف الأخير أن كتابات فرنسيس جلبتْ عليها عداوة النظام والمعارضة على حد سواء.
وبعد قراءتي المتأنية للكتاب بكل موضوعية تبينت لي نقطة ضعفه القاتلة، فالكاتبة كانت أمينة إلى حد بعيد في سرد مرئياتها ولقاءاتها، وهذا يكفي لاستفزاز النظام القاتل الذي يحقد على كل من لا يتبنى روايته الخرافية عن "العصابات المسلحة"، وعلى كل من لا يشاطر أبواقه إنكار وجود شيء اسمه الشعب السوري و بخاصة مظاهراته الحاشدة في المدن والقرى على امتداد الجغرافية السورية.
لكن الانحراف في الكتاب يكمن في آراء الكاتبة التي تقحمها في ثنايا مشاهداتها، ومن المعلوم أن الخلط بين المعلومة والرأي تقتل صدقية أي عمل فكري أو إعلامي.
فهي مهووسة بالعلمانية لكنها تخص الإسلام والمسلمين باتهاماتها لهم بالطائفية، فإذا تحدثت عن قس تحدثت بتقدير وتعاطف....أي أن الكاتبة النصرانية طائفية متحيزة لبني ملَّتها لكنها ترمي مخالفيها في الدين بالطائفية بلا بيّنة!
وكذلك تغدق ثناءها على مشيخة العقل الدرزية وتدعي أن هذه المشيخة وأَدَت الفتنة الطائفية بين دروز السويداء والمسلمين في درعا المجاورة.
كما تستدل الكاتبة على موضوعيتها المزعومة بمحاربتها أمنيا في سوريا وصحفياً في لبنان وليس في ذلك شهادة لها بل هي شهادة على رفض النظام حتى لأمثالها من المؤيدين مع شيء من عتاب المحبين!! إلى حد مطاردتها في لقمة عيشها في لبنان الذي تخضع حكومته لإملاءات عصابات بشار.
وتتكلم (غدى فرنسيس) عن الجيش السوري وتتعامل معه بتقدير لا يستحقه فهو في رأيها خط أحمر، ونموذج للعلمنة وغياب الطائفية!!
والسوريون جميعاً يعلمون -قبل الثورة التي أماطت بقايا الضباب عن هوية نظامهم- أن جيش النظام مبني على سيطرة طائفية مفضوحة، وهو الجيش العربي الوحيد الذي يمنع المسلم من أداء الصلاة فهل هذه هي العلمانية بزعم الكاتبة؟
ومن تناقضات الكاتبة اعترافها بأن رامي مخلوف –ابن خال بشار الأسد- لص كبير ولم يَسْلَم من نهبه لثروات سوريا سوى الهواء فلو استطاع تعليبه لاحتكره وباعه بالسعر الذي يراه!! لكنها مع ذلك تتهم ناقديه بأن دوافعهم طائفية!!
ومن آرائها الفجة الناتجة عن طائفيتها العميقة وكراهيتها الدفينة لكل ما يتصل بالإسلام وأهله، زعمها أن رئيس الوزراء التركي أردوجان يعيش الحلم العثماني لاستعادة سوريا تحت هيمنة الأتراك حتى في فترة "فزعته" للأسد في عام 2005م عندما أنقذه من عزلته الدولية والإقليمية، وهذا هراء لم يجرؤ أعتى أبواق النظام على ادعائه بعد غضبهم من تركيا التي رفضت تأييد ذبحهم للشعب السوري الأعزل!!
وتشن المؤلفة حملة شعواء متكررة على قناة الجزيرة الفضائية برغم اعترافها بأن إعلام النظام كذاب محترف!! فهل من إعلامي يحترم مهنته يهجو زملاءه في المهنة الممنوعين كسائر وسائل الإعلام المستقلة من دخول البلد ثم يؤيد هذا الإعلامي في حقهم أراجيف نظام يقر بأنه كذوب!!
ومما أوقعها في التناقضات المثيرة للسخرية وأوهن الثقة بسطورها، اتهام الثورة السورية بالتسلح منذ بدايتها، وهي فرية رخيصة تتواتر الأدلة على نقيضها كلياً، فالثورة سلمية حتى الآن كما نتابع مئات المقاطع المبثوثة يومياً.. وأما الجيش السوري الحر فيتكون مع عسكريين انشقوا عن الجيش الوحشي الذي جعلته الكاتبة الهوجاء نموذجاً للعلمنة والابتعاد عن الطائفية، فهم عسكريون وليسوا مدنيين حتى يقال بسببهم: "إن الثورة تعسكرت"!!
والمفارقة المضحكة تأتي في الحل الذي تقترحه الكاتبة لتخليص سوريا من مأساتها الحالية، ويتمثل في فرض العلمنة بالقوة على غرار ما صنعه أتاتورك في تركيا قبل تسعة عقود من الزمان!!
فالمثقفة المزعومة لا تقرُّ بحق الشعب السوري في تقرير مصيره، وإنَّما تدعو لفرض الوصاية عليه عُنوةً، وكأنَّ نصف قرن من الظلم الرهيب الذي فرضه نظام الأسد الذي يدَّعي العلمانية غير كافية للسوريين.
ثم أليس من هذيان الكاتبة دعوتها إلى مسلك أتاتورك الذي فرض العلمنة على الأتراك بالحديد والنار، وتجاهلها أنها غاضبة كنظام بشار من حكومة أردوجان وهي ثمرة نظام أتاتورك الذي تحض على فرضه بالقوة.
إن الإنصاف يقتضينا معاملة الكاتبة غدى فرنسيس باختصار كأي شاهد فاجر إذ يُؤْخَذُ اعترافُه وتُرَدّ شهادتُه.
مهند الخليل - 16/6/1433 هـ