هل كفَر حاطبٌ بموالاة المشركين؟... محاوَرة مختصرة

محمد رجب محمد

إنك قد تجد طالب العلم يتورع عن الإفتاء في الفروج أو الجنايات، بل والمعاملات، لكنه جرئ مقتحم في قضايا الإيمان وأحكام المكلفين إسلامًا وكفرًا..

  • التصنيفات: الولاء والبراء -


أخرج البخاري بسنده أن عليًا رضي الله عنه قال: بعثني رسول الله صلى الله عليه وسلم أنا والزبير والمقداد، فقال: «انطلقوا حتى تأتوا روضة خاخ فإن بها ظعينة معها كتاب فخذوه منها». قال: فانطلقنا تعادى بنا خيلنا حتى أتينا الروضة، فإذا نحن بالظعينة. قلنا لها: أخرجي الكتاب. قالت: ما معي كتاب. فقلنا: لتخرجن الكتاب أو لنلقين الثياب. قال: فأخرجته من عقاصها، فأتينا به رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإذا فيه: من حاطب بن أبي بلتعة إلى ناس بمكة من المشركين، يخبرهم ببعض أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «يا حاطب ما هذا؟» قال: يا رسول الله لا تعجل علي؛ إني كنت امرأ ملصقًا في قريش -يقول كنت حليفا- ولم أكن من أنفسها، وكان من معك من المهاجرين من لهم قرابات يحمون أهليهم وأموالهم، فأحببت إذ فاتني ذلك من النسب فيهم أن أتخذ عندهم يدا؛ يحمون قرابتي، ولم أفعله ارتدادا عن ديني، ولا رضًا بالكفر بعد الإسلام. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أما إنه قد صدقكم. فقال عمر: يا رسول الله دعني أضرب عنق هذا المنافق. فقال: إنه قد شهد بدرًا وما يدريك لعل الله اطلع على من شهد بدرا فقال اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم. فأنزل الله السورة: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ تُلْقُونَ إِلَيْهِم بِالْمَوَدَّةِ وَقَدْ كَفَرُ‌وا بِمَا جَاءَكُم مِّنَ الْحَقِّ يُخْرِ‌جُونَ الرَّ‌سُولَ وَإِيَّاكُمْ ۙ أَن تُؤْمِنُوا بِاللَّـهِ رَ‌بِّكُمْ إِن كُنتُمْ خَرَ‌جْتُمْ جِهَادًا فِي سَبِيلِي وَابْتِغَاءَ مَرْ‌ضَاتِي ۚ تُسِرُّ‌ونَ إِلَيْهِم بِالْمَوَدَّةِ وَأَنَا أَعْلَمُ بِمَا أَخْفَيْتُمْ وَمَا أَعْلَنتُمْ ۚ وَمَن يَفْعَلْهُ مِنكُمْ فَقَدْ ضَلَّ سَوَاءَ السَّبِيلِ} [الممتحنة:1].


هذه قصة حاطب، وقد ذكرتها كتب الحديث بألفاظ متقاربة، وهي أصل في الكلام عن قاعدة الموالاة، وقد كانت كذلك موضوع مناقشة مع بعض طلبة العلم، وقد ذكر الكفر بالموالاة مطلقا، فتساءل مقررًا:
فقال: أوليس حاطب قد ارتد؟
قلت متعجبًا: أوليس حاطب صحابيًا بدريًا؟! فكيف تحكم بردته؟!
قال: بموالاته الكفار.
قلت: فهل رجع إلى الإسلام؟!
قال: غفر الله له بشهوده بدرًا كما قال النبي عليه الصلاة والسلام؛ففعله داخل في عموم قوله صلى الله عليه وسلم : "اعْمَلُوا مَا شِئْتُمْ"
قلت: وهل شهد النبي صلى الله عليه وسلم بدرًا؟!
قال: نعم.
قلت: وأيهما أعلى وأولى: النبوة أم الصحبة؟
قال: النبوة بلا شك.

قلت: فقد جمع النبي عليه السلام إذن بين النبوة وشهود بدر، ومع ذلك قال الله تعالى له: {وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَ‌كْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِ‌ينَ} [الزمر:65]. أولم يكن النبي أولى في العفو من حاطب؟! ورغم ذلك فقد أنذره ربه حبوط عمله بالكفر والردة، فأعلمنا أن الكفر قاض على الحسنات لا العكس، وإنما تقضي الحسنات على ما دون الكفر وإن سمي كفرًا، لكنه دون كفر الردة.


فها هنا قاعدتان لا تتقاطعان: الأولى: حبوط الحسنات بالكفر، وهو هنا الردة. أما ما دونه فقاعدته: ذهاب السيئات بالحسنات، وهي قاعدة مباينة للأولى.

فإن كان الكلام في كفر الردة فأعمِل القاعدة الأولى، وإن كان الكلام فيما دون ذلك فالثانية. وبذلك تفهم أن الكلام في الحديث فيما دون الردة، لأنك ترى فيه القاعدة الثانية لا الأولى.
قال: فما تقول في استئذان عمر بقتله كفرًا ونفاقًا؟!
قلت: أولم يقل النبي عليه السلام إنه قد صدقكم؟!
قال: بلى.
قلت: أفي بعض ما قال حاطب أم كله؟
قال: بل كله.
قلت: فهو قد بين أنه مؤمن بالله ورسوله، ولم يرد بفعله كفرًا. فأنت بين أمرين: إما أن تكذبه فتكذب النبي عليه السلام. وإما أن تصدقه فتنقض مقالتك بأن الموالاة في الظاهر ردة لا تفتقر إلى أمر الباطن.

قال: وكيف ذلك؟!
قلت: إن الحكم بردة من أظهر موالاة الكفار مطلقًا يعني عدم تعليقه على اعتقاد باطنه، فلا استفصال فيه؛ لأنه لا احتمال فيه، فكل صوره عندك سواء. وتسليمك بأن حاطبًا ما ارتد بموالاته الكفار اعتذارًا باعتقاد باطنه ينقض هذا الإطلاق، ويدل على التفصيل. كيف وقد أظهر حاطب صورة من التجسس لا خِلط فيها، قد تمحض فيها ظاهر الموالاة؟!! فكل ما أتى بعدها فدونها، كما أن كل من أتى بعد النبي وصحبه فدونهم.

قال: ألا يحتمل أن يكون حاطب قد فعل كفرا متأولا؛ فانتفى عنه حكمه؟
قلت: بلى، يحتمل هذا، غير إنه ضعيف جدًا، فإنه ما اعتذر بشبهة دينية، أو تعلق بدليل، بل اعتذر بأنه أراد شيئا من مقاصد الناس الدنيوية، واعتذاره داخل فيما صدقه النبي عليه السلام، فأين التأول في هذا؟! وإذا أردت مزيد بيان فانظر في تأول قدامة بن مظعون في شربه الخمر، فإنه استحلها بشبهة دينية وخطأ استدلال بقوله تعالى: {لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جُنَاحٌ فِيمَا طَعِمُوا} [المائدة:93]. فأين ذلك من قول حاطب: "فأحببت إذ فاتني ذلك من النسب فيهم أن أتخذ عندهم يدا يحمون قرابتي"؟!


والآفة صاحبي أن تقطع رأيًا تحاكم إليه النصوص المشرفة، وتعتقد أنه ترجمان الحق، فتحمل النصوص على قولك، وإنها والله لثقيلة، فلا أرضًا تقطع، ولا ظهرًا تبقي. وإن كان عرض النصوص على ضوابط اجتهادية محتملا في ظنيات الفروع والفقهيات، فإنه لا يقبل في أصول العقائد وكبار مسائل الدين، فإن أدلتها واضحة محكمة في الجملة، فلا تفتقر إلى ما يضبط دلالتها، أو يُحكِم ظنيتها، وإن شئت فانظر قول الله تعالى: {إِنَّ اللَّـهَ لَا يَغْفِرُ‌ أَن يُشْرَ‌كَ بِهِ وَيَغْفِرُ‌ مَا دُونَ ذَٰلِكَ لِمَن يَشَاءُ} [النساء:48]. فهل تجد أحكم من ذلك عبارة، أو أبين من هذا دلالة؟!!
ثم سكتَ فسكتُّ. والله المستعان.

غير أنه ينبغي ألا تعتبر تلك الكلمات مطايًا لماضٍ من الزمان للدفاع عن واحد من الصحابة فحسب، وإنما هي صفحة من التاريخ تتكرر أحداثها وعباراتها كل حين. إنها كلمات تنبئ عن سمات من التهور والجرأة على تناول هذه المحفوظات الشرعية الكبرى، والتي هي مقاصد ذلك الدين.


إنك قد تجد طالب العلم يتورع عن الإفتاء في الفروج أو الجنايات، بل والمعاملات، لكنه جرئ مقتحم في قضايا الإيمان وأحكام المكلفين إسلامًا وكفرًا.

إن حفظ الدين أعظم المقاصد الشرعية، فهو أخطر من حفظ النفس أو العرض، فما ينبغي أن يهجم عليه طالب العلم -فضلًا عن عامة المتدينين- دون تبين وإحاطة لواقعته، ومهارة بقواعد العلم وظوابط النظر. ويتأكد هذا في أوقات الفتنة، فإنها والله خَبار، من لم يستمسك فيها بأصل ساخت فيها أقدامه، وقطع به.

فاللهم سلمنا، وعافنا واعف عنا، واجعلنا هداة مهتدين.
وصلى الله وسلم على النبي الأمين، والحمد لله رب العالمين.


محمد رجب محمد
 

المصدر: خاص بموقع طريق الإسلام