احذروا المؤامرات على الثورات!
لم يحدث في التاريخ أن يصيرَ حالُ شعـوبٍ -وقد بدأ يتغيـَّر بحمد الله تعالى- وهي بهذا الكم العمـلاق من الديمغرافيا، وبهذه المساحة الهائلة من الجغرافيا المحتضنـة لهذه الأحجـام الخيالية من الثروات!
لم يحدث في التاريخ أن يصيرَ حالُ شعـوبٍ -وقد بدأ يتغيـَّر بحمد الله تعالى- وهي بهذا الكم العمـلاق من الديمغرافيا، وبهذه المساحة الهائلة من الجغرافيا المحتضنـة لهذه الأحجـام الخيالية من الثروات!
أن تصيـرَ فريسةً تتداعى إليها كلُّ هذه القوى من الفساد، كلُّ منها يقضم جانبا من حـرّيتها، فالمشروع الصهيوغربي يقضم -مع أوليائه من الأنظمة الاستبدادية- الرأس، والرقبة، والصدر، والجشع الرأسمالي الغربي يقضم اليدين، والبدن، وآلاته البشرية المحليّة، والاستبداد الديني الملحق بطغيان السلطة، يقضمان -مع مزيفي المفكرين، والإعلام الكاذب الموجّه- يقضـم ما تبقى!!
وأن لا يبقـى من هذه الشعوب سوى هذا الهيكـل البائس فحسـب، طيلة عقود، فتصبح مئات الملايين من الأمواج البشرية في عالمـنا العربـي، كالأجساد بلا أرواح، كأنهـا خيالات أشبـاح!!
حتى صارت الحريَّة بالنسبة إليها لفظـاً يُسمـع فحسب، وحلماً في عالم الخيال لا غيـر، وكأنَّ هذه الشعـوب في حالة مرض نفسيّ جماعـيّ مزمـن مركَّب من فقدان، وتجاهل الذات!!
ثـمَّ إنهـا تتيه في هذا الضياع، كتيهِ بني إسرائيل، تراكمت في أثنـائه مئات الآلاف من التنظيرات بالبحوث، والكتب، والأوراق المقدمة للمؤتمرات... إلخ، وتأسست الأحزاب، والجماعـات، والحركات، في محاولات لا تحُصـى للخروج من هذا التيه بلا جـدوى!
وليس هذا فحسب، بل إنها كتب عليها أن تعيش عدة حالات من الحمل الكاذب المبشِّـر بالتغيير عبر ثورات الاستقلال المزعـوم، تلك التي ألقت من أرحامها شياطين في جثمان إنس، فحولت ما تبقى من كلِّ شيء جميل في الحياة إلى قبيح: المعرفة إلى جهل، والغنى إلى فقـر، والسعة إلى ضيق، والتعددية الباهجة إلى شمولية كئيبة!
ثم إنها فجأة تنفض هذه الشعوب عنها الغبـار، وتكسـر القيـود، وتهـرول مسرعة نحو الحرية، لتقيم أسُسَها، وتُعلي بنيانها، وترفع صروحَها، وتمـدَّ أطنابها لتحتـوي الوطـن كلَّه، وهي تجعل أرواحَها أساسات هذا الصرح العظيـم، وأجسادَها أركانـه، ودماءَها ملاطَه، وأشلاءَها لبناتِه!
إنّ هذه حالة فريدة جداً في التاريخ البشـري، تصيـب العقـل بالذهـول، وتصـكُّهُ بالدهشـة!
ومن هنا، فلا بد لنا من إشارة بالإصبع إلى خطر لا يسع أحدٌ تجاهله، يتمثل في هذا السؤال: هل يعقل أن يمـرّ هذا التحوُّل العجيب المفاجئ من غير تآمر لإجهاضه، ومخطط لتخريبه؟!
وهل من المعقول أن تتبخر كلُّ خفافيش عصـر الظلمة في لمح البصـر، وتهرول جميع ذئابه الحاقدة على نيل الشعوب للحرية فتنزوي بعيدا في حزنها بلا حراك؟!
وهل من المنطق أن نسمح بخداع النفس أن يتلاعب بعقولنا، فنصدق أنَّ ساسة الغـرب عموما، وأمريكـا خصوصـا، زعماء الطغيان العالمي، أولئك الذين لازالت أيديهم ملطخة بدماء مئات الآلاف من ضحايا مشروع الإبادة البشرية: (قرن الهيمنة الأمريكية)، وقبل ذلك مشروعهم (المستدام) باحتضان طغاتنـا العـرب، وإرضاعهم، وتربيتهم، ثـم دعمهم، وحمايتهم؟!
وقد أطلقوا -ولازالوا- مع هذين المشروعين أكبر عملية رشوة في التاريخ بمئات الملايين من الدولارات لوسائل مرئيّة، ومسموعـة، ولأقـلام المنافقين، للقيـام بأوسع عملية تزوير في التاريخ، ولممارسة أقذر دعارة إعلامية، لتجميـل جرائم طغيـانهم على أمـّتنا.
هل من المنطـق أن نسمح لخداع النفس أن يتلاعب بعقولنا، فتصدّق بأنَّ أولئك الساسة قد تحولوا فجأة إلى ملائكة! وأنهم لن يفكروا بالتآمـر من جديد على شعوبـنا، لإعادتها إلى قمقم التبعيّة، وقفص العبوديّة؟!!
مهـلا أيها العقـلاء، إن كنتم نسيتم تاريخهـم، فلنذكركـم بما هو قريب، فهؤلاء الوحوش البشريـّة، قـد تركوا -أمام أعيننا- العراق وراءهم بعد تدميرها، منهوبة تمـاما منهم، ومن قِبَــل خونتهم، حتى صارت مشاريع إعادة إعمار العـراق، مضـرب المثـل، في أنها أكبر عملية سطو في التاريخ، لم تـدع العراق وراءها إلاَّ مليئا بالفقر، والأمراض، والتخلُّف.
وقـد جعلوا أفغانسـتان أكثر مناطق العالم تخمة بالأفيـون، ومازادوها إلاّ بؤسـا، وشقـاءَ. لا.. لن نتجاهل، أو ننسـى، ولن تغيـب عن أذهاننا هذه الحقيقة، ونحـن نصنع تاريخنا المعاصر الوضـاء بهذه الثورات المباركـة.
ولهذا يجب أن نبقـي نصب أعيننا دائما، أنّ أهـم ثلاثـة أهـداف في المرحلة المقبـلة هـي:
- حماية الثـورات الناجحـة من المؤامـرات عليها.
- وإبقـاء قطار الثـورات المنطلقة في مسيرها حتى تنجـح.
- وإشعال جذوة الثورة في بقية الرقعة العربية حتى تعلو نارها.
وذلك:
1ـ بالتحرُّك السريع لفضح مخططات الالتفاف على مكاسب الثورة، قبل أن تتسـرَّب إلى الوعـي الجمعـي.
2ـ وتسليط الأضواء على خفافيش الظـلام المختفية وراء تلك المخططات الخبيثـة لتخطف تلك الأضـواء أبصارَها، وتحـرق أجسادَها، سواء التي تنطـلق من عمالة مغلفـة بالدين، من مناصب الفتوى (المزيفة)، كالتي تجعل الثورة خروجا على (مقـام السلطان، وإمام الزمـان)! وعمالة غيرهـم من سائر أسـراب المعروضين (للاستئجـار)!
3ـ وإبقاء مستوى التنسيق بين الثائرين من جميع التوجُّهات على أعلى كفاءه، وأكفـأ أداء.
4ـ والحفاظ على وسائل الثورة، وعلى رأسها التظاهر السلمي، على أهبة الاستعداد، وفي حالة تعبئة مستـمرة.
وجماع ذلك كلِّه، يكـون بنشـر ثقافة الثورة المتمثـلة في مثلث:
السلطة للشعب وحقوقه دونها الدماء، والحرية أولاً، والكرامـة فوق كل اعتبار.
ويا معشـر الثائريـن: إنَّ (ربا الفسـاد السياسي) في عالمنا العربي، قد تراكم عبـر عقود طويلة، حتـى بلغ عنـان السمـاء، وإنـَّه مادام ثمة (عسكر) تتلاعب بعقولهم أحلامُ السلطة المطلقة، ومادام ثمة نفـاق لا يحسن سوى التكسُّب بـه لذوي السلطة؛ فإنَّ الربيـع العربـي يبقى مهدداً، وبحاجة إلى إحاطتـه بحسن النظـر، وسوقـه بدهاء الحذِر، حتى يولد في عالمنا العربـي جيل نظيف تمامـا من كلِّ أدواء الحقبة الماضية (حقبة العبوديـة للأنظمـة).
جيـل يعي بأنَّ ثمة ثلاثـة فروق بين الشعوب، والبهائـم:
أحدها: أنَّ الشعوب هي السلطة، وهي تختار حاكمها، وتعزله إذا فشـل، والمواطن هو الأعلى رتبـة في سلّم الحكم الراشـد.
والثاني: أنَّ حقوق الشعوب استحقاق شرعـي لها، سابق لكلِّ سلطة، وليس مكرمة من مالك القطـيع، ولا هـي منـَّة من زعيـم!
والثالث: أنّ الكرامة عند الشعوب فوق كلّ اعتبار، وأهـم من البطون!
وقد ذكرنا فيما مضى نصوص الشريعة العلية، من الآيات، والأحاديث النبوية التي تقرّر هذه الحقائق الإنسانية العظيـمة، وترسمها خطوطا عريضـة لهذه الحضارة الإسلامية المشـرقة العادلـة.
فإذا وُلـد فينا هذا الجيل، جيل الثورة الطاهـر، واستغلظ، وأعجـب قادةَ الثورة استواؤُه على سوقه. فاعلمـوا حينئـذٍ أن لا رجعـة إلى حقبة الضياع، وسنوات التيه، وعقـود الذلّ، والـرقّ، إلى أن يرث الله الأرض، ومن عليها، بإذن الله تعالى.
والله الموفق، وهو حسبنا، عليه توكـّلنا، وعليه فليتوكـّل المتوكـّلون.
20/11/2011 م
حامد بن عبد الله العلي
أستاذ للثقافة الإسلامية في كلية التربية الأساسية في الكويت،وخطيب مسجد ضاحية الصباحية
- التصنيف:
- المصدر: