رُوحُ العبوديَّة في مُناخات الحريَّة
لم تدعُ شريعة سماويَّة إلى الحريَّة كما دعت إليها شريعة الإسلام، ولم تتحقَّق نعمة الحريَّة للكثير من المُستَعبدين رجالاً ونساء تحت ظروف القهر ومعاناة الإذلال كما تحقَّق ذلك في تاريخ الدولة الإسلاميَّة عبر مرِّ الدهور وكر العصور.
ولم يكن في إمكان الدول الغربيَّة المُعاصرة التي تزعم أنَّها رائدة الحريَّة أن تُحقِّق لشعوبها حالة الرفاه والنمو الاقتصادي، والأمن الحياتي على أعراضهم وأموالهم وأنفسهم وعقولهم، كما تحقَّق ذلك في العديد من العصور الإسلاميَّة،التي عدل كثير من حُكَّامها فأمنوا على أنفسهم، وأمنت مُجتمعاتهم حتَّى صاح من ليس منهم في أحد خلفاء المسلمين: عدلت فأمنت فنمت.
لكنَّ من أغلق على قلبه مفاتيح الولوج لفهم كتاب الله جلَّ وعلا ستتعقد لديه الأفكار في فهم كلام الواحد القهَّار، وسيظنُّ أنَّ كلام الله تعالى ما هو إلا داع للعبوديَّة فحسب -كما يظنُّه بعضهم فعلًا- دون مراعاة مُناخات الحريَّة! بل قد يفترضون وجود تضاد وتعارض بين الحريَّة والعبوديَّة، ولو أنَّه أجال بصره في كتاب الله تعالى لوجد فيه دلائل بيِّنة على أنَّ عبادة الله تعالى لن تنمو إلا بالجو الصحي البعيد عن حالة الإرهاب الفكري والقمع الديني.
• لن ننعم بعبوديَّة الله إلاَّ بوجود نعمة الحريَّة!
إنَّنا إذ نقف وقفة تدبر أمام قوله تعالى : {يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ آَمَنُوا إِنَّ أَرْضِي وَاسِعَةٌ فَإِيَّايَ فَاعْبُدُونِ} [العنكبوت:56]، نلحظ أنَّ الله تعالى ربط بين من أراد عبادته وإقامتها أن يتخيَّروا مكاناً في أرضه الواسعة وأماكنها الآمنة؛ لكي يتمكَّنوا من إقامة عبادتهم فيها على أتم ما يرام وأحسن ما يُراد.
وقد تصل المسألة لدرجة خطرة في جانب الاعتقاد، إن لم يستطع العبد ممارسة الشعائر أبدًا فيجب عليه الهجرة من تلك الديار إلى ديار أخرى يقيم فيها عبادة الله تعالى، ولقد حكم الله عز وجل على المؤمنين المضطهدين في أرضهم، ولا يستطيعون إقامة شعائرهم، ثم لا يهاجرون إلى بلاد آمنة، بأنهم ظالمين لأنفسهم فقال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ قَالُوا فِيمَ كُنْتُمْ قَالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الْأَرْضِ قَالُوا أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا فَأُولَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَسَاءَتْ مَصِيرًا} [النساء:97].
لقد حثَّ الله تعالى عباده على القيام بعبوديّته، ثمَّ امتنَّ عليهم بأن هيَّأ لهم مُناخ الحريَّة الملائمة للقيام بعبوديَّته تعالى، فالله تعالى قد أطعمهم من الجوع وآمنهم من الخوف، فليس لهم إلاَّ القيام بعبادته تعالى، فقال: {فَلْيَعْبُدُوا رَبَّ هَذَا الْبَيْتِ . الَّذِي أَطْعَمَهُمْ مِنْ جُوعٍ وَآَمَنَهُمْ مِنْ خَوْفٍ} [قريش:3-4].
لقد لفت نظري وأنا أتأمَّل في أسرار آيات الذكر الحكيم، أنَّ من دعاء إبراهيم عليه الصلاة والسلام قوله: {رَبِّ اجْعَلْ هَذَا الْبَلَدَ آَمِنًا وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الْأَصْنَامَ} [إبراهيم:35]، فلقد قدَّم خليل الرحمن وأب الأنبياء إبراهيم عليه الصلاة والسلام دعاء الله تعالى بأن يرزق مكَّة الأمن والأمان، ثمَّ دعا الله تعالى عَقِبَ ذلك بأن يرزقه التوحيد وأن يُجنِّبه الشرك وعبادة الأصنام؛ لأنَّ الأمن هو أُسُّ الحياة، وسبيل للعيش على أرض الحياة، فلو عبد الناس ربَّهم وهم خائفون ولم يتحقَّق لهم الأمن في حياتهم، لما شعروا بلذَّة العبادة، وحلاوة الإيمان؛ لأنَّه لن يتحقَّق توحيد الله وعبادته حينما يشعر الناس بأنَّهم خائفون.
وحينما زعم بعض الناس عند رسول الله أنَّهم لا يستطيعون عبادة الله تعالى لأنَّهم قد يُتخطَّفون من أرضهم، وأنَّهم يذوقون الذل والاستعباد عند أهل الاستبداد في ذلك العصر، بينَّ تعالى أنَّ الحرم أمان لكل خائف ولن يشعر أحد فيه بالجوع والظمأ؛ لأنَّ خيرات البلاد تجبى إليه، فقال تعالى على ألسنة أولئك المعرضين عن الإيمان برسول الله: {وَقَالُوا إِنْ نَتَّبِعِ الْهُدَى مَعَكَ نُتَخَطَّفْ مِنْ أَرْضِنَا أَوَلَمْ نُمَكِّنْ لَهُمْ حَرَمًا آَمِنًا يُجْبَى إِلَيْهِ ثَمَرَاتُ كُلِّ شَيْءٍ رِزْقًا مِنْ لَدُنَّا وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ} [القصص:57].
إنَّ ذلك يُشعرنا أنَّ الله تعالى لا يرضى لعباده تذوق المذلة في أجواء الإيمان وعبوديَّة الرحمن، وهم يُعانون من الكبت لحريتهم في عدم قيامهم بعبوديَّته تعالى، فالحريَّة للإنسان متعلقة بعبادة الرحمن، وحريَّة البشر تستلزم عبادة الرحمن، وعبادته تعالى تضمن لبني الإنسان حُريَّتهم، وكل حريَّة أنتجت جواً يعيش الناس فيه أحراراً في كل شيء إلاَّ في مجال عبوديتهم لربهم تبارك وتعالى فإنَّها حريَّة مُزيَّفة مهما كانت!
نعم قد يصبر المؤمن على الأذى في سبيل الله، ويتألَّم عندما يعاني من مرارة الحرمان من عبودية الرحمن تحت سطوة الجلاد، وسيبقى ثابتاَ شامخاً كالجبال الرواسي يهتف: (أحد أحد، فرد صمد)، لكنَّه حينما تُتاح له فرصة الهجرة في سبيل الله، فلا محالة سيخرج من تلك الديار، ولو كانت أحب البلاد إليه، فحب البلاد ليس أثمن من حب رب البلاد الذي أسكننا فيها وجعلها لنا مستقراً ومتاعاً إلى حين؛ لكي نعبد ربنا فيها ثمَّ نلاقيه ونرجع إليه في الحياة الأبديَّة السرمديَّة الخالدة في جنَّة الخلد.
لقد هاجر صحابة رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم بعد أن صبروا وصابروا تحت وقع التعذيب على أجسادهم بتهمة : (عبادة الرحمن والكفر بالأوثان)، لكنَّهم حينما رأوا أنَّ الوضع لم يكن متاحًا لعبادة الله تعالى، هاجروا هجرتين فمنهم من هاجر من بلاد الكفر إلى بلاد الإسلام (مكة إلى المدينة)، ومنهم من هاجر من دار الخوف إلى دار الأمن (مكة إلى الحبشة ثمَّ إلى المدينة)، مع أنَّ ملك الحبشة يومئذٍ كان كافراً لكن مزيته أنَّه عادل في حكمه لا يُظلم عنده أحدا، وحينما التقى المسلمون بالنجاشي الذي لم يؤمن بالإسلام بعد، والتقى عدل الإسلام مع عدل الإنسان، غلب عدل الإسلام ذلك الإنسان العادل ـ فأعلن أن لا إله إلا الله وأنَّ محمداً رسول الله.
ورحم الله النجاشي! فلقد تميَّزت مُدَّة حُكمه بالحريَّة الحقيقيَّة التي تسمح للحق أن ينتشر، ولا ترتضي للباطل أن ينتشر ولو كان ذلك باسم الحريَّة، فلا حريَّة متفلتة، إنما هي حرية العدل والانضباط، والنظام والارتباط بكل مصلحة حقيقيَّة لبني الإنسان.
إنَّ من عبد ربَّه حقَّ العبادة، سيرى كفاية الله له في ذلك ومُباركته في رزقه حينمما يسعى لتطلُّبه، وسيشهد أنَّ أسباب الرزق ستتيسَّر له بما لم يخطر على باله، وذلك حينما يُقيم عبادة الله تعالى كما يريد رب العباد لا كما يُريد العباد، فالله تعالى ليس بحاجة لنا، بل نحن عباده ونحن أحوج ما نكون إليه: {يا أَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ} [فاطر:15].
وفي كتاب الله من الأسرار اللطيفة، فانتبه للربط العجيب بين غاية الرحمن في خلقه للجان والإنسان: (تحقيق العبادة)، وذِكر الرزق بعد ذلك ما يُجَلِّي لك أصل المسألة، بأنَّ الله تكفَّل لمن عبده بأن يرزقه حينما يُحقق عبوديَّته، فلقد قال الله تعالى: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ . مَا أُرِيدُ مِنْهُمْ مِنْ رِزْقٍ وَمَا أُرِيدُ أَنْ يُطْعِمُونِ . إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ} [الذاريات:56-58].
• مآلات الإعراض عن عبوديَّة الله:
وفي مقابل ذلك نلحظ أنَّ المجتمع الذي أعرض عن عبادة الله، وبدأ يتفلَّت من قيود الشرع، فإنَّه مع بداية تفلته عن دستور الإسلام يبدأ الخلل يسري ويسير إلى دولة الأمن والأمان، ويبدأ اقتصاده بالتدهور والضعة، وقد لا يشعر الناس به في ذلك الوقت لكنَّ مزيدًا من السنوات، وجريان نواميس الله الكونية القدرية في هذه الأرض التي أعرض أهلها عن طاعة الله، فستبدأ كفَّة الميزان تتهاوى، حتى تصل تلك البلاد وأهلها إلى الشعور الحتمي بالخوف والجوع، ولا تنأ عن مطالعة هذه الآيات ففيها توضيح لمرادنا فلقد قال تعالى: {وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا قَرْيَةً كَانَتْ آَمِنَةً مُطْمَئِنَّةً يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَدًا مِنْ كُلِّ مَكَانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللَّهِ فَأَذَاقَهَا اللَّهُ لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ بِمَا كَانُوا يَصْنَعُونَ} [النحل:112]؛ لأنَّهم أعرضوا عن شكر نعمة الله التي أنعم بها عليهم من الأمن والأمان، والشبع وعدم الجوع، وجحدوا عبادة الله تعالى، ولربَّما أرسل الله لهم الآيات والنذر لعلَّهم يستيقظوا ويرْعَوُوا عن غيِّهم، كما قال تعالى : {وَلَا يَزَالُ الَّذِينَ كَفَرُوا تُصِيبُهُمْ بِمَا صَنَعُوا قَارِعَةٌ أَوْ تَحُلُّ قَرِيبًا مِنْ دَارِهِمْ حَتَّى يَأْتِيَ وَعْدُ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ لَا يُخْلِفُ الْمِيعَادَ} [الرعد:31]، فأصابهم الله بسيئات ما كسبوا، والله لا يظلم الناس شيئاً، ولهذا يقول تعالى عنهم: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ بَدَّلُوا نِعْمَةَ اللَّهِ كُفْرًا وَأَحَلُّوا قَوْمَهُمْ دَارَ الْبَوَارِ . جَهَنَّمَ يَصْلَوْنَهَا وَبِئْسَ الْقَرَارُ} [إبراهيم:28-29].
وتأمل قوله تعالى: {لَقَدْ كَانَ لِسَبَإٍ فِي مَسْكَنِهِمْ آَيَةٌ جَنَّتَانِ عَنْ يَمِينٍ وَشِمَالٍ كُلُوا مِنْ رِزْقِ رَبِّكُمْ وَاشْكُرُوا لَهُ بَلْدَةٌ طَيِّبَةٌ وَرَبٌّ غَفُورٌ . فَأَعْرَضُوا فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ سَيْلَ الْعَرِمِ وَبَدَّلْنَاهُمْ بِجَنَّتَيْهِمْ جَنَّتَيْنِ ذَوَاتَيْ أُكُلٍ خَمْطٍ وَأَثْلٍ وَشَيْءٍ مِنْ سِدْرٍ قَلِيلٍ. ذَلِكَ جَزَيْنَاهُمْ بِمَا كَفَرُوا وَهَلْ نُجَازِي إِلَّا الْكَفُورَ} [سبأ:15-17]، وصدق الله : {وَهَلْ نُجَازِي إِلَّا الْكَفُورَ}؟!
إذا الإيمان ضاع فلا أمان*** ولا دنيا لمــن لم يحي دينا
ومن رضي الحياة بغير دين*** فقد جعل الفناء لها قرينـا
إنَّه لا يُمكن أن يكون هنالك سبب حقيقي وجوهري لحالة سقوط الدول في ثُلاثي الخراب: الفقر والجهل والخوف؛ إلاَّ لإعراضهم عن العمل بما أنزل الله، ولو أنَّهم رجعوا إلى ربهم لبارك الله لهم في مالهم ورزقهم، فلقد قال تعالى: {وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْكِتَابِ آَمَنُوا وَاتَّقَوْا لَكَفَّرْنَا عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَلَأَدْخَلْنَاهُمْ جَنَّاتِ النَّعِيمِ . وَلَوْ أَنَّهُمْ أَقَامُوا التَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ مِنْ رَبِّهِمْ لَأَكَلُوا مِنْ فَوْقِهِمْ وَمِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ مِنْهُمْ أُمَّةٌ مُقْتَصِدَةٌ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ سَاءَ مَا يَعْمَلُونَ}[المائدة:65-66]، ويقول تعالى: {وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آَمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ وَلَكِنْ كَذَّبُوا فَأَخَذْنَاهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ} [الأعراف:96].
أمَّا من تاب لربه وأناب، واتقى ربَّه واستغفره، فذلك كفيل لعودة النعم عليه وإغداقها، فالله تعالى يقول: {فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّارًا . يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَارًا . وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَيَجْعَلْ لَكُمْ جَنَّاتٍ وَيَجْعَلْ لَكُمْ أَنْهَارًا} [نوح:10-12]، ويقول تبارك وتعالى: وَمَنْ {يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا . وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ} [الطلاق:2-3].
• واجب المؤمنين بعد التمكين:
يقول الله تعالى: {الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآَتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ} [الحج:41].
عندما يُيسِّر الله تعالى لعباده المؤمنين القيام على شؤون العباد والبلاد، فعليهم بعد شكر الله تعالى على هذه النعمة التي أورثهم إيَّاها، أن يُراعوا أوامر الله ونواهيه، وأن يُطبِّقوها في أرض الواقع؛ فلن يثبِّت حُكمه ويُوطِّد مُلكه إلاَّ العمل على تطبيق الشريعة وتحكيمها في كافَّة شؤون الحياة، ومن أعرض عن ذلك فسيناله غضب من الله في الدنيا، وسيختلق له الناس غضباً من نوع آخر من حيث لا يحتسب، هذا عدا غضبه تعالى في الآخرة.
إنَّ من أعمدة التمكين لهذا الدين، أن يكون قادته قائمين بمُقوِّم عظيم من مُقوِّماته، وذلك بتحقيق العدالة الاجتماعية، لكي يرى من كان في قلبه مرض باتباعه أنَّ دين الإسلام قائم على العدل، وتأمين الناس على أرواحهم وممتلكاتهم، فيدعوهم ذلك ويحدوهم الحادي لاستطابة حُكم أهل الإيمان حينما رأوا أنَّ بمجيئهم قد حلَّ الأمن والأمان، بتحقيق العدل بين كافَّة الناس، ومن جميل ما قاله والي حمص عمير بن سعد رضي الله عنه في زمن خلافة عمر بن الخطاب رضي الله عنه: "لا يزال الإسلام منيعًا ما اشتد السلطان، وليست شدة السلطان قتلًا بالسيف أو ضربًا بالسوط ولكن قضاءً بالحق وأخذًا بالعدل".
وكتب عمر بن عبد العزيز إلى أحد ولاته: "فقد فهمت كتابك، وما ذكرت أنّ مدينتكم قد خربت، فإذا قرأت كتابي هذا فحصّنها بالعدل، ونقّ طرقها من الظلم فإنّه معمرها، والسلام".
إنَّ تحقيق معنى العدل والقسط والبر مع المسلمين وغير المسلمين، وربطه بالإسلام، وأنَّ هذه القِيم جاءت بها أوامر شرعية، سيهيء القلوب جُلَّها ولا أبالغ إن قلت كُلَّها للتمسُّك بتحقيق الشريعة، حيث يرونها هي الشرعية والشريعة في آن واحد للعيش تحت رايتها والتنعم برفاهيتها.
إنَّ من استلم زِمام الأمور، ورأى أنَّه ليس بتلك القدرة الكافية في التوطيد لحكم الله في الأرض، فيسعه أن يعمل بما يكلفه الله تعالى على قدره وطاقته ووسعه الصادق، فالتمكين في البلاد ليس مجرد إمساك زمام الأمور فيها، وكون الشخص رئيساً للبلاد والعباد فحسب والكل يتربص بهم من الشرق والغرب ومن الجبهة الداخلية،
بل إنَّ التمكين في البلاد هو القدرة على تطبيق شريعة الله تعالى كاملة غير مجتزأة مطلقًا، وهو الواجب الذي لا ريب فيه في حالة التمكين، أمَّا إن كان الأمر لم يكن على درجة التمكين، فعليه على الأقل أن يقوم بتوطين الناس على حب هذا الدين، والعمل بالتدرج لتطبيق شريعة رب العالمين، بالتزامن مع خطط الإصلاح والتغيير في مجال إدارة البلاد في تأمين الناس على أرواحهم، وتذليل الصعوبات لديهم في سبل العيش الكريم والإصلاح الاقتصادي العام.
إنَّ المُسلم المُعاصر وهو يُطبق شرع الله تعالى بشكل متدرج بناء على خطَّة زمنيَّة قام بدراستها مع أهل الحل والعقد والمشورة، فإنَّه وإن كان سيعاني من جرَّاء ذلك غضب المنافقين والكافرين ومكائدهم ومؤامرتهم، إلاَّ أنَّه حينما يعطي شعبه ما امتنَّ الله به عليهم لتحقيق عبوديته وهما : تحقيق الأمن، وتحسين أمور معيشتهم، فإنَّ الله تعالى سيسخّرهم لنصرته وتأييد حكمه، ولو كره الكافرون والمنافقون، فإنَّ من أحسن التعامل مع سنن الله في الكون والحياة ونواميس الله القدرية بما أراد الله منه شرعاً وديناً فلن يضيِّعه الله تعالى أبداً، فالذي لا يلبس إيمانه بظلم سواء أكان ذلك من قبيل الشرك بالله، أو تعميم الظلم على العباد وإبقاء حالات الظلم التي تصل لدرجة الكفر بالله، فالمؤمن إن تفادى ذلك كان حقًا أن ينصر الله تعالى، كيف وهو القائل: {الَّذِينَ آَمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُولَئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ} [الأنعام:82].
لقد وعد الله أهل الإيمان حيث استخلفهم مِمَّن كانوا قبلهم من أهل الظلم والكفران بأنَّه سيُمكن لهم دينهم، وأنَّ الخوف سيزول ويحل مكانه الأمن التام، ليبقى أهل الإيمان دوماً في حالة العبوديَّة لله، فقال تعالى: {وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آَمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِي لَا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا وَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} [النور:55].
يقول الإمام ابن كثير عند هذه الآية: "هذا وعد من الله تعالى لرسوله صلوات الله وسلامه عليه بأنه سيجعل أمته خلفاء الأرض، أي أئمة الناس والولاة عليهم، وبهم تصلح البلاد، وتخضع لهم العباد، وليبدلنهم من بعد خوفهم من الناس أمناً وحكماً فيهم".
إنَّ سنن الله تعالى لا تحابي أحدًا، فالقانون الإلهي منطبق على جميع الناس برهم وفاجرهم، ومن أعرض عن عبادة ربه بعد أن أورثه الله أرضه فسيناله قانون الجزاء من الله رب العالمين، ولهذا فإنَّ إهلاك الطغاة ومجيء أهل الإيمان بعدهم، ما هو إلاَّ اختبار وابتلاء وامتحان لهم ولإيمانهم بعد أن وُفِّقوا للجلوس على كرسي الحكم، فالله تعالى مراقب أعمالهم ناظر إليها بعد إهلاك عدوهم، وتأمل قول موسى عليه الصلاة والسلام لقومه: {إِنَّ الْأَرْضَ لِلَّهِ يُورِثُهَا مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ . قَالُوا أُوذِينَا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَأْتِيَنَا وَمِنْ بَعْدِ مَا جِئْتَنَا قَالَ عَسَى رَبُّكُمْ أَنْ يُهْلِكَ عَدُوَّكُمْ وَيَسْتَخْلِفَكُمْ فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ} [الأعراف:128-129].
إنَّ من أهم العوامل التي يجب العمل بها بعد تحقيق الأمن ونصر الله ورزقه لعباده المؤمنين، أن يشكروا الله تعالى على نعمه الجليلة التي أنعم بها عليهم، كما قال عزَّ وجلَّ: {وَاذْكُرُواْ إِذْ أَنتُمْ قَلِيلٌ مُّسْتَضْعَفُونَ فِي الأَرْضِ تَخَافُونَ أَن يَتَخَطَّفَكُمُ النَّاسُ فَآوَاكُمْ وَأَيَّدَكُم بِنَصْرِهِ وَرَزَقَكُم مِّنَ الطَّيِّبَاتِ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} [الأنفال:26].
إنَّ صبر المؤمنين على عملية التغيير في واقعهم النكد الذي تأثَّر بأوضار الجاهليَّة، وعدم استعجالهم في تنفيذ أوامر الله، بل إخضاعها لمجريات سُنن الله في الكون والحياة، مع عرق الجِباه وجدِّ الأُباة للتمكين لهذا الدين ومنازلة الأقدار الكونيَّة الشرعية بأوامر الله الشرعيَّة الدينيَّة، سيهيئ لهم ما أرادوه وطمحوا إليه من الأمن والأمان مع شرط البعد عن الاستعجال، فمن تعجَّل شيئًا قبل أوانه عوقب بحرمانه، ونستذكر حديث الصحابي الجليل خباب بن الأرَتّ رضي الله عنه قال: «شكونا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو متوسد بردة له في ظل الكعبة فقلنا ألا تستنصر لنا ألا تدعو لنا ؟ فقال قد كان من قبلكم يؤخذ الرجل فيحفر له في الأرض فيجعل فيها ثم يؤتى بالمنشار فيوضع على رأسه فيجعل نصفين ويمشط بأمشاط الحديد ما دون لحمه وعظمه، ما يصده ذلك عن دينه والله ليتمن الله هذا الأمر حتى يسير الراكب من صنعاء إلى حضرموت لا يخاف إلا الله والذئب على غنمه ولكنكم تستعجلون» (أخرجه البخاري) .
إنَّ الاستقامة على تحقيق منهج الإسلام بكليَّته، وتطبيقه على أهل البلاد المحكومة بشِرعة الإسلام، سيكون من نتائجها المُبهرة وفوائدها الزاخرة الأمن والفرح بفضل الله وبنعمة تحقيق وتطبيق شريعته، كما قال ربّنا -جلّ وعلا-: {إِنَّ ٱلَّذِينَ قَالُواْ رَبُّنَا ٱللَّهُ ثُمَّ ٱسْتَقَـٰمُواْ تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ ٱلْمَلَـئِكَةُ أَلاَّ تَخَافُواْ وَلاَ تَحْزَنُواْ وَأَبْشِرُواْ بِٱلْجَنَّةِ ٱلَّتِى كُنتُمْ تُوعَدُونَ} [فصلت:30]، وكما قال سبحانه: {أَلا إِنَّ أَوْلِيَاء ٱللَّهِ لاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ ٱلَّذِينَ ءامَنُواْ وَكَانُواْ يَتَّقُونَ} [يونس:62-63].
- التصنيف:
- المصدر: