إلى متى سنخلف الوعد... ؟!
إياك أن تأخذك العزة بالإثم، وأن تستنكف وتستكبر عن قبول النصيحة، قال ابن القيم -رحمه الله-: "أركَانَ الكفر أربعة: الكبر، والحسد، والغضب، والشهوة؛ فالكبر يمنعه الانقياد، والحسد يمنعه قبول النصيحة وبذلها، والغضب يمنعه العدل، والشهوة تمنعه التفرغ للعبادة"..
- التصنيفات: النهي عن البدع والمنكرات -
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛
فإننا نعاني بشدة في هذه الآونة من ظاهرة انتشرت بصفة عامة بين الناس -إلا من رحم الله-، والذي يدمي القلب أنها انتشرت أيضًا وسط بعض أبناء التيار الإسلامي حتى أصبحت هذه الصفة ملازمة لهم، وشهد بذلك القاصي والداني... والعدو والحبيب... هذه الصفة هي: "خلف الوعود ونقض العهود!".
والذي أدى إلى انتشار هذه الصفة السيئة أن البعض يعاني من انفصال بين الشعائر التعبدية والسلوك، مع أن الله تعالى قرن بينهما في القرآن، فقال تعالى: {لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَالْمَلائِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّائِلِينَ وَفِي الرِّقَابِ وَأَقَامَ الصَّلاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُوا وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ وَحِينَ الْبَأْسِ أُولَئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ} [البقرة: 177]، فقرن الله تعالى بين الإيمان والصلاة والزكاة والوفاء بالعهد.
وقال تعالى: {الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلا رَفَثَ وَلا فُسُوقَ وَلا جِدَالَ فِي الْحَجِّ} [البقرة: 197]. فالحج ليس مجرد مناسك، ولكن سلوك حسن.
وكذلك الصيام: جاء في الحديث: «رُبَّ صَائِمٍ حَظُّهُ مِنْ صِيَامِهِ الْجُوعُ وَالْعَطَشُ، وَرُبَّ قَائِمٍ حَظُّهُ مِنْ قِيَامِهِ السَّهَرُ» (رواه أحمد وابن ماجه، وصححه الألباني).
فعُلِم من ذلك: أن المدار في الحقيقة ليس على العمل فقط، فكم من إنسان عمل أعمالاً كثيرة وليس له من عمله إلا التعب... فلم تنفعه؟!
وكم من إنسان عمل أعمالاً قليلة قُبِلت فنفعه الله بها؛ ولهذا قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «مَنْ لَمْ يَدَعْ قَوْلَ الزُّورِ وَالعَمَلَ بِهِ، فَلَيْسَ لِلَّهِ حَاجَةٌ فِي أَنْ يَدَعَ طَعَامَهُ وَشَرَابَهُ» (رواه البخاري)، ويؤيد ذلك حديث أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: «قَالَ رَجُلٌ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنَّ فُلانَةَ يُذْكَرُ مِنْ كَثْرَةِ صَلاتِهَا، وَصِيَامِهَا، وَصَدَقَتِهَا غَيْرَ أَنَّهَا تُؤْذِي جِيرَانَهَا بِلِسَانِهَا، قَالَ: هِيَ فِي النَّارِ. قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، فَإِنَّ فُلانَةَ يُذْكَرُ مِنْ قِلَّةِ صِيَامِهَا، وَصَدَقَتِهَا، وَصَلاتِهَا، وَإِنَّهَا تَصَدَّقُ بِالأَثْوَارِ مِنَ الأَقِطِ، وَلا تُؤْذِي جِيرَانَهَا بِلِسَانِهَا، قَالَ: هِيَ فِي الْجَنَّةِ» (رواه أحمد وابن حبان، وصححه الألباني).
والله تعالى شكر لامرأة بغي وجدت كلبًا يلهث، فنزلت وملأت خفها من البئر فناولته فشرب حتى ارتوى، فشكر الله لها ذلك وأدخلها الجنة، وهي بغي! والله تعالى أدخل امرأة النار في هرة حبستها حتى ماتت، فلا هي أطعمتها، ولا هي تركتها تأكل من خشاش الأرض.
فانظر إلى خطورة السلوك حتى مع الحيوان، ومن العجيب أن البعض حصر الالتزام في بعض الشعائر التعبدية، ولم يأخذ الإسلام بشموله وكماله، ولن تقوم الأمة من مرقدها إلا بتحقيق أسس وتعاليم الإسلام بشمولية وواقعية على أرض الواقع... لا بد أن نتمسك بالمنهج كاملاً: العقيدة، والعمل، والأخلاق والسلوك...
والوفاء بالوعد ذكره الله في القرآن، بل وأمر به فقال الله تعالى: {وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللَّهِ إِذَا عَاهَدْتُمْ وَلا تَنْقُضُوا الأَيْمَانَ بَعْدَ تَوْكِيدِهَا وَقَدْ جَعَلْتُمُ اللَّهَ عَلَيْكُمْ كَفِيلاً إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا تَفْعَلُونَ} [النحل: 91].
وقال عز وجل: {وَأَوْفُوا بِالْعَهْدِ إِنَّ الْعَهْدَ كَانَ مَسْئُولاً} [الإسراء: 34]. قال صاحب الظلال -رحمه الله-: "يسأل الله -جلَّ جلاله- عن الوفاء به، ويحاسب من ينكث به وينقضه".
وقال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لا تَفْعَلُونَ. كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لا تَفْعَلُونَ} [الصف: 2-3]. (كَبُرَ) أي: عظمَ. (مقْتًا): المقت أشد البغض.
وفي الآية: الحث على الوفاء بالعهد، والنهي الأكيد عن الخلف في الوعد، إذن لا ينبغي للمسلم أن يقول ما لا يفعل، لا يقول قولاً إلا وقد نوى وجزم أن يفعل ما قد قاله، وقد وأثنى الله تعالى على إسماعيل -عليه السلام- فقال: {اذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِسْمَاعِيلَ إِنَّهُ كَانَ صَادِقَ الْوَعْدِ وَكَانَ رَسُولاً نَبِيًّا. وَكَانَ يَأْمُرُ أَهْلَهُ بِالصَّلاةِ وَالزَّكَاةِ وَكَانَ عِنْدَ رَبِّهِ مَرْضِيًّا} [مريم: 54-55].
وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أَرْبَعٌ مَنْ كُنَّ فِيهِ كَانَ مُنَافِقًا خَالِصًا، وَمَنْ كَانَتْ فِيهِ خَصْلَةٌ مِنْهُنَّ كَانَتْ فِيهِ خَصْلَةٌ مِنَ النِّفَاقِ حَتَّى يَدَعَهَا: إِذَا اؤْتُمِنَ خَانَ، وَإِذَا حَدَّثَ كَذَبَ، وَإِذَا عَاهَدَ غَدَرَ، وَإِذَا خَاصَمَ فَجَرَ» (متفق عليه).
وقال النبي صلى الله عليه وسلم: «آيَةُ المُنَافِقِ ثَلاَثٌ: إِذَا حَدَّثَ كَذَبَ، وَإِذَا وَعَدَ أَخْلَفَ، وَإِذَا اؤْتُمِنَ خَانَ» (متفق عليه).
فالغدر بالعهود من صفات المنافقين، وحرف (إِذَا) يفيد الاستمرار، يعني: هذا الإنسان معلوم عند الناس أنه لا يفي بوعد، بل إذا كان بيننا وبين الكفار عهد فلا يجوز لنا أن نغدر به، بل يجب الوفاء مع الكفار المعاهَدين، فعن حذيفة -رضي الله عنه- قال: «مَا مَنَعَنِي أَنْ أَشْهَدَ بَدْرًا إِلا أَنِّي خَرَجْتُ أَنَا وَأَبِي حُسَيْلٍ، قَالَ: فَأَخَذَنَا كُفَّارُ قُرَيْشٍ قَالُوا: إِنَّكُمْ تُرِيدُونَ مُحَمَّدًا؟ فَقُلْنَا: مَا نُرِيدُهُ، مَا نُرِيدُ إِلا الْمَدِينَةَ، فَأَخَذُوا مِنَّا عَهْدَ اللَّهِ وَمِيثَاقَهُ لَنَنْصَرِفَنَّ إِلَى الْمَدِينَةِ وَلا نُقَاتِلْ مَعَهُ. فَأَتَيْنَا رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَخْبَرْنَاهُ الْخَبَرَ، فَقَالَ: انْصَرِفَا، نَفِي لَهُمْ بِعَهْدِهِمْ، وَنَسْتَعِينُ اللَّهَ عَلَيْهِمْ» (رواه مسلم).
فانظروا إلى "سيد الأوفياء" صلى الله عليه وسلم... وتعلموا حقيقة الالتزام من الذي علَّم الدنيا الوفاء... كيف كان يفي بعهده ووعده حتى مع الكافرين!
فهذا نداء إلى الذين لا يوفون بوعدهم:
إنكم على خطر عظيم... لا بد أن تتخلصوا من الالتزام الأجوف، وأن تعودوا إلى حقيقة الالتزام؛ فلن تنتصروا بالخداع والغش... لن تنتصروا بأعمال ظاهرها الصلاح وباطنها الفساد، بل لا بد أن يتعمق الإيمان في قلوبكم، ويضرب بجذوره في أرض نفوسكم...
متى ستصدقون... ؟!
وإلى متى تستحلون الوسائل الملتوية وغير المشروعة؛ للوصول إلى ما تريدون؟!
هذه نصيحة لكم... عن تميم الداري -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «الدِّينُ النَّصِيحَةُ، قُلْنَا: لِمَنْ؟ قَالَ: لِلَّهِ وَلِكِتَابِهِ وَلِرَسُولِهِ وَلأَئِمَّةِ الْمُسْلِمِينَ وَعَامَّتِهِمْ» (رواه مسلم). وعن الحسن قال: "إِنَّ الْمُؤْمِنَ شُعْبَةٌ مِنَ الْمُؤْمِنِ؛ إِنَّ بِهِ حَاجَتَهُ، إِنَّ بِهِ عِلَّتَهُ، يَفْرَحُ لِفَرَحِهِ، وَيَحْزَنُ لِحُزْنِهِ، وَهُوَ مِرْآةُ أَخِيهِ، إِنْ رَأَى مِنْهُ مَا لا يُعْجِبُهُ سدَّدَهُ وَقَوَّمَهُ، وَوَجَّهَهُ، وَحَاطَهُ فِي السِّرِّ وَالْعَلانِيَةِ، إِنَّ لَكَ مِنْ خَلِيلِكَ نَصِيبًا، وَإِنَّ لَكَ نَصِيبًا مِنْ ذِكْرِ مَنْ أَحْبَبْتَ".
إياك أن تأخذك العزة بالإثم، وأن تستنكف وتستكبر عن قبول النصيحة، قال ابن القيم -رحمه الله-: "أركَانَ الكفر أربعة: الكبر، والحسد، والغضب، والشهوة؛ فالكبر يمنعه الانقياد، والحسد يمنعه قبول النصيحة وبذلها، والغضب يمنعه العدل، والشهوة تمنعه التفرغ للعبادة"، عن عبد الله بن مسعود -رضي الله عنه-: أن النبي صلى الله عليه وسلم قَال: {أَبْغَضُ الْكَلاَمِ إِلىَ اللهِ عَزَّ وَجَلّ: أَنْ يَقُولَ الرَّجُلُ لِلرَّجُلِ: اتَّقِ الله، فَيَقُول: عَلَيْكَ بِنَفْسِك} (رواه ابن منده في التوحيد والبيهقي في الشعب، وصححه الألباني).
وبعد، فكانت هذه كلمات أردت أن أذكر نفسي وإخواني بها في خضم بحر هائل، قد علت فيه أمواج الفتن.
وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.
زين العابدين كامل
22-رمضان-1433هـ 9-أغسطس-2012 م