الهيئات الخيرية السعودية بعد أحداث 11 سبتمبر.. الآثار وسبل تجاوزها
صالح بن عبد الرحمن الحصين
ربما لم يحدث في التاريخ من قبل أن كذبة بلغت من الشيوع والانتشار في وقت قصير إلى درجة أن يصدق بها المظلومون بها، وأن يشيعها أبلغ من تضرر بها في جوانب حياتهم الدينية والوطنية، وإلى درجة أن بنيت عليها قرارات دولية وقومية، ونالت أضرارها المدمرة مئات الآلاف من الأبرياء، مثل كذبة أن المؤسسات الخيرية الإسلامية وبخاصة السعودية دعمت في شكل أو آخر عن قصد أو غير قصد أنشطة إرهابية.
- التصنيفات: الواقع المعاصر -
ورقة قدمت للندوة التي عقدها مركز الرحمانية الثقافي بالغاط في 19/11/1428هـ
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله
ربما لم يحدث في التاريخ من قبل أن كذبة بلغت من الشيوع والانتشار في وقت قصير إلى درجة أن يصدق بها المظلومون بها، وأن يشيعها أبلغ من تضرر بها في جوانب حياتهم الدينية والوطنية، وإلى درجة أن بنيت عليها قرارات دولية وقومية، ونالت أضرارها المدمرة مئات الآلاف من الأبرياء، مثل كذبة أن المؤسسات الخيرية الإسلامية وبخاصة السعودية دعمت في شكل أو آخر عن قصد أو غير قصد أنشطة إرهابية.
في النسخة العربية من (لوموند دبلوماتيك) التي تنشرها صحيفة الرياض في 14 سبتمبر 2007 ورد مقـال بعنوان (أسـاطير أمـوال الإرهاب) وقـد استل من كتاب لـ I.WRATDE الباحث في معهد فليتشر للقانون والدبلوماسية في جامعة توفتس U.S.A صدر عن دار أرغون (مرسيليا ) بعنوان (الدعاية الإمبريالية والحرب المالية ضد الإرهاب) Propagande impériale et guerre financière contre le terrorsime
وجاء في هذا المقال ما يأتي: "الذي كشف مدى مصداقية الإدارة الأمريكية ليس فقط الأكاذيب حول أسلحة الدمار الشامل العراقية، بل أكثر من ذلك الأكاذيب حول تمويل الإرهاب، وفي الحالين كان التلاعب دون حدود مع قصص مختلقة سخيفة لدرجة أنه يمكن أن نتخيل أنها تأتي من بعض قصص الأطفال، ولكن اختلاقات واشنطن حول أموال الإرهاب مكنتها في الحقيقة من السيطرة بشكل أفضل على تحركات الرساميل العالمية..
-وجاء في المقال- برز مباشرة بعد 11 سبتمبر تفاهم حول موضوع تمويل الاعتداءات وباتت لائحة مبيضي الأموال مألوفة إلى حد أننا رحنا نكررها دون تفكير الشركات الواجهة، المنظمات الخيرية الإسلامية، السعوديون أصحاب المليارات، من الصحافة الشعبية إلى التقارير الجدية الصادرة عن (خزانات الأفكار) لكن لائحة المشتبه فيهم لا تتغير كثيرًا، بات الاجترار بمثابة التأكيد، ابتداءً من 2004 جرى جمع الكثير من المعلومات الجديدة من طريق الحرب المالية على الإرهاب، لكن لم يكن لها تأثير كبير على النظرة أو على السياسات المتبعة، فقامت شخصيات من الصف الأول أمثال وزير الخزانة الأمريكي السابق (بول أونيل، ومايكل شوور) الذي ترأس الخلية الافتراضية المختصة بإبن لادن في وكالة الاستخبارات المركزية بتكذيب أغلب المعتقدات الشائعة حول الحرب العالمية (للإرهاب)، وكذلك أتاح نشر تقرير لجنة 11 سبتمبر في أغسطس عام 2004 فهما أكثر وضوحًا لواقع تمويل الإرهاب، وقد ارتكز هذا التقرير على دراسة شاملة للوثائق الحكومية حول تمويل الإرهاب الواردة بصفة خاصة من أجهزة الشرطة والمخابرات والدوائر السياسية المعنية".
نشر موقع طريق الإسلام مقالًا للدكتور محمد السلومي بعنوان:Saudi Charities Support terrorism، fact or fiction؟ وظهرت ترجمة عربية لهذا المقال في موقع مجلة العصر بعنوان (المؤسسات الخيرية السعودية ودعم الإرهاب)، اختار الدكتور السلومي نصوصًا من تقرير لجنة التحقيق الأمريكية في حادث 11 سبتمبر، ورتبها وفق الترتيب المنطقي للأحداث، وإن من يقرأ هذه النصوص لا يقتنع فقط بأنه لا يوجد دليل واحد على اتهام المؤسسات الخيرية السعودية بأنها ساعدت الإرهاب أو تسرب عن طريق بعض موظفيها أي مبلغ من المال للإرهابيين، بل يقتنع بأن ذلك الاتهام كاذب.
فقد أظهرت النصوص أن الإدارة الأمريكية منذ عام 1995م أخضعت المؤسسات الخيرية السعودية للتجسس والمراقبة مستعملة في ذلك قدراتها المذهلة، وذلك بغرض اكتشاف أي احتمال بعلاقة تلك المؤسسات بالنشاط الإرهابي، وقد ازداد حرصها في ذلك بعد التفجيرات التي تعرضت لها السفارات الأمريكية في شرق أفريقيا، وبلغ هذا الحرص ذروته بعد أحداث 11 سبتمبر بغرض الحصول على معلومات تسند طلبها من المملكة العربية السعودية: تحجيم أعمال تلك المؤسسات إذ كانت المملكة تقابل ضغوط الإدارة الأمريكية في هذا الشأن بطلب تقديم معلومات تبرر استجابتها لتلك الضغوط، ولكن الإدارة الأمريكية تفشل في تقديم المعلومات، في كل مرة يطلب منها ذلك.
وقد علق الدكتور السلومي على هذه الوقائع بقوله: "عندما تكون قدرات الرقابة والتجسس قدرات خارقة، وعندما تستمر إجراءاتها لمدة طويلة، وعندما يكون الأشخاص الموضوعون تحت الرقابة لم يخطر ببالهم أنهم مراقبون فلم يتخذوا أي احتياط لإخفاء أي من حركاتهم، وعندما يكون الدافع للحصول على معلومات تسند الاتهام جديًا وملحًا، وعندما تكون النتيجة العجز الكامل عن الحصول على مثل هذه المعلومات، أليست النتيجة المنطقية لهذه المقدمات الدليل القاطع على أن الاتهام كاذب من أساسه".
بالرغم أنه لم تظهر حالة واحدة لتورط المؤسسات الخيرية الإسلامية، وبخاصة السعودية في موضوع الاتهام المشار إليه، وبالرغم من أنه لم يدن أي موظف في مؤسسة خيرية سعودية أمام قضاء عادل بتسريب أي أموال لنشاط إرهابي، بالرغم من استعمال كل الوسائل القانونية وغير القانونية، بل وغير الأخلاقية في اختطاف أو القبض على كل من يزعم الاشتباه في علاقته بالإرهاب، بالرغم من كل ذلك: فقد صار هذا الاتهام كحقيقة مسلمة في وسائل الأعلام في الغرب وعلى ألسنة السياسيين ولدى الباحثين في مراكز التفكير Think Tank.
وبعد الهزيمة السهلة والسريعة للجيش العراقي في ربيع عام 2003م أخذت الإدارة الأمريكية بنشاط محموم لإقناع الكونجرس الأمريكي ومن ثم الرأي العام المحلي والعالمي بأن الثقافة السائدة في السعودية تمثل خطرًا على العالم، وأنها تشكل بيئة خلاقة لتفريخ الإرهاب، مما يعني ضمنًا وجود المبرر القانوني والأخلاقي لاجتثاث هذا الخطر.
لقد عمدت الإدارة الأمريكية طوال ذلك العام إلى حشد الشهود من رجال الإدارة وممن تسميهم الخبراء للشهادة أمام لجان الكونجرس، وتعتبر مجموعة الشهادات في 25/سبتمبر 2003م أمام اللجنة البنكية بالكونجرس ضد تمويل الإرهاب، والمؤسسات الخيرية السعودية مثالاُ بالغ الوضوح في هذا الصدد.
في هذه المجموعة من الشهادات وغيرها من مجموعات الشهادات لم يستطع أحد الشهود أن يورد واقعة محددة واحدة بنسب فيها تسرب أموال للإرهابيين من المؤسسات الخيرية السعودية، أو واقعة واحدة يمكن تفسيرها بعلاقة المؤسسات الخيرية السعودية بالإرهاب.
الواقعة الوحيدة التي ترددت على ألسنة الشهود أن الندوة العالمية للشباب الإسلامي أقامت مؤتمرًا حضره خالد مشعل أحد رجال المقاومة الفلسطينية ومعروف أن المقاومة الفلسطينية، صنفت كحركة إرهابية.
لم يكن الأمر خاصًا بالولايات المتحدة الأمريكية فعلي سبيل المثال هذا العام 2007 صدر تقرير EUROPOL عن حوادث الهجوم الإرهابي في دول الإتحاد الأوربي في السنة الماضية 2006 وقد شمل التقرير أربعة فصول: الإرهاب الإسلامي، إرهاب الانفصاليين، إرهاب اليساريين والفوضويين وإرهاب اليمينيين، وتضمن التقرير الحديث عن تمويل الإرهاب فذكر أنه فيما عدا الإرهاب الإسلامي كان يتم تمويل الأنواع الأخرى من الإرهاب عن طريق سرقة البنوك أو السطو المسلح، أو فرض الإتاوات.
أما بالنسبة للإرهاب الإسلامي فحيث يستحيل ادعاء تمويله عن أي من هذه الطرق لأن اشتمالها على طرف آخر لا يسمح بادعاء وقوعها إذا لم تقع فعلًا، فقد ادعى التقرير أن تمويل الإرهاب الإسلامي يتم عن طريق المؤسسات الخيرية، وأموال الزكاة، بالطبع لم يستطيع التقرير أن بذكر واقعة محددة تسند دعواه.
ولكن الطريف أن التقرير أحصى حوادث الهجوم الإرهابي في تلك السنة في دول الاتحاد الأوربي فقرر أنها بلغت 498 حادثًا، حادث واحد فقط منها نسب للمسلمين هو الحادث الذي وقع في ألمانيا ونسب لشابين لبنانيين، بينما ارتكب الإرهابيون الانفصاليون 424 حادثًا واليساريون 55 حادثًا واليمينيون الباقي.
كما اعترف التقرير بأن الحادث الوحيد المنسوب للمسلمين لم ينتج عنه قتل أو تدمير، كما حصل بالنسبة لحوادث الإرهاب الأخرى، إن هذا المثال يعبر أوضح تعبير عن الاتجاه العام في أوروبا فيما يتعلق بربط المؤسسات الخيرية الإسلامية بالإرهاب.
أن حقيقة أنه لم توجد واقعة واحدة لتسرب أموال للإرهاب من مؤسسة خيرية إسلامية لم تظهر بسبب أن أحدًا لم يكلف نفسه عند سماعه الاتهام الظالم أن يسأل، ولكن هل وجدت واقعة محددة واحدة تسند الاتهام؟
هل أدين أمام قضاء عادل أي موظف من أي جنسية تابع لأي مؤسسة خيرية بتسريب مال للإرهابيين؟
لسوء حظ مجتمعاتنا فإن الإعلام المحلي في البلدان الإسلامية بدافع من الغفلة أو ضعف الحس الوطني، أو اختلال الشعور الإسلامي لم يكتف بدور الشيطان الأخرس فيتخاذل عن الدفاع عن مؤسساته الوطنية، والصدع بالحق وكشف الزيف، والوقوف في وجه الظلم، بل أخذ دور الشيطان الناطق فدأب على ترديد اتهام المؤسسات الخيرية الإسلامية بالعلاقة مع الإرهاب، ونفخ في الشائعات المغرضة حتى أصبحت فكرًا شائعًا، ورأيًا عامًا، مما أضعف ثقة الجمهور بالمؤسسات الخيرية الإسلامية، وصار الإعلام المحلي بذلك معاونًا للإثم والعدوان متحيزًا لصف أعداء الإسلام والمسلمين.
من الظواهر الاجتماعية الواقعية أن الفكرة الوهمية عندما تتردد على ألسنة الجمهور، تكسب قوتها من تردادها فيصبح لها تأثير الحقائق البديهية، وبما أن الموظفين الحكوميين هم جزء من نسيج المجتمع فمن الطبيعي أن يكونوا محكومين بمشاعر هذه (الفوبيا) ضد المؤسسات الخيرية، وأن تتنامى هذه المشاعر لديهم حتى تتحول إلى عقدة نفسية يغيب معها التفكير العقلاني المتوازن المبني على مقاييس واقعية ومعايير موضوعية، فكان من الطبيعي أن يغلوا هؤلاء الموظفون في اقتراح القيود على المؤسسات الخيرية والتوصية بالإجراءات المعوقة للعمل التطوعي.
كانت النتيجة لهذه القيود والإجراءات أن تحقن مزيدًا من الشكوك وضعف الثقة تجاه العمل الخيري في المجتمعات الإسلامية، وهكذا تم خلق -الحلقة المقيتة- الشائعات الرائجة، تدفع الموظف لاقتراح مزيد من القيود وهذه القيود تؤكد مصداقية الشائعات وتنفخ فيها وهكذا.
إن الخسائر الأخلاقية الناتجة عن هذا الوضع الشاذ في بلدان العالم الإسلامي خسائر محزنة.
وحين نستحضر في الذهن أن الاتجاهات الحديثة في قياس تقدم البلدان وتخلفها تغيرت، فبدلًا من الاتجاه السائد قديمًا في استعمال معيار دخل الفرد صار الاتجاه إلى استعمال معيار التعامل الإنساني، فكلما صار سجل البلد أنصع في حماية حقوق الإنسان ورعاية العمل التطوعي كان ذلك مؤشرًا صادقًا على درجتها في سلم التقدم الحضاري.
حينما نستحضر هذه الحقيقة، ونقف أمام حقيقة أن المملكة العربية السعودية تنفرد عن البلدان الأخرى بقيود وعوائق للعمل الإنساني التطوعي، فإننا يجب أن نعترف بأن وطننا العزيز لا يستطيع أن يعتبر هذه القيود والعوائق مادة فخر أو دليلًا على التقدم الحضاري..
هذا فضلًا عن ما تجسمه من تنكر لقيمنا الإسلامية ومبادئنا الخلقية، إن الأمر من الجسامة والجدية بحيث يحمل أي مواطن مخلص لدينه ذي ولاء صحيح لوطنه أن يكون موضع قلقه واهتمامه، ولا يبدو أنه يوجد علاج لهذا المرض العضال إلا بنفي أسبابه، وذلك بتوعية الرأي العام، وكشف الحقائق أمامه والمثابرة على إطلاعه على الوقائع.
وبالله التوفيق.