إذا سبّ الكفار الرسول صلى الله عليه وسلم فانتظروا النصر المأمول
{مَا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِنْ رِجَالِكُمْ وَلَكِنْ رَسُولَ اللَّهِ وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ وَكَانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمًا}..
أولاً: لقد أعلى الله شأن نبيه صلى الله عليه وسلم دِيناً ودنياً:
فقال تعالى في سورة الأحزاب: {مَا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِنْ رِجَالِكُمْ وَلَكِنْ رَسُولَ اللَّهِ وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ وَكَانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمًا} [الأحزاب:40]، وقال تعالى في سورة الفتح: {مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعًا سُجَّدًا يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنْ اللَّهِ وَرِضْوَانًا سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ ذَلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَمَثَلُهُمْ فِي الْإِنْجِيلِ كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآزَرَهُ فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوَى عَلَى سُوقِهِ يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ لِيَغِيظَ بِهِمْ الْكُفَّارَ وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنْهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا} [الفتح:29]، وقال تعالى في سورة البقرة: {آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ وَقَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ} [البقرة:285].
وقال تعالى في سورة الأحزاب: {إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} [الأحزاب:56]، وقال تعالى في سورة آلِ عِمران: {إِنَّ أَوْلَى النَّاسِ بِإِبْرَاهِيمَ لَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُ وَهَذَا النَّبِيُّ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاللَّهُ وَلِيُّ الْمُؤْمِنِينَ} [آل عمران:68]. وقال تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا} [الأحزاب:45]. وقال تعالى: {لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ} [التوبة:128]. وقال تعالى: {يَاأَيُّهَا النَّبِيُّ حَسْبُكَ اللَّهُ وَمَنْ اتَّبَعَكَ مِنْ الْمُؤْمِنِينَ} [الأنفال:64]. وقال تعالى: {النَّبِيُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ وَأَزْوَاجُهُ أُمَّهَاتُهُمْ.........} [الأحزاب:6].
وكرَّمه أعلى التكريم وأرفعَه صلى الله عليه وسلم:
فقال تعالى: {سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِنْ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَا إِنَّه هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} [الإسراء:1]. وقال تعالى: {الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنزَلَ عَلَى عَبْدِهِ الْكِتَابَ وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجَا} [الكهف:1]. وقال تعالى في سورة الفرقان: {تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيرًا} [الفرقان:1]. وقال تعالى في سورة الحديد: {هُوَ الَّذِي يُنَزِّلُ عَلَى عَبْدِهِ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ لِيُخْرِجَكُمْ مِنْ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَإِنَّ اللَّهَ بِكُمْ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ} [الحديد:9].
وأمَر باتباعه وطاعتِه والإيمان به صلى الله عليه وسلم:
فقال تعالى في سورة الأعراف: {فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ النَّبِيِّ الْأُمِّيِّ الَّذِي يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَكَلِمَاتِهِ وَاتَّبِعُوهُ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ} [الأعراف:158]. وقال تعالى: {وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَاحْذَرُوا فَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّمَا عَلَى رَسُولِنَا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ} [المائدة:92]. وقال تعالى: {قُلْ أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ فَإِنْ تَوَلَّوا فَإِنَّمَا عَلَيْهِ مَا حُمِّلَ وَعَلَيْكُمْ مَا حُمِّلْتُمْ وَإِنْ تُطِيعُوهُ تَهْتَدُوا وَمَا عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ} [النور:54]. وقال تعالى: {وَمَا آتَاكُمْ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ} [الحشر:7]. وقال تعالى: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا} [الأحزاب:21].
وأمَر المؤمنين بعظيم الأدب معه صلى الله عليه وسلم:
فقال تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ وَلَا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ أَنْ تَحْبَطَ أَعْمَالُكُمْ وَأَنْتُمْ لَا تَشْعُرُونَ} [الحجرات:2] وقال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يَغُضُّونَ أَصْوَاتَهُمْ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ أُوْلَئِكَ الَّذِينَ امْتَحَنَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ لِلتَّقْوَى لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ عَظِيمٌ} [الحجرات:3]. وقال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَدْخُلُوا بُيُوتَ النَّبِيِّ إِلَّا أَن يُؤْذَنَ لَكُمْ إِلَىٰ طَعَامٍ غَيْرَ نَاظِرِينَ إِنَاهُ وَلَكِنْ إِذَا دُعِيتُمْ فَادْخُلُوا فَإِذَا طَعِمْتُمْ فَانتَشِرُوا وَلَا مُسْتَأْنِسِينَ لِحَدِيثٍ ۚ إِنَّ ذَٰلِكُمْ كَانَ يُؤْذِي النَّبِيَّ فَيَسْتَحْيِي مِنكُمْ ۖ وَاللَّهُ لَا يَسْتَحْيِي مِنَ الْحَقِّ ۚ وَإِذَا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتَاعًا فَاسْأَلُوهُنَّ مِن وَرَاءِ حِجَابٍ ۚ ذَٰلِكُمْ أَطْهَرُ لِقُلُوبِكُمْ وَقُلُوبِهِنَّ ۚ وَمَا كَانَ لَكُمْ أَن تُؤْذُوا رَسُولَ اللَّهِ وَلَا أَن تَنكِحُوا أَزْوَاجَهُ مِن بَعْدِهِ أَبَدًا ۚ إِنَّ ذَٰلِكُمْ كَانَ عِندَ اللَّهِ عَظِيمًا} [الأحزاب:53].
وحذَّر تحذيراً شديداً من إيذائه ولو بأقلِّ القليل:
فقال تعالى: {وَمِنْهُمْ الَّذِينَ يُؤْذُونَ النَّبِيَّ وَيَقُولُونَ هُوَ أُذُنٌ قُلْ أُذُنُ خَيْرٍ لَكُمْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَيُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِينَ وَرَحْمَةٌ لِلَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ رَسُولَ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} [التوبة:61]. وقال تعالى في سورة النساء: {وَمَنْ يُشَاقِقْ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيرًا} [النساء:115]. وقال تعالى في سورة محمد: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَشَاقُّوا الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمْ الهُدَى لَنْ يَضُرُّوا اللَّهَ شَيْئًا وَسَيُحْبِطُ أَعْمَالَهُمْ} [محمد:32].
ولكن السُّنّة الكونية أن هناك أعداء له صلى الله عليه وسلم:
قال تعالى: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا شَيَاطِينَ الْإِنسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُورًا وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ مَا فَعَلُوهُ فَذَرْهُمْ وَمَا يَفْتَرُونَ} [الأنعام:112]، وقال تعالى: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا مِنْ الْمُجْرِمِينَ وَكَفَى بِرَبِّكَ هَادِيًا وَنَصِيرًا} [الفرقان:31].
ثانياً: حكم السبِّ ومَناطِه:
قال ابن تيمية:
"قال القاضي عياض جميع من سبَّ النبي أو عابه أو الحق به نقصاً في نفسه أو نسبه أو دِينه أو خِصلة من خِصاله أو عَرّض به أو شبهه بشيءٍ على طريق السبِّ له والإزراءِ عليه أو البغض منه والعيب له فهو سابُّ له والحكم فيه حكم السابِّ يُقتل ولا نستثن فصلاً من فصول هذا الباب عن هذا المقصد ولا نمتر فيه تصريحاً كان أو تلويحاً، وكذلك من لعنه أو تمنّى مضرةً له أو دعا عليه أو نسب إليه ما لا يليقُ بمنصبه على طريق الذم أو عيبه في جهته العزيزة بسخفٍ من الكلام وهجر ومُنكر من القول وزوراً أو عيره بشيءٍ مما يجري من البلاء والمحنة عليه أو غَمصه ببعضِ العوارضِ البشرية الجائزة والمعهودة لديه؛ قال هذا كله إجماع من العلماء وأئمة الفتوى من لدن أصحابه وهلم جرًا" [الصارم المسلول ج: 3، ص: 978...وما بعدها].
وقال ابن القاسم عن مالك: "من سبَّ النبي قُتِل ولم يُستَتب"، وقال ابن القاسم: "أو شتمه أو عابه أو تنقَّصه فإنه يُقتل كالزنديق وقد فرض الله توقيره وبره"، وكذلك قال مالك في رواية المدنيين عنه: "من سبَّ رسول الله أو شتمه أو عابه أو تنقَّصه قُتِل مسلماً كان أو كافراً ولا يُستتاب، وَ روى ابن وهب عن مالك: "من قال أن رداء النبي -وَ يُروى- إزاره وسخ و أراد به عيبه قُتل"، وذكر بعض المالكية اجماع العلماء: "على أن من دعا على نبيٍّ من الأنبياء بالويل أو بشيءٍ من المكروه أنه يُقتل بلا استتابة".
وذكر القاضي عياض أجوبة جماعة من فقهاء المالكية المشاهير "بالقتل بلا استتابة في قضايا متعددة أفتى في كل قضيةٍ بعضهم منها: "رجل سمع قوماً يتذاكرون صفة النبي إذ مرَّ بهم رجلٌّ قبيح الوجه واللحية، فقال: "تريدون تعرفون صفته هي صفة هذا المارِّ في خِلقته ولحيته"، ومنها رجلٌ قال: "النبي كان أسود"، ومنها: "رجلٌ قِيل له لا وحقَّ رسول الله فقال: "فعل الله برسول الله كذا"، قِيل له: "ما تقول يا عدوا الله؟" فقال أشدَّ من كلامه الأول، ثم قال: "إنما أردتُ برسول الله العقرب" قالوا: "لا يُقبل لأن ادعائه للتأويل في لفظٍ صراح لا يُقبل لأنه امتهانٌ وهو غير معزِّر لرسول الله ولا موقِّر له فوجبت إباحة دمه، ومنها من قال: "إن سُألتُ أو جَهِلتُ فقد سُأل النبي وجَهل"، ومنها مُتفقِّه كان يستخفُّ بالنبيِّ ويُسميه في أثناء مُناظرته (اليتيم)، ويزعم أن زُهده لم يكن قصداً ولو قَدر على الطيبات لأكلها". وأشباه هذا".
قال عياض: "فهذا الباب كله مما عدَّه العلماء سبّاً وتنقُصاً يجب قتلُ قائِله، لم يختلف في ذلك مُتقدِمهم ومُتأخرِهم وإن اختلفوا في حكم قَتله".
وكذلك قال أبو حنيفة وأصحابه: "فيمَن تنقَّصه، أو برئَ منه، أو كذَّبه؛ أنه مُرتدّ". وكذلك قال أصحاب الشافعي: "كل من تعرَّض لرسول الله بما فيه استهانة فهو كالسبِّ الصريح فإن الاستهانة بالنبيِّ كُفرٌ، وهل يتحتم فيه قتله أو يسقط بالتوبة على الوجهين". وقد نصَّ الشافعي على هذا المعنى.
فقد اتفقت نصوص العلماء من جميع الطوائف على أن التنقُّص به كفرٌ مُبيحٌ للدم، ولا فرق في ذلك بين أن يُقصد عيبه والازراء به أو لا يُقصد عيبه لكن المقصود شيء آخر حصل السبّ تبعاً له أو لا يَقصد شيئاً من ذلك، بل يهزل ويمزح أو يفعل غير ذلك؛ فهذا كله يشترك في هذا الحكم إذا كان القول نفسه سباً فإن الرجل يتكلم بالكلمة من سخط الله تعالى ما يظن أن تبلغ ما بلغت يهوي بها في النار أبعد مما بين المشرق والمغرب، ومن قال ما هو سبٌّ وتنقُّص له فقد أذى الله ورسوله، وهو مأخوذ بما يؤذي به الناس من القول الذي هو في نفسه أذى وإن لم يقصد أذاهم، ألم تسمع إلى الذين قالوا: {إِنَّمَا كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ}، فقال الله تعالى : {أَبِاللَّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ. لَا تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُم بَعْدَ إِيمَانِكُمْ} [التوبة:65-66]، وهذا مثلُ من يغضب فيذكر له حديث عن النبي أو حكمٍ من حكمه، أو يدّعى لما سَنَّه فيلعن ويقبِّح ونحو ذلك وقد قال تعالى: {فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} [النساء:65]، فأقسم سبحانه بنفسه أنهم لا يؤمنون حتى يحكِّموه ثم لا يجدون في نفوسهم حرجاً من حُكمِه، فمن شاجر غيره في أمره وحرج لذكر رسول الله حتى أفحش في منطقة فهو كافرٌ بنصِّ التنزيل، ولا يُعذر بأن مَقصوده ردّ الخصم، فإن الرجلَ لا يؤمن حتى يكون الله ورسوله أحبّ إليه ممن سِواهما، وحتى يكون الرسول أحبّ إليه من ولده وَ والده والناس أجمعين.أ.هـ".
ثالثاً: سبّ الرسول صلى الله عليه وسلم من أعظم الضرر في الدِّين:
قال ابن تيمية: "أن المُعَاهد له أن يُظهر في داره ما شاء من أمر دِينه الذي لا يُؤذينا، والذمي ليس له أن يُظهر في دار الإسلام شيئاً من دِينه الباطل وإن لم يُؤذنا فحاله أشد.....، أن الذمِّي إذا سبَّ الرسول أو سبَّ الله أو عاب الإسلام علانيةً؛ فقد نكثَ يمينه وطعن في ديننا، لأنه لا خلاف بين المسلمين وأنه يُعاقب على ذلك ويُؤدب عليه........." [الصارم المسلول ج: 2 ص: 38].
وقال أيضاً: "ولا ريب أن من أظهر سبّ الرسول من أهل الذمّة وشتمَه فإنه يُغيظ المؤمنين، ويُؤلمهم أكثر مما لو سفكَ دماءَ بعضهم وأخذ أموالهم؛ فإن هذا يُثير الغضب للهِ والحِمية له ولرسوله، وهذا القدر لا يَهيج في قلب المؤمنِ غيظاً أعظم منه، بل المؤمن المُسدد لا يغضب هذا الغضب إلاّ لله .........." [الصارم المسلول ج: 2 ص: 46].
وقال أيضاً: "أما سبّ الرسول والطعن في الدين ونحو ذلك، فهو مما يَضرُ المسلمين ضرراً يفوق ضرر قتلِ النّفس وأخذ المال من بعض الوجوه، فإنه لا أبلغ في إسفال كلمة الله وإذلال كتاب الله، وإهانة كتاب الله من أن يُظهر الكافر المعاهد السبّ والشتم لمن جاء بالكتاب..(وهو الرسول)....." [الصارم المسلول ج: 2 ص: 453].
وَ "إن اظهار سبّ الرسول طعن في دين المسلمين، وإضرارٌ بهم، ومجرد التكلّم بدينهم ليس فيه إضرار بالمسلمين فصار إظهار سبّ الرسول بمنزلة المحاربة....." [الصارم المسلول ج: 2 ص: 462].
وأيضاً: "أن ظهور الطعَن في الدين من سبّ الرسول ونحوه فساداً عريض وراء مجرد الكفر فلا يكون حصول الإسلام ما حيا لذلك الفساد...." [الصارم المسلول ج: 3 ص: 940].
وقال فى مجموع الفتاوى: "وكذلك تكذيب الرسول بالقلبِ، وبُغضه، وحسده، والاستكبار عن مُتابعته؛ أعظم إثماً من أعمال ظاهرةٍ خالية عن هذا، كالقتلِ، والزنا، والشرب، والسرقة، وما كان كفراً من الأعمال الظاهرة، كالسجود للأوثان و سبّ الرسول و نحو ذلك فإنما ذلك لِكونه مستلزماً لكفرِ الباطن و إلاّ فلو قدر أنه سجد قُدّام وثنٍ و لم يقصد بقلبه السجود له؛ بل قصد السجود لله بقلبه لم يكن ذلك......" [ج: 14 ص: 120].
رابعاً: عقوبة السبّ الربانية:
قال ابن تيمية:
"فعبد الله بن سعد بن أبي سرح افترى على النبي أنه كان يُتمّمُ له الوحي، ويكتب له ما يُريد فيُوافقه عليه وأنه يصرفه حيث شاء، ويُغير ما أمره به من الوحي فيُقرّه على ذلك، وَ زعم أنه سيُنزل مثل ما أنزل الله إذ كان قد أوحيَ إليه في زعمه؛ كما أُوحيَ إلى رسول الله وهذا الطعن على رسول الله وعلى كتابه والافتراء عليه بما يُوجب الريب في نبُّوته قدرٌ زائد على مُجرد الكفر به والردة في الدِّينّ، وهو من أنواع السبّ، وكذلك لما افترى عليه كاتب آخر مثل هذه الفريّة قصَمه الله وعاقبه عقوبةً خارجةً عن العادة ليَتبين لكل أحدٍ افتراؤه إذ كان مثل هذا يُوجب في القلوب المريضة ريباً، بأن يقول القائل كاتبه أعلم الناس بباطنِه وبحقيقة أمره وقد أخبر عنه بما أخبر، فمن نصر الله لرسوله أن أظهر فيه آيةٍ بيّن بها أنه مُفترٍ.. فرَوى البخاري في صحيحه عن عبد العزيز بن صهيب عن أنس قال: "كان رجلاً نصرانياً فاسلم وقرأ البقرة وآلِ عِمران، وكان يَكتبُ للنبي، فعاد نصرانياً فكان يقول: "لا يدري محمد إلاّ ما كتبتُ"، له فأماته الله فدفنوه فأُصْبِحَ وقد لفظتُه الأرض، فقالوا: "هذا فعلُ محمد وأصحابه نبشوا عن صاحِبنا"، فألقَوه فحفروا له، واعمقوا في الأرض ما استطاعوا، فأُصْبِحَ وقد لفظتُه الأرض، فعَلِمُوا أنه ليس من الناس فألقَوه..." [الصارم المسلول ج: 3 ص: 983...وما بعدها].
وَ رواه مسلم من حديث سليمان بن المغيرة عن ثابت عن أنسٍ قال: "كان مِنّا رجلٌ من بني النجار قد قرأ البقرة وآلِ عِمران، وكان يكتب للنبيّ فانطلق هارباً حتى لحق بأهلِ الكتاب، قال: فعرفوه، قالوا: "هذا قد كان يكتبُ لمحمدٍ"، فأُعجِبُوا به، فما لبث أن قَصم الله عُنقه فيهم فحفروا له فوارَوه فأصبحت الأرض قد نبذته على وجهها، ثم عادوا فحفروا له فوارَوه فأصبحت الأرض قد نبذته على وجهها، ثم عادوا فحفروا له فوارَوه فأصبحت الأرض قد نبذته على وجهها، فتركوه منبوذاً". فهذا الملعون الذي افترى على النبي أنه ما كان يدري إلا ما كُتبَ له قصمه الله وفضحه بأن أخرجه من القبر، بعد أن دُفن مِراراً، وهذا أمرٌ خارجٌ عن العادة؛ يدل كل أحد على أن هذا عقوبة لما قاله وأنه كان كاذباً، إذ كان عامة الموتى لا يُصيبهم مثل هذا، وأن هذا الجرم أعظم من مجرد الارتداد، إذ كان عامة المرتدين يموتون ولا يُصيبهم مثل هذا، وإن الله مُنتقم لرسوله ممن طعن عليه وسبّه، ومُظهرٍ لدينِه ولكذِب الكاذب إذا لم يُمكّن الناس أن يُقيموا عليه الحدّ، ونظير هذا ما حدثناه أعداد من المسلمين العدول أهل الفِقه والخبرة عما جربوه مرات مُتعددة في حصر الحصون والمدائن التي بالسواحل الشاميّة لما حَصر المسلمون فيها بني الأصفر في زماننا قالوا: "كنا نحن نحصر الحصن أو المدينة الشهر أو أكثر من الشهر، وهو مُمتنع علينا حتى نكاد نيأس منه، حتى إذا تعرّض أهله لسبّ رسول الله والوقيعة في عِرضه تعجّلنا فتحة، وتسير ولم يكد يتأخر إلاّ يوماً أو يومين أو نحو ذلك ثم يُفتح المكان عُنوةً، ويكون فيهم مَلحمة عظيمة. قالوا: "حتى إن كُنّا لنَتباشر بتعجيلِ الفتح إذا سمعناهم يقعون فيه، مع امتلاء القلوب غيظاً عليهم بما قالوا فيه"... وهكذا حدثني بعض أصحابنا الثِّقات أن المسلمين من أهل المغرب حالهم مع النصارى كذلك ومن سُنَّة الله أن يُعذِّب أعداءه تارةً بعذابٍ من عنده؛ وتارة بأيدي عِباده المؤمنين.أ.هـ ..
هذا وصلى الله عليه وسلم.
كتبه الفقير إلى عفو ربه تعالى…
د/ السيد العربي بن كمال
الجمعة، 03 ذو الحجة، 1422هـ.