{وَأَذِّن فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ}
محمد بن إبراهيم السبر
إنها الأرض المقدسة والبلد الأمين التي من أجلها تفطرت أكباد وسالت دموع وضحى المحبون بأهلهم وولدهم ورباعهم، شطت بهم الديار وتناءت بهم الأقطار ومع ذلك جاؤوا يقطعون الفيافي والقفار، طلباً لرضا الغفار ليؤدوا فريضة من فرائض الله تعالى.
- التصنيفات: فقه الحج والعمرة -
الخطبة الأولى
الحمد لله الذي أمر خليله ببناية البيت الحرام، أحمده سبحانه وأشكره على نعمه وخيراته الجسام، وأشهد ألا إله إلا الله وحده لا شريك له شهادةً مبرأةً من الشركِ والشك والجهل وتطرق الأوهام، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله أفضلُ من صلى وصام وطاف بالبيت الحرام، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه البررة الكرام، والأئمة الأعلام، هداة الأنام وسلم تسليماً كثيراً..
أما بعد:
فاتقوا الله حق التقوى، وراقبوه في السر والنجوى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ} [آلِ عمران: 102].
عباد الله: في هذه الأيام تتوجه القلوب وترنو الأبصار وتتأجج الأشواق ويزداد الحنين، إلى البيت العتيق والمشاعر المقدسة إلى عرفة والمزدلفة، ومنى والملتزم والحطيم وزمزم، إنها المشاعر التي حركت المشاعر فنطق وجدان الشاعر:
إن الطيور وإن قصصت جناحها *** تسمو بفطرتها إلى الطيـران
وقال الآخر:
يا راحلين إلى مِنى بقيـادي *** هيجتمُ يوم الرحيل فـؤادي
سرتم وسار دليلكم يا وحشتي *** الشوق أقلقني وصوت الحادي
إنها الأرض المقدسة والبلد الأمين التي من أجلها تفطرت أكباد وسالت دموع وضحى المحبون بأهلهم وولدهم ورباعهم، شطت بهم الديار وتناءت بهم الأقطار ومع ذلك جاؤوا يقطعون الفيافي والقفار، طلباً لرضا الغفار ليؤدوا فريضة من فرائض الله تعالى.
أَيُ لحظةٍ تلكَ، اللحظةُ التاريخيةُ المحفورة في عمق الزمن، المسطورة في صفحة التاريخ، إنها اللحظة التي جاءت لتؤكد جلال الموقف وحرمة الزمن وعظمة المكان وتؤسس ركن الحج إلى قيام الساعة، يوم أن قال الله جل وعلا لخليله إبراهيم: {وَأَذِّن فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالًا وَعَلَىٰ كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِن كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ} [الحج: 27].
يا إبراهيم ناد في الناس داعيأً إياهم إلى حج البيت الذي أمرتك ببنائه
قال: يا رب كيف أبلغ الناس وصوتي لا ينفذهم!.
فقال: ناد وعلينا البلاغ، فقام على مقام إبراهيم وقيل على الحجر، وقيل على الصفا، وقيل على جبل أبي قُبَيس، وقال يا أيها الناسُ إن ربكم قد اتخذ بيتاً فحجوه..
فيقال إن الجبال تواضعت حتى بلغ الصوت أرجاء الأرض، وأسمع مَنْ في الأرحام والأصلاب، وأجابهُ كُلُ شيء من حجرٍ ومدرٍ وشجرٍ، ومَنْ كتب الله أن يحج إلى يوم القيامة: لبيك اللهم لبيك لبيك لا شريك لك لبيك إن الحمد لله والنعمة لك والملك لا شريك...
قال ابن كثير رحمه الله: هذا مضمون ما روى عن ابن عباس وعكرمة وسعيد بن جبير وغير واحد من السلف أ. هـ.
ومازال بيت الله العتيق من تلك اللحظة أثراً خالداً وبناءً شامخاً، ورمزاً للحنيفية السمحة، يطاولُ الزمان شامخَ البنيان ثابتَ الأركان في منعة من الله وأمان يقوم بقيامه ركن من أركان الإسلام تتعاقب الأجيال على حجه و يتنافس المسلمون على بلوغ رحابه والعيش في أمنه وأمانه وتوافر خيراته وأرزاقه: {ليَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ ...} [الحج من الآية: 28].
عباد الله: إن الحج أحد أركان الإسلام ومبانيه العظام قال تعالى: {وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا ۚ وَمَن كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ} [آلِ عمران من الآية: 97].
وقال أبو هريرة رضي الله عنه خطبنا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: «يا أيها الناس إن الله قد فرض عليكم الحج فحجوا» فقال: رجلٌ: أكل عامٍ يا رسول الله؟ فسكت، حتى قالها ثلاثاً، فقال: «لو قلت نعم لوجبت ولما استطعتم...» الحديثَ [رواه مسلم].
وثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه سئل عن الإسلام، فقال: «أن تشهد ألا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، وتقيم الصلاة، وتؤتي الزكاة، وتصوم رمضان، وتحج البيت إذا استطعت إليه سبيلا» [رواه مسلم].
ففريضة الحج ثابتة بالكتاب والسنة وإجماع الأمة إجماعا ًقطعياً، فمن أنكر فريضة الحج فقد كفر، ومن أقر بها وتركها تهاوناً فهو على خطر...
فيجب عليك أخي المسلم المبادرة والإسراع إلى أداء هذه الفريضة العظيمة ولا يقعدنك الشيطان، ولا يأخذنك التسويف، ولا تلهينك الأماني..
واسأل نفسك: إلى متى وأنت تؤخر الحج إلى العام القادم؟ ومن يعلم أين أنت العام القادم أفوق التراب أم تحته؟! وتأمل في حال الأجداد كيف كانوا يحجون على أقدامهم وهم يسيرون شهورا وليالي ليصلوا إلى البيت العتيق؟!
والآن ولله الحمد والمنة تيسرت السبل وأمنت وتطورت وسائل النقل وتوفرت!!
فيا مستطيعاً لم تحج إلى الآن؟! كيف تطيب نفسك أن تترك الحج مع مقدرتك عليه بمالك وبدنك وأنت تعلم أنه من فرائض الإسلام وأركانه؟!
كيف تبخل بالمال على نفسك في أداء هذه الفريضة، وأنت تنفق الكثير من المال في هوى نفسك، وكيف توفر عن نفسك تعب الحج وأنت ترهق نفسك في التعب في أمور الدنيا الزائلة التافهة. بل كيف يتثاقل متثاقل عن هذه الفريضة المباركة وهي لا تجب في العمر سوى مرة واحدة قال عليه الصلاة والسلام في الحديث الصحيح: «الحج مرة فمن زاد فهو تطوع»، بل كيف يتراخى ويسوف ويقول أحج العام أو بعد العام و هو لا يدري لعله لا يستطيع الوصول إليه بعد عامه.
كم من إنسان مات قبل أن يحج؟! كم من إنسان كان قادراً وهو الآن يُحجُ عنه يتمنى أن يدرك تلك الرحاب الطاهرة، يتمنى أن يكون مع تلك الجموع في يوم عرفة يوم العتق والمباهاة الذي قال فيه النبي صلى الله عليه وسلم: «ما من يوم أكثر من أن يعتق الله فيه عبداً من النار من يوم عرفة وإنه ليدنو ثم يباهي الملائكة: ماذا أراد هؤلاء» [رواه مسلم].
فلما يؤخر بعض الناس الحج ويسوفون؟!
روى سعيد بن منصور في سننه عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه قال: "لقد هممت أن أبعث رجالاً إلى هذه الأمصار فينظروا كُلَ من كان له جِدَةٌ ولم يحج فليضربوا عليهم الجزية ما هم بمسلمين ما هم بمسلمين".
و رُويَ عن علي رضي الله عنه أنه قال: "من قدر على الحج فتركه فلا عليه أن يموت يهودياً أو نصرانياً".
وثبت عن عمر رضي الله عنه أنه قال: "ليمت يهودياً أو نصرانياً، قالها ثلاثاً، رجل مات ولم يحج وجد لذلك سعة وخليت سبيله" [قال ابن حجر رواه البيهقي بإسناد صحيح].
فالحج واجب على الفور لا على التراخي على الصحيح من أقول أهل العلم قال عليه الصلاة والسلام: «تعجلوا إلى الحج، يعني الفريضة، فإن أحدكم لا يدري ما يعرض له» [رواه أحمد وحسنه الألباني في إرواء الغليل وصحيح الجامع].
بشرط إسلام كذا حرية *** عقل بلوغ قدره جليه
الحج فضائل ونوائل، ومثوبات ومكارم في الدين والدنيا، والأولى والأخرى فحج بيت الله عز وجل باب رحب لحط الأوزار، قال عمرو بن العاص رضي الله عنه: فلما جعل الله الإسلام في قلبي أتيت النبي صلى الله عليه وسلم فقلت يا رسول الله: أبسط يمينك فلأبايعك، فبسط يمينه فقبضت يدي!! قال مالك يا عمرو قال: قلت: أردت أن اشترط قال: «تشترط بماذا؟!» قلت: أن يغفر لي!! قال: «أما علمت يا عمرو أن الإسلام يهدم ما كان قبله، وأن الهجرة تهدم ما كان قبلها أن الحج يهدم ما كان قبله... » [رواه البخاري ومسلم].
وأي فضلٍ أعظم من أن تهدم الذنوب، وأي شيء أجمل من أن تنفى السيئات والحوب، فالحج فيه غسل أدرانِ الخطايا والرزايا قال أبو هريرة رضي الله عنه: "سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «من حج فلم يرفث، ولم يفسق، رجع كيوم ولدته أُمّه» [متفق عليه].
إنها عبادة عظيمةٌ ثوابُها جناتُ النعيم، عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال: رسول صلى الله عليه وسلم: «العمرة إلى العمرة كفارة لما بينهما إذا اجتنبت الكبائر والحج المبرور ليس له جزاء إلا الجنة» [متفق عليه]. وقال عليه الصلاة والسلام: «تابعوا بين الحج والعمرة، فإنهما ينفيان الفقر والذنوب كما ينفي الكير خبث الحديدِ والذهبِ والفضةِ، وليس للحجة المبرورة ثوابٌ إلا الجنة» [رواه أحمد والترمذي بسند صحيح].
هذا معَ مُضاعفة الحسناتِ ورِفعة الدرجات، عن جابرٍ أن النبيَّ صلى الله عليه وسلم قال وهو بالمدينة: «صلاةٌ في مسجدي هذا أفضلُ من ألف صلاة فيما سواه إلا المسجدَ الحرام، وصلاةٌ في المسجد الحرام أفضل من مائة ألف صلاة» [رواه أحمد والبخاري في التاريخ بسند صحيح]، أي: صلاةُ أربعٍ وخمسين سنة، فهل يُلام في هَوَى الحرَمِ بعد ذاك أحد؟!
ناهيك عن مواقفِ الرّحمة في عرفات، والازدلافِ عند المشعر الحرام، والتقلّب في فجاج مِنى، والطوافِ بالبيتِ وبين الصفا والمروة، ورمي الجمرات، وكلُّ ذلك من مواطنِ الرّحمة وإجابة الدعوات.
فليتّقِ اللهَ وليبادِرِ المستطيع القادر قبلَ الفوات، ولو فاجأه العَجز أو الأجَل فلن ينفَعَه الاعتذار بالتهاون والكسل.
فسارعوا عباد الله إلى هذه الخيرات ولا تدعُنّ شيئا يحول بينكم وبينها.
فمن ترك الحج فإنه محروم من هذه الخيرات العظيمة وهذا هو الحرمان. قال صلى الله عليه وسلم: «إن الله يقول: إن عبداً أصححت له جسمه، ووسّعت عليه في المعيشة تمضي عليه خمسة أعوام لا يفد إليّ لمحروم» [صححه الألباني].
ومن ترك الحج فلم يحج ولو مرة واحدة في حياته، أفلا يكون أولى بالحرمان؟ بلى إنه لمحروم غاية الحرمان.
بارَك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعَني وإيّاكم بما فيه من الآيات والذّكر الحكيم، أقول ما تسمعون، وأستغفر الله لي ولكم ولجميع المسلمين من كلّ ذنب فاستغفروه، إنه هو الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية:
الحمد لله الذي جعل البيت مثابة للناس وأمناً، واتخذوا من مقام إبراهيم مصلى، وأشهد ألا إله إلا الله وأشهد أن محمداً عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه ومن حج واعتمر إلى يوم القيامة.
وبعد..
فإن من فضل الله سبحانه على عباده أن مَنَّ عليهم بمواسم الخيرات ليغفر لهم ويجزل لهم الهبات. وبين أيدينا موسمٌ من مواسم تجارة الآخرة الرابحة إنها أيام العشر من ذي الحجة قال صلى الله عليه وسلم: «ما من أيام العملُ الصالحُ فيهن أحب إلى الله منه في هذه الأيام العشر»؛ قالوا: ولا الجهاد في سبيل الله قال: «ولا الجهاد في سبيل الله، إلا رجلٌ خرج بنفسهِ وماله فلم يرجع من ذلك بشيء» [أخرجه البخاري]، ولأحمد: «فأكثروا فيهن من التهليل والتمجيد والتكبير والتحميد».
ويستحب صيام عرفة لغير الحاج فعن أبي قتادة الأنصاري رضي الله عنه أن رسل الله سئل عن صوم يوم عرفة، فقال: «يكفر السنة الماضية والباقية» [رواه مسلم].
أخي المسلم: أنت في سفَر سيعقبُه سفر إلى قبرك، فتزوّد من هذه لتلك، يقول ابن القيم رحمه الله: "الناسُ منذ خُلِقوا لم يزالوا مسافرين، وليسَ لهم حَطٌّ عن رحالهم إلا في الجنة أو النار، والعاقلُ يعلمُ أنَّ السفرَ مبنيٌّ على المشقةِ وركوبِ الأخطارِ، ومن المحال عادةً أن يُطْلَبَ فيه نعيمٌ و لذَّةٌ وراحةٌ إنَّما ذلك بعد انتهاء السفرِ، ومن المعلوم أنَّ كلَّ وطأةِ قدَمٍ أو كلَّ آن من آناتِ السفرِ غيرُ واقفةٍ، ولا المكَّلفُ واقفٌ، وقد ثَبَتَ أنَّه مسافرٌ، على الحال التي يجبُ أن يكونَ المسافرُ عليها من تهيئةِ الزاد الموصل، وإذا نَزَلَ أو نامَ أو استراحَ، فعلى قدم الاستعداد للسير" أ. هـ.
فاغتنِم مواسمَ العبادة قبل فواتها، فالحياةُ مغنم، والأيام معدودة، والأعمارُ قصيرة...