الموقف من الدستور المقترح - (لا... لمبادئ الشريعة دون الشريعة نفسها)

محمد بن شاكر الشريف

وما نُناقِشه في هذه الكلمة المختصرة ما تُبدى لنا من مخالفة في باب العقيدة؛ فأوّل ذلك المادة الثانية التي تنص على أن "مبادئ الشريعة المصدر الرئيسي للتشريع"..

  • التصنيفات: قضايا إسلامية معاصرة -


الدستور هو أعلى وثيقة قانونية في أي بلد يحتكم إليها الناس بحيث يصبح كل قانون أو نظام، أو تصرف جاء على خلاف الدستور باطلاً لا قيمة له ولا يترتب عليه أي أثر.

ومواد الدستور بعضها يعد من قبيل المواد المتعلقة بالعقيدة وبعضها من قبيل المواد المتعلقة بالفقه، ولا شك أن الخطأ في باب الفقه أهون من الخطأ في باب الاعتقاد، وكلا الخطأين شر نسأل الله أن يحفظنا من الوقوع في أي منهما.

وما نُناقِشه في هذه الكلمة المختصرة ما تُبدى لنا من مخالفة في باب العقيدة؛ فأوّل ذلك المادة الثانية التي تنص على أن "مبادئ الشريعة المصدر الرئيسي للتشريع":

من عقيدة المسلمين أن الله ربُّ العالمين هو إلههم الذين يعبدونه وحده ولا يعبدون معه أحداً، ومن عبادته أنهم يتحاكمون إلى ما شرعه لهم دون غيره من الشرائع؛ قال تعالى: {أَفَغَيْرَ‌ اللَّهِ أَبْتَغِي حَكَمًا وَهُوَ الَّذِي أَنزَلَ إِلَيْكُمُ الْكِتَابَ مُفَصَّلًا} [الأنعام: من الآية 114]، وقال: {إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ ۚأَمَرَ‌ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ} [يوسف: من الآية 40]، وحكم الله تعالى يُعرَف من كلامه أي القرآن، ومن كلام من أرسله رسولاً ليُبلّغ للناس ما يطلبه الله منهم أي الحديث النبوي، فمصدر التشريع الوحيد النص الشرعي وهو في كتاب الله تعالى وسنة رسوله محمد صلى الله عليه وسلم.

وكتاب الله به أكثر من ستة آلاف آية، والسُنّة بها عشرات الآلاف من الأحاديث هذه الثروة التشريعية الهائلة تركت واستعيض عنها بمبادئ الشريعة، ومبادئ الشريعة محدودة جداً جداً، لا يصلح أن تكون المصدر الرئيسي للتشريع فإنها لن تُسمِن أو تُغني في هذا المجال، فمبادئ الشريعة التي يذكرونها: "العدل، والحرية، والمساواة"، وبعضهم يُضيف الشورى، وبعضهم يُضيف مسئولية الحاكم، وهي من حيث العدد مبادئ محدودة جداً لا تتعدّى أصابع اليد الواحدة.

فمِن ثم لا يمكن الاعتماد عليها لإيجاد منظومة قانونية متكاملة تعطي المجالات الإنسانية كافة، فتكون الإحالة عليها إحالة على مصدر ضيّق محدودٍ غير قادر على الوفاء بالمتطلبات التشريعية، وهي من حيث التحديد لا يوجد ضابط حاصر يقول مبادئ الشريعة هي كذا وكذا وما عدا ذلك فليس من مبادئها ومن ثم فيكون في الإحالة عليها فوضى تشريعية.

وهي من حيث التفصيل شديدة العمومية مما يسمح بوجود الاختلاف الشديد في التفسير، وهي من حيث الإشتراك كما يقول المؤيدون لها إنها مبادئ عامة موجودة عند النصارى وعند اليهود وغيرهم فهي تمثل مشتركاً إنسانياً، وإذا كان الأمر كذلك فلا معنى إذاً لتسميتها بمبادئ الشريعة إلا إذا كان ذلك من باب التغرير بالناس وخِداعهم، هذا من حيث النظر إلى المبادئ نظرة نابعة من لفظها.

وإذا تغاضينا عن ذلك كله -وما كان لنا أن نتغاضى- فإن التعويل عليها باعتبارها المصدر الرئيس؛ يعني إهمال وتنحية النصوص التفصيلية من القرآن والسنة، وفي هذا هجر للقرآن الذي اشتكى منه رسولنا الكريم صلى الله عليه وسلم: {وَقَالَ الرَّسُولُ يَا رَبِّ إِنَّ قَوْمِي اتَّخَذُوا هَذَا الْقُرْآنَ مَهْجُورًا} [الفرقان: 30]، ولم يُصبح في التمسك بالنصوص في هذه الحالة هدايةً ولا رشاداً؛ وإنما الهداية والرشاد حسب اختيارهم تُصبح في تلك المبادئ التي حلّت محلّ النصوص التفصيلية.

وتفسير المحكمة الدستورية لهذه المادة فرغها من المضمون الإيجابي حيث فسّرتها من زاويتين:

1- أن هذه المادة لا ولاية لها على القوانين الصادرة قبلها وإنما ولايتها على القوانين الصادرة بعدها وأن هذه المادة موجهة للسلطة التشريعية وليس القضائية بمعنى أن القاضي لا يمكنه أن يستند إليها في حكمه بل عليها التقيد بنصوص القوانين.

2- أن هذا الكلام لا ينطبق إلا على ما كان قطعياً في سَندِه ومعناه؛ وهذا لا يتحقق إلا مسائل محدودة، وجمهور الشريعة ليس كذلك ومن ثم إخراج جمهور نصوص الشريعة أن تكون مصدراً للتشريع.

وفي مسودة الدستور الجديد أبقوا على المادة كما هي بدون أدّنى تغيير وكأنها قرآن منزل لا يملك أحد تغييره. وَوضعوا مادة في باب الأحكام العامة فسّروا بها المبادئ فقالوا: "مبادئ الشريعة الإسلامية تشمل أدلتها الكلية وقواعدها الأصولية والفقهية ومصادرها المعتبرة في مذاهب أهل السنة والجماعة" وهذا التفسير لم يقدِّم كبيرُ أمرٍ؛ بل هو تجميع كلمات بعضها إلى جوار بعض بدون مضمون صحيح وحرص التفسير على عدم الإشارة إلى الأدلة التفصيلية.

وهو ما يعني استبعاد نصوص الكتاب والسنة أن تكون مصدر التشريع، وهذا التصرّف أمر معيب أن نبقي على مادة ونحاول أن نضع لها تفسيراً يحتاج هو إلى تفسير وكُنّا كمن فسّر الماء بعد جهدٍ بالماء، فما الذي يمنع من وضع مادة من أول الأمر واضحة بنفسها من غير احتياج إلى تفسير، ولو حذفنا كلمة مبادئ لم نحتج إلى إضافة مادة جديدة ولا إلى تفسير لها، والله تعالى أمرنا في كتابه باتباع شريعته وليس باتباع مبادئها؛ فقال تعالى: {ثُمَّ جَعَلْنَاكَ عَلَىٰ شَرِ‌يعَةٍ مِّنَ الْأَمْرِ‌ فَاتَّبِعْهَا وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ} [الجاثية:18] ولم يقل فاتبع مبادئها.

وليست هذه المادة فقط فاسدة فهناك مواد أخرى كالتي تدّعي أن السيادة للشعب، أو كالمواد التي تعرضت إلى المساواة بين الرجل والمرأة بإطلاقٍ من غير أن تضع أية قيود عليها، وكالمادة التي تنص على أن "حرية الفكر والرأي مكفولة، ولكل إنسان حق التعبير عن فكره ورأيه بالقول أو الكتابة أو التصوير أو غير ذلك من وسائل النشر والتعبير" من غير أي تقيّيد لإطلاق هذه المواد بعدم مخالفة الشريعة.

وإذا كان هناك أقلية في الجمعية التأسيسية مُتنكّرةٌ للشريعة ويحرصون بكل ما لديهم من قوة لفرض رؤيتهم على الدولة كلها؛ رغم أنهم أقليّة ليست لهم قواعد شعبية كبيرة تُؤيد توجههم، بل الغالبية الشعبية على المستويات كافة الأصعدة تُؤيد الالتزام بالشريعة وتحكيمها.

ومن ثم فإنه يجب وجوباً يقينياً تغيير المواد الفاسدة أو إجراء حذف أو إضافة عليها لتكون منضبطة مع أحكام الدين الذي يَدينُ به الغالبية العظمى من الناس.

ولعلي أقول في هذه الكلمة الموجزة:

أنه لا يُقبل من أي فصيلٍ إسلامي التهاون في ذلك الأمر تحت أي مُسوِّغٍ كان، وأن من تهاون فلا بُدَّ من أن يُعاقب شعبياً؛ بأن لا يتم انتخاب أعضائه في أي انتخابات قادمة.

فنحن لا ننتخبهم إلا لإقرار الشريعة، فإذا خذلونا في إقرار دستور صالح فلم يعد هناك فائدة من اختيارهم، وينبغي أن يكون ذلك واضحاً في جدٍ وحزم، فالمسألة لا تحتملُ المجاملة.

وفّق الله الجميع لما يُحبّه ويرضاه.
 

المصدر: مجلة البيان