صهيون يُشبه صانِعيه وعاشِقيه
من يريد التشبُّه بالعدو، فليفعل ذلك، أصالة عن نفسه فقط، ومن يحاول تزييف التاريخ، فالحقائق والوقائع عنيدة، لذا ابتعدوا عن قضيتنا وشعبنا فكفانا مآسينا وخذلان مؤسساتنا المفترض أنها أقيمت من أجل مستقبلنا في بلادنا فاتضح أنها لا تختلف كثيراً عن مهزلة حرب اقتسام فلسطين عام 1948م.
- التصنيفات: قضايا إسلامية معاصرة -
المتابع لمختلف أجهزة الإعلام/ التضليل العربية، ربما يُلاحظ محاولة بعضها تمرير مديح للعدو الصهيوني، بصيغة الذمّ؛ فقد كتب أحدهم معلقاً على مجزرة الحولة، التي أثارت أنبل العواطف، حتى الصخر تحرك من هول المنظر، أنه لا يقبل القول "إن عدونا أكثر وحشيّة منا"، قمنا بتوضيح رأينا في هذا، ورغم دفاعه عن موقفه، قررنا تفادي السجال، من دون أن نذكره بأنه وصف الكيان الصهيوني يوماً بأنه جار.
على أي حال؛ لا شك في أن عالمنا العربي يشهد مرحلة، سوف تطول، غاية في الدموية، تحت مُسمّيات مختلفة مثل "الربيع العربي" و"الثورات العربية" وما إلى ذلك من المصطلحات المقولبة، وهي استمرار لمرحلة دموية سابقة، لكن مدى ظلمها ربما لم يكن ظاهراً للعيان كما هو الآن.
فالقمع في بلادنا قائم، وإن كان بأشكال مختلفة، منذ أن أسّس الغرب الاستعماري كياناتنا وفق مصالحه، وأطلقنا عليها، بسذاجة وهبل "النظام العربي"، وعندما أتحدث هنا عن "الغرب الاستعماري" فلا أقصد أن الغرب كله استعماري لأن هناك دولا غربية لم تمارس الاستعمار، مثل اليونان ومالطا وإيسلندا.
بل هناك دول، أو لنقل شعوباً وقوميات "غربية" تُعاني الاستعمار الأوروبي، وتناضل من أجل التحرر القومي والانفصال عن الدولة الأُمّ، ومن ذلك على سبيل المثال شعب جزيرة كورسيكا الفرنسية، والباسك والقطلونيون والأندلسيون في إسبانيا، من دون أن يَعني هذا تأييدنا لهم أو أن نعد أن الأمر يعنينا.
لنعد إلى موضوعنا، إحدى القنوات المحلية كانت تغطي أخبار غارة قيل إنها شُنّت على قرية في شمالي سوريا، والمسألة هنا ليست في كون الأمر حقيقة أو اختلاقاً، وإنما في إصرار القناة على إيراد كلام نطق به بعض الضحايا الذين قيل إنهم فقدوا أحباءهم، قول أحدهم أو إحداهن "إسرائيل ما عملت فينا هيك".
هنا علينا التوقف والتمعن في هذا الكلام لأنه قد يبدو أن المقصود هنا القول إن إسرائيل قمة الوحشية والمرجعية الفضلى لوصف مدى وحشيتها، لكن الأمر خلاف ذلك.
قبل تفصيل قولنا في التصريح المنسوب إلى الضحية، حقيقية كانت أو مُفترضة، لابد من التشديد على أننا نتعاطف تعاطفاً غير محدود مع كل الضحايا الأبرياء، وكنا كتبنا أكثر من مرة، وفي هذا الموقع أيضاً، أننا ضدّ عسكرة أي حِراك شعبي لأنه لن يجلب سوى الموت والدمار، وأن أي صراع داخلي في أي دولة سينتهي، عاجلاً أو آجلاً بجلوس أطرافِ النزاع مع بعضهم لحل المشاكل، وقدّمنا أمثلة كثيرة استقيناها من التاريخ على نهايات كل الحروب الداخلية.
نحن نعلم أن المرء عندما يفقد عزيزاً وحبيباً قد يستعمل، في لحظة الغضب والألم، المشروعين بكل تأكيد، مصطلحات أو تعبيرات لا يقصدها حرفياً؛ ونتذكر في هذا المقام أن أحد الشباب الفلسطينيين الذين اعتقلتهم قوات العدو إبّان مجازر جنين، حين قيّدت تلك القوات يديه وأجبرته على الركوع على الأرض، التفت إلى عدسة كاميرا تُصوّره قائلاً: "الله يذلّكم يا عرب".
هذا الشاب كان يستصرخ أبناء جلدته وبالتأكيد أنه اعتبر نفسه عربياً، قبل أن يكون فلسطينياً، فوجه كلامه القاسي إلى قومه، من دون أن يقصده، وهو بالتأكيد لم يكن يقصد بتضرّعه إلى الخالق عز وجل، إذلال العرب، وإنما الحكام المتآمرين على فلسطين، أرضا وقضية وشعباً.
بالعود إلى قول الضحية، التي ألحقت التصريح بأن "إسرائيل ما عملت فينا هيك" بأغلظ الأيمان، فإننا نشك في أنها فعلت ذلك طواعية، أو أنها عايشت للحظة واحدة وحشية العدو الصهيوني تجاه من يتحداه، اسألوا أرواح شهداء الطنطورة، ودير ياسين، وكفر قاسم، والسموع، وأطفال مدرسة بحر البقر، وصبرا وشاتيلا، وأهلنا في جنوبي لبنان، وأمهاتنا وآبائنا وأطفالنا وأحبائنا في قانا 1 وقانا 2، والقائمة تطول وتطول وتطول، واسألوا قبل هذا كله شعب فلسطين الذي يناضل من أجل حقوقه الكاملة في أرضه ومُدنه وقراه منذ ألفِّ ألفِّ عام.
إن إقحام ذكر إسرائيل في فمّ المرأة لم يكن صُدفة، كما أنني أشكُّ في أنها نَطقت به طوعاً، وأرجح أن المراسل نفّذ أوامر مستخدِمه، فحاول تمرير ما يبدو أنه ذمّ للعدو، لكنه في جوهره إهانة للشعب الفلسطيني ولكل العرب الذي عانوا وحشيّة العدو العنصري المغتصب وما زالوا يعانونها.
هذه المقولة التي تبدو ذما للعدو هي في واقع الأمر "مديح بصيغة الذمّ"؛ مقولة كهذه لا تمر صدفة ولا تكون خطأ مطبعيا، بل أقحمت إقحاماً مقصوداً في التقرير المصوّر؛ إنه دفاع مقصود عن العدو المغتصب "الذي هو أكثر رحمة بنا من أشقائنا!".
وإذا كان ثمّة من يشك في الأمر فليسأل نفسه "هل ارتكبت أي من وسائل الإعلام/ التضليل غلطة لوم لصاحبها! هل حدث أن مررت أي وسيلة إعلامية تقريراً أو حتى كلمة واحدة ضدّ ممّولها وَ "ولي نعمتها!".
كلنا نعلم أن الإجابة بالنفي، ولو كانت القناة لا توافق على مقولة كهذه تنثر الملح في جروح كل أبناء أُمّتنا الذين عدوّا فلسطين قضية العرب والمسلمين الأولى، لحذفتها.
هذا يذكرنا بكاتب آخر، عاشق للديمقراطية، يُقال، لكنه يعمل في صحيفة محليّة لا تنشر إلا الرأي الواحد، عندما كتب "علينا الاعتراف بأن إسرائيل ديمقراطية" " في ما بينهم" !. لا نعرف ما يعنيه الكاتب بالديمقراطية وكيف يمكن لشخص ما أن يكون فاجراً في بيته وناسكاً في العلن.
كيف يمكن أن يكون الإنسان ديمقراطياً، أيا كان المقصود بالمصطلح، وقد شرّد شعباً من وطنه واغتُصب حقوقه وارتكبت بحقّه وبحقّ كل من وقف معه مجازر مهولة! لا، هذا مديح للعدو.. هل هو مجاني؟! يوماً ما ستُكتشف الوثائق السريّة الحقائق.
لا، نحن لا نشبه عدونا، نحن نشبه تاريخنا، منذ صدْرِ الإسلام، يمنحنا الحق في أن نفخر به وبأنفسنا، وبسمو تعاليمنا، من دون صرف النظر أو حتى غضّ الطرف عن بقع صغيرة هنا وهناك تلطّخ بعض صفحات أسفاره الكثيرة.
لقد كتبتُ عن هذا الأمر من قبل مذكراً بهذا التاريخ، الذي أرى أن الأديب الفلسطيني تميم البرغوثي لخّصه ببلاغةٍ عميقة المعنى في قصيدته "في القدس" بالقول:
أُمرر بها واقرأ شواهدَها بكلِّ لغاتِ أهلِ الأرضِ
فيها الزنجُ والإفرنجُ والقِفْجَاقُ والصِّقْلابُ والبُشْنَاقُ
والتتارُ والأتراكُ، أهلُ الله والهلاك، والفقراءُ والملاك، والفجارُ والنساكُ،
فيها كلُّ من وطئَ الثَّرى
البعض أراد أن يفهم أن المقصود هنا منّة من العرب المسلمين على أهلنا في بلادنا، مع أن المعنى يتكلم عن نفسه بالقول إن بلادنا وأهلنا عرفوا، منذ بدءِ التاريخ، التسامح والتعايش وقبول الآخر. العربي المسلم المنتصر في الفتوحات لم يطرد أحداً، ولم يحرق مدينة، ولم يرتكب مذابح بحقّ أهلها، ولنا عودة إلى هذا.
هنا نود تذكير من فضل اختيار تأويله على ما قلناه بكلمات مبينة بأن "أبو التاريخ" هيرودوت، كتب في القرن الخامس قبل الميلاد أن سكان غزة عرب، ونذكر أيضاً قول المؤرخ السياسي الإغريقي "وليس اليوناني" الذي عاش في القرن الأول أن قَدْمُس ابن ملك صور، رافق العرب عندما استوطنوا بلاد الإغريق وعلموا الإغريق الأبجدية وأسّسوا مدينة طيبة، وأقام معبد "الأكروبوليس" الذي كان يُسمى "قدميا" تكريماً له.
قَدْمُس هذا، وبصرف النظر ما إذا كنّا نتكلم عن شخص عاش في تلك الأزمنة أو تلخيص روائي لحدثٍ تاريخي، يقول هيرودوت عنه، إنه عاش نحو خمسة عشر قرناً قبل زمنه، أي في عام 2000 قبل الميلاد.
كل ما أريد قوله إن العرب ليسوا طارئين على بلاد الشام، إلا في كتابات أغلبية المستشرقين، والمستعربين أيضاً.
في المقابل، الإسكندر المقدوني، المثال المحبب عن التسامح لدى المؤرخين الاستشراقيين، كان يأمر بإحراق كل مدينة لا تستسلم له، وبإبادة سكانها. هكذا فعل في المشرق العربي عندما دمر مدينة " جزيرة" صور، ونكل بأهلها، وأمر بمحوها من الخريطة؛ ثم استمر في غزواته ليأمر بتأسيس مدينة باسمه على ساحل مصر هي الإسكندرية، لتأخذ مكان صور ومكانتها.
صورٌ استعصت على الغازي، الذي نصب نفسه إلها فقتلته بعوضة، واستعادت مكانتها التجارية الحضارية بعد أقل من عشر سنوات من تدميرها.
والإسكندر المقدوني هو من أمر بإحراق عاصمة بلاد فارس " تختي جمشيد" المعروفة في كتب التاريخ باسمها اليوناني " برزيبوليس = مدينة الفرس" ، التي لم تقم لها قيامة بعد ذلك.
ثم، هل نحن في حاجة لتذكير أنفسنا بما فعل المستعمر في البلاد التي غزاها، في الأميركتين، وفي أفريقيا وفي الشرق الأقصى، وفي بلادنا!
هل نحن في حاجة إلى تذكير أنفسنا بما فعله ملوك قشتالة في عرب الأندلس، مسلمين ومسيحيين ويهودا!.
هل نحن في حاجة إلى تذكير أنفسنا بأن " قائدة العالم الحر" أزهقت في ثوان قليلة أرواح نحو مليون من البشر في هيروشيما وناغازاكي، وهي تفخر بذلك إلى يومنا هذا.
هل نحن في حاجة إلى تذكير أنفسنا بما فعله المستعمر الغربي الجديد في بلادنا.
هل نحصي أعداد شهداء بلاد الشام وقُراها التي دمرتها فرنسة الغازية، وعندما تصدت للثورة السورية الوطنية في عام 1925م، وللثورات المتعددة في الجزائر!!
كل حبر الأرض لا يكفي لتسجيل فظائع المستعمرين في كل بقعة وطأتها أقدامهم.
علينا تذكر هذه الحقائق، رغم كل مآسينا الماضية والحاضرة، والمستقبلية أيضاً إذا ما أصررنا على السير في الطريق الذي نحن فيه مُنقادون، ورغم رائحة دماء الأبرياء الزكية التي تحيط بنا وتتراءى لنا في أحلامنا التي استحالت كوابيسَ، وحولت مروجنا وحدائقنا وجناننا إلى مقابر.
لا، نحن لا نشبه عدونا، عدونا يشبه صانعيه، وتاريخهم تجاه -من ليس هو معروف-، ولا يحوي سطراً واحدا مشرفاً، مع ذلك، فإننا لا ندعو لمحاربتهم، بل للحذر في التعامل معهم، والشك في أنفسنا إن هم امتدحوا بعض ممارساتنا.
كفى تلاعبا بقضيتنا. لقد فُرض علينا، صغاراً، أن نتعلم في المدرسة أن الشعب الفلسطيني باع بلاده، وأثبتت الوقائع الموثقة أن من نصبهم الاستعمار الغربي حكاماً على بلادنا هم من باع فلسطين. وفرضوا علينا تعلم أن حرب عام 1948م كانت من أجل منع قيام الكيان الصهيوني، لتثبت الوثائق أنها كانت تمثيليةً هزليةً لاقتسام فلسطين بين "النظام العربي" آنذاك من جهة، والعدو الصهيوني من جهة أخرى.
وما سيظهر من وثائق في المستقبل سيظهر مدى تآمر بعض حكام العرب على فلسطين، أرضاً وشعباً وقضية، وتواطؤهم مع العدو.
من يريد التشبُّه بالعدو، فليفعل ذلك، أصالة عن نفسه فقط، ومن يحاول تزييف التاريخ، فالحقائق والوقائع عنيدة، لذا ابتعدوا عن قضيتنا وشعبنا فكفانا مآسينا وخذلان مؤسساتنا المفترض أنها أقيمت من أجل مستقبلنا في بلادنا فاتضح أنها لا تختلف كثيراً عن مهزلة حرب اقتسام فلسطين عام 1948م.
والله من وراء القصد.
زياد منى