رسالة عيسى عبده من ميت غمر إلى وول ستريت
منذ 2012-11-17
وبالاطلاع على ما كتبه الدكتور عيسى عبده رائد البنوك الإسلامية والاقتصاد الإسلامي في كتبه ومقالاته المتعددة في سبعينيات القرن الماضي فإننا لا يمكننا إغفال التشابه الكبير بين هذه الكتابات وبين اللافتات التي رفعها متظاهرو وول ستريت...
لم يكن المتظاهرون في وول ستريت وغيره من المراكز المالية حول العالم بحاجة لقراءة مبادئ الاقتصاد في الإسلام ولا أسس المعاملات المالية الإسلامية ليبدأوا حربهم السلمية على الرأسمالية، فبعد الأزمة المالية التي تعرض لها الاقتصاد العالمي والتي لم تزل تبعاتها تمس أغلبية هؤلاء المتظاهرين وتؤثر في أنماط حياتهم ومستويات دخولهم لم يكن بوسعهم إلا الوقوف أمام هذه الرأسمالية التي تلاعبت بمصائرهم. ولم يكن هؤلاء المتظاهرون يعرفون أنهم وهم يرفعون شعاراً مثل "أوقفوا الحرب على القوى العاملة" أنهم إنما كانوا يعيدون تفسير نص الآيتين القرآنيتين من سورة البقرة:
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ . فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَإِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُءُوسُ أَمْوَالِكُمْ لَا تَظْلِمُونَ وَلَا تُظْلَمُونَ} [البقرة:278-279]
ورغم أن أغلب هؤلاء المتظاهرين لا يعرف حلاً لهذه الأزمة إلا أنهم بدأوا وضع أياديهم على أعراض المرض فمنهم من رفع لافتة تقول أن "الصهاينة يحكمون وول ستريت" ومنهم من تخطى ذلك فرفع لافتة تقول أن "الشيطان يحكم وول ستريت". لكن قليلاً من هؤلاء المتظاهرين كان أكثر تحديداً لوصف علاج هذه الأزمة فمنهم من قال "هيا نمارس أعمال المصارف بطريقة المسلمين" وأيدت الصحف الغربية هذا الاتجاه في تناولها للأزمة وأكدت أن المصرفية الإسلامية هي الحل.
ولولا أن الله قدر للمسلمين أن يخرجوا على العالم بتجربتهم الاقتصادية لظلت تلك التجربة مجرد نظريات حبيسة في كتب الفقه والمعاملات ولما رأى الغربيون فيها المخرج من الأزمة المالية العالمية. فتلك التجربة لم تكتفي بحجم التمويل الآخذ في النمو الذي توفره والذي بلغ ما يفوق التريليون دولار في عام 2009 لكنها أيضاً قد تم تتويجها هذا العام 2011 على رأس البنوك العالمية بعد منح بنك دبي الإسلامي جائزة التميز في مجال إدارة المخاطر في مؤتمر CCR-Interactive بلندن وهو الحدث الأكبر من نوعه على مستوى قطاع الائتمان في العالم، الأمر الذي دفع المتابعين للتساؤل كيف وقفت البنوك الإسلامية قوية في وجه أعتى أزمة مالية يمر بها العالم منذ ثلاثينات القرن الماضي في نفس الوقت الذي أسفرت فيه هذه الأزمة عن إشهار عدة بنوك عالمية كبرى لإفلاسها.
وبالاطلاع على ما كتبه الدكتور عيسى عبده رائد البنوك الإسلامية والاقتصاد الإسلامي في كتبه ومقالاته المتعددة في سبعينيات القرن الماضي كبداية للتنظير للبنوك الإسلامية وخاصة ما أورده في مجموعته القيمة "بنوك بلا فوايد" فإننا لا يمكننا إغفال التشابه الكبير بين هذه الكتابات وبين اللافتات التي رفعها متظاهرو وول ستريت. هذه المجموعة التي بدأ فيها وضع اللبنات الأولى للأسس ولنظم العمل التي يقوم عليها البنك الإسلامي كبيت للتمويل لا كمرابي متخصص في الإقراض.
ففي حين أن شعار هؤلاء المتظاهرين "نحن ال 99 %" كان معبراً عن إحساسهم بأنهم يتعرضون كأغلبية للشقاء جراء السياسات المالية التي أدت إلى الأزمة، فإننا نجد أن الدكتور عيسى كان واضحاً حين قال "إذا أصبح المال دولة بين الأغنياء، شقي أغنياء ذلك المجتمع وفقراؤه". كما أن الشعار الذي نادى به المتظاهرون "أوقفوا الحرب على القوى العاملة" لا يأتي بعيداً عن قول الدكتور عيسى "إن الربا كان مصدر تمزق أرض الإسلام ونهب مواردها وسبب لما هي فيه من ذلة وهوان، حتى أصبح المال الذى هو مالنا غريباً عنا وهو في أرضنا، وحرباً علينا والأصل أن يكون عدة لنا". ويأتي في النهاية رفعهم للافتات المنادية بضرورة تطبيق قواعد المعاملات المصرفية الإسلامية متسقاً مع الاستهلال الذي اختاره لمجموعته "بنوك بلا فوايد" حين افتتحها بالآية القرآنية:
{أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَن تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ الله وَمَا نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ وَلَا يَكُونُوا كَالَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِن قَبْلُ فَطَالَ عَلَيْهِمُ الْأَمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَكَثِيرٌ مِّنْهُمْ فَاسِقُونَ} [سورة الحديد :16].
ويأتي تحذير الدكتور عيسى من الأزمة المالية العالمية وآثارها قبل نحو الأربعين عاماً من حدوثها ليكشف قوة بصيرة هذا الرجل حيث قال (بتصرف) "القول بأن المصارف تخلق الودائع، قول خطير جداً، ومع ذلك يمر عليه الناس وكأنهم لا يرون المنكر جهاراً، ففي هذا الفعل إضرار بأصحاب الدخول المحدودة، وتمكين للمصرف من أن يستغل أضعاف المبالغ المودعة لديه، وبالتكامل بين تلك المصارف الربوية نجد أن كمية النقود "الائتمانية" تتضاعف، ورغماً عن الرقابة يصبح التحايل مهنة يتقنها خبراء متخصصون في أسواق المال والنقد والصيرفة، وتبقى الكثرة الكادحة لتتحمل الضرر بانخفاض قيمة النقد فتنخفض الدخول الحقيقية لمعظمهم ويحرمون من الائتمان وهم أحق به وأجدر في شرع الله".
إلا أن الدكتور عيسى عبده وهو أحد أبناء الرعيل الأول لجماعة الإخوان المسلمين لم يأخذ مكانته السابقة كرائد للبنوك الإسلامية عن طريق التنظير والكتابة بل على العكس فلقد خاض الرجل عدة تجارب اقتصادية ليتبوأ هذه المكانة المرموقة. ولا يعلم الكثيرون أن أول تجربة لإنشاء بنك إسلامي انطلقت في ميت غمر بمحافظة الدقهلية في عام 1962 حيث قام الدكتور أحمد عبد العزيز النجار بإنشاء أول بنك ادخار إسلامي وتمكن من جمع ثمانين ألف جنيه من أهالي ميت غمر لبدء توظيفها بطريقة تتفق مع أحكام الشريعة الإسلامية وتمكن كلا الرجلين الدكتور النجار والدكتور عيسى عبده من تحديد العلاقة بين المودعين والبنك على أساس عقد المضاربة الشرعية، وتم اختيار صيغة المشاركة المنتهية بالتمليك مع المستثمرين بدلاً من صيغة القروض التي توفرها البنوك الربوية. وبدأ البنك في تدريب المستثمرين من أصحاب المشروعات الصغيرة على فنون الإدارة وتنوعت مجالات الأنشطة التي مولها هذا البنك لتغطي أنشطة الزراعة والثروة الحيوانية والعقارات وتعددت فروع البنك في المدن والقرى المحيطة. إلا أن انتهاج مصر للمنهج الاشتراكي في هذه الآونة تصادم بطريقة ما مع ما يقدمه هذا البنك من تنمية رأسمالية للمشروعات الصغيرة والمتوسطة مما أدى إلى انتهاء هذه التجربة في عام 1967 ودمج فروع بنك الادخار في البنوك الحكومية.
ولم يهدأ الدكتور عيسى عبده بعد انتهاء هذه التجربة بل استمر منظراً ومروجاً لفكرة "بنوك بلا فوايد" مستغلاً لكل القنوات المتاحة له لتوصيل فكره من تليفزيون ومؤتمرات وندوات حتى أتت له الفرصة من جديد للمشاركة في أعمال "اللجنة التحضيرية لبيت التمويل الكويتي" في عام 1967 والتقى بالشيخ أحمد إرشاد من باكستان وتعرف عن قرب على أسباب فشل تجربته لإنشاء مؤسسة تعاونية في باكستان بهدف مباشرة التمويل وفقاً للشريعة. وبدأ بعد ذلك السير في خطين متوازيين لتأسيس بنك دبي الإسلامي – صاحب جائزة هذا العام لإدارة المخاطر – في عام 1974 بتنسيق مع الحاج سعيد لوتاه ثم وفقه الله ومعه رجل الأعمال الكويتي الشاب وقتها أحمد بزيع الياسين في تأسيس بيت التمويل الكويتي في عام 1978.
والآن وبعد مرور خمسين عاماً على بدء تجربة بنك الادخار نستطيع أن نقول إن الرسالة التي أطلقها الدكتور عيسى عبده من ميت غمر قد وصلت أخيراً إلى وول ستريت يحملها أولئك المتظاهرون الذين بهرهم صمود البنوك الإسلامية أمام عواصف الأزمة المالية العالمية.
إلا أن هناك جانباً خفياً من حياة الدكتور عيسى عبده لا يسعني تجاهله في سياق الحديث عنه وعن إنجازه في تأسيس عدد من البنوك الإسلامية التي يشهد لها العالم اليوم بالثبات أمام المخاطر، إذ أن والد الدكتور كان طبيباً مصرياً حديث الإسلام هو الدكتور عبده إبراهيم عبد الملك، ويروي الدكتور عيسى على لسان أبيه سر تسميته "عيسى" حيث قال: "إن بيني وبين ربي عهدا لا يعلمه إلا هو، وإني أسير على الدرب لا أحيد، إنني حين تمسكت بالاسم الذي اختاره أبي وهو "عبده" تعلق رجائي بأن يمتد بي الأجل حتى أتزوج وأن أرزق مولودا أدعوه "عيسى"، وعاهدت ربي على تنشئته تنشئةً صالحة، ولأدعون له بطول العمر والتوفيق إلى مافيه رضا الله وبأن يكون له في حياته ومن بعد حياته أحسن الذكر على ألسنة العباد، ولذا جعلت من وجود هذا الولد شهادة تنبض بالحياء بأن "عيسى " "عبده" وما هو بولده، تعالى الله عن ذلك علوا كبيرا.....فكلما ذكره الذاكرون غائبا أو حاضرا .. حيا أو ميتا .. كان ذكرهم هذا شهادة مني بين يدي الله عز وجل بأن عيسى عبده"
فرحمة الله عليك أيها الشيخ الجليل وعلى والدك وعلى كل من ساهم في إنجاح هذه التجربة الإسلامية وإخراجها إلى النور وصدق الله عز وجل إذ يقول:
{يُرِيدُونَ لِيُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَاللَّهُ مُتِمُّ نُورِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ} [سورة الصف:8]
محمد مصري
مهندس مدني حر
facebook.com/muhammad.masry
صفحة الشيخ عيسى عبده رحمه الله بالموقع
http://ar.islamway.net/lessons/scholar/373
درس للشيخ محمد إسماعيل المقدم بعنوان "عيسى عبده" يحكي قصة حياة والد الشيخ رحمه الله فيما أذكر
http://ar.islamway.net/lesson/6752?ref=search
المصدر: خاص بموقع طريق الإسلام
- التصنيف: