إحياء تراث أهل الكلام
المعتزلة ... الأشاعرة ... أهل الكلام ... من هم؟!
نزل القرآن صيبا نافعا فسالت أودية بقدرها، وجرى نهر الإسلام عذبا زلالا.. وكان الصحابة يردون النهر ويغترفون من مائه ويأكلون منه لحما طريا طيب الطعم لذيذ المذاق، ويستخرجون منه حلية ثمينة أَضاءت بها مشارق الأرض ومغاربها... كذا هو معتقدهم وعملهم.. راسخا كشجرة طيبة.. وأما ما ينفع الناس فيمكث في الأرض.
وسقى الناس وزرعوا وأكلوا وشربوا مما اغترف منه الرعيل الأول فسعدوا وأسعدوا... قال تعالى: {فَإِنْ آمَنُوا بِمِثْلِ مَا آمَنْتُمْ بِهِ فَقَدِ اهْتَدَوْا وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا هُمْ فِي شِقَاقٍ فَسَيَكْفِيكَهُمُ اللَّهُ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} [البقرة: 137]، وكانوا هم خير سلف لمن اهتدى من الخلف قال تعالى: {وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ} [التوبة: 100]، ثم نبغت نابغة زعموا أنهم من أهل العقل ولكنهم من أهل اللسان سموهم أو تسموا بأهل الكلام، فظهرت فرق تُنَظّر لأقوال الفلاسفة على رأسها المعتزلة، خلطوا قولا صالحا وآخر سيئا فامتزج الخليط امتزاجا تاما فما عاد يظهر صالحه من طالحه، مر المذاق كريه الرائحة..
نظر هؤلاء للنهر العذب، وظنوا أنهم من أهل الحضارة والفكر، وأنهم خير من الصحابة، فألقوا حجارة عن اليمين والشمائل ثم طفقوا يلقون في الجدول الذي اقتطعوه زبالات الأفكار، وأغلوطات الفلاسفة الأغمار، فأنشأوا في النهر بركة آسنة يظنون أنهم أحسنوا وقد أساءوا.. فصوروا الإسلام بظلمة وكدر وطلاسم وأغلوطات من عثر... فأما الزبد فيذهب جفاءً.
وعرف مذهبهم بمذهب أهل الكلام، وورد ذمهم في كلام الأئمة الكرام أصحاب مذهب الحديث والأثر أهل السنة والجماعة حملة الإسلام الحق الذين هبوا بجد، فأزالوا الأحجار عن مجرى النهر وطهروه من الشوائب والأقذار وعاد النهر يدفق من منابعه الأصيلة.. فمن الكتاب والسنة يردون وعنه يصدرون ومنه يسقون.. فكتاب الله حاكم وعقولنا محكوم، يأمر الرب فنقول نحن الطائعون السامعون، رضينا بالله ربا وبالإسلام دينا وبمحمد صلى الله عليه وسلم نبيا ورسولا.. وعند أهل الكلام [1] عقولهم حاكمة وكتاب الله محكوم! مالم يوافق النص العقل أوله أو قل... معناه في الغيب معلوم وعند أهل الشهادة مجهول...
يقول شارح الطحاوية: "وجميع أهل البدع مختلفون في تأويله مؤمنون ببعضه دون بعض يقرون ما يوافق رأيهم من الآيات، وما يخالفه إما أن يتأوله تأويلا يحرفون فيه الكلم عن مواضعه وإما أن يقولون هذا متشابه لا يعلم أحد معناه، فيجحدوا ما أنزله من معانيه" ا.هـ.
فما أشبه اليوم بالبارحة... غير أن اليوم أشد وأنكى!! فمعتزلة الأمس..غيروا معاني صفات الله وبعض آيات الغيب.. ومعتزلة اليوم يريدون تغيير كل نصوص القرآن وأحكامه يما يوافق العقل... بل أنصف وقل: الهوى! فها نحن نرى اليوم من يعمل جاهدا وقد وجد في تراث أهل الكلام بغيته، واعتنقها طريقته، يتهرب بها متلويا كالأفعى ليرد نصوص الوحيين ويعطلها عن معانيها ويجردها من إلزامها للخلق بطاعة الرحمن!
العقل عندهم حاكم والنقل محكوم! العقل عندهم مقدم على كلام الله والرسول! وجعلوها قانونا وقاعدة فضربوا نصوص الوحيين ببعضها لفهم سقيم وعطلوا معانيها بعقل رجيم، "ثم يجتهدون في تأويل هذه الأقوال إلى ما يوافق رأيهم بأنواع التأويلات التي يحتاجون فيها إلى إخراج اللغات عن طريقتها المعروفة وإلى الاستعانة بغرائب المجازات والاستعارات" [2]. قال النبي صلى الله عليه وسلم: «بهذا أمرتم؟ أو بهذا بعثتم؟ أن تضربوا كتاب الله بعضه ببعض إنما ضلت الأمم قبلكم في مثل هذا إنكم لستم مما هاهنا في شيء انظروا الذي أمرتم به فاعملوا به والذي نهيتم عنه فانتهوا» [3]. ويكأنه صلوات ربي وسلامه عليه معنا يسمع ما يقولون!! ويغضب مما يزعمون ويرد عليهم بقول قَطْعٍ حسم لسان كل سفيه!
وليت شعري أي عقل يقدمون؟! أفهمي أم فهمهم أم فهم من يزعمون؟ ولسان أحوالهم تقول نريد لكل منا دينا مخصوصا بفكر منصوص وعقل منقوص!! صدق ربي إذ يقول: {بَلْ يُرِيدُ كُلُّ امْرِئٍ مِنْهُمْ أَنْ يُؤْتَى صُحُفًا مُنَشَّرَةً كَلَّا بَلْ لَا يَخَافُونَ الْآخِرَةَ} [المدثر: 52-53].
أنترك تفسير النبي صلى الله عليه وسلم وصحابته للقرآن للغط سقيم؟؟ ولو فقهوا لعلموا أن العقل السوي لا يخالف النقل الصحيح ولكن إن كان الهوى هو سيد هذا العقل قدم نفسه على كلام الله وكلام رسول الله صلى الله عليه وسلم، فيسهل عليهم لي أعناق النصوص بما يوافق هواهم ويقولوا أن هذا هو العقل! ويصورون فهم النصوص الشرعية كأنه معضلة وأن ما جاءت به العقول هو السهل الصحيح الميسور!!
قال شارح الطحاوية: "ومن المحال ألا يحصل الشفاء والهدى والعلم واليقين من كتاب الله وكلام رسوله ويحصل من كلام هؤلاء المتحيرين بل الواجب أن يجعل ما قاله الله ورسوله الأصل ويتدبر معناه ويعقله" ا.هـ. فهذا هو دور العقل الصحيح، ليس من مهام العقل أن يتقدم على قول الله تعالى وقول رسوله بهوى وجهالة قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} [الحجرات: 49]، اتقوا الله الذي يسمع قولكم ويعلم ما في قلوبكم، وسيحاسبكم على ذلك فإن الموت حق..
"ولا شك أن من لم يسلم للرسول نقص توحيده فإذنه يقول برأيه وهواه ويقلد ذا رأي وهوى بغير هدى من الله"، "فالواجب كمال التسليم للرسول والانقياد لأمره وتلقي خبره بالقبول والتصديق دون أن نعارضه بخيال باطل نسميه معقولا أو نحمله شبهة وشكا ونقدم عليه آراء الرجال وزبالة أذهانهم" [4]. فكيف نترك الواضح الظاهر من كلام الله ورسوله لكلام العقول التي يختلفون ثم يختلفون ولم يتفقوا إلا على مخالفة الكتاب والسنة بسقيم ما يسمونه "معقول" و"منطقي"! كذبوا. وإنما حالهم كحال رجل اشترى جهازا إليكترونيا، فأراد أن يشغله بعقله وهواه ولا يتبع نظام التشغيل الذي وضعه صانعه.. فما ظنكم بمن هذا حاله إلا خراب جهازه وضياع أمواله!!
يقول ابن قتيبة: "وقد كان يجب مع ما يدعونه من معرفة القياس وإعداد آلات النظر ألا يختلفوا كما لا يختلف الحساب والمساح والمهندسون لأن آلتهم لا تدل إلا على عدد واحد وإلا على شكل واحد وكما لا يختلف حذاق الأطباء في الماء وفي نض العروق لأن الأوائل قد وقفوهم من ذلك على أمر واحد فما بالهم أكثر الناس اختلافا لا يجتمع اثنان من رؤسائهم على أمر واحد في الدين (...)، ولو كان اختلافهم في الفروع والسنن لاتسع لهم العذر عندنا وإن كان لا عذر لهم مع ما يدعونه لأنفسهم (...)، ولن يعدم هذا (أي الاختلاف في الأصول والتوحيد) من رَد مثل هذه الأصول إلى استحسانه ونظره وما أوجبه القياس عنده لاختلاف الناس في عقولهم وإراداتهم واختياراتهم" ا. هـ. ثم قال رحمه الله:"ولو أردنا أن ننتقل عن أصحاب الحديث ونرغب عنهم إلى أصحاب الكلام، ونرغب فيهم لخرجنا من اجتماع إلى تشتت وعن نظام إلى تفرق، وعن أنس إلى وحشة وعن اتفاق إلى اختلاف" ا.هـ. [5].
ومثل هؤلاء الذين يعظمون العقل تعظيما، مع كونهم يحقرون من شأن النصوص تحقيرا تجد أحسنهم حالا من يقول سنفسر النقل تفسيرا يوافق عقله وهو الذي غرق في لجة هواه، فيحرفه ويغير معناه تعسفا ويزعم أن ذلك هو عين العقل كما فعل أسلافه اليهود فقال الله فيهم : {أَفَتَطْمَعُونَ أَنْ يُؤْمِنُوا لَكُمْ وَقَدْ كَانَ فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَسْمَعُونَ كَلَامَ اللَّهِ ثُمَّ يُحَرِّفُونَهُ مِنْ بَعْدِ مَا عَقَلُوهُ وَهُمْ يَعْلَمُونَ} [البقرة: 75]، فبئس الأحفاد لبئس الأجداد! فاختر لنفسك في الهوى من تصطفي ولكن إذا ما أطلت عليك مصيبة من طرحوا النصوص بلا حياء، ولم يكلفوا أنفسهم عناء التأويل أو التفسير بالأهواء فعندها قد تظن أن أولئك أحسن الفريقين حالا!! فقبحا لمن أعلن جهارا نهارا عيانا بيانا: لا يصلح هذا القرآن لهذا الزمان ولا لهذا المكان ومن شاء أن يعمل بشرع الله ويتمسك بعقيدة الإسلام فليبحث لنفسه عن مكان غير المكان وزمان غير الزمان!! فأي عاقل يقول أن هذا القول ينسب لأهل ملة الإسلام؟!
فيا أيها المسلم العاقل دعك من هذا التخليط واطرح ميراث أهل الكلام، وأقبل على نهج السلف الكرام فهم الذين شهد لهم خير الأنام بأنهم أهل الجنة يدخلونها بسلام قال تعالى: {وكَذَلِكَ أَنْزَلْنَاهُ حُكْمًا عَرَبِيًّا وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُمْ بَعْدَمَا جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ مَا لَكَ مِنَ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا وَاقٍ} [الرعد: 37].
--------------------------------
[1] المعتزلة مذهبهم التأويل لنصوص القرآن التي فيها صفات الله تعالى، وكثير من آيات أخبار الغيب لا سيما يوم القيامة، والأشاعرة مذهبهم موافق لمذهب المعتزلة في قول، ولديهم كذلك مذهب آخر هو مذهب التفويض الذي ينص على أن معاني تلك الآيات مجهولة لا يعلمها إلا الله، وأن المعاني الظاهرة لها غير مرادة على الحقيقة. وكلا الفريقين من أهل الكلام فانظر كيف ورث هؤلاء ميراثا قبيحا!
[2] ابن تيمية - درء تعارض العقل والنقل.
[3] صححه أحمد شاكر في مسند الإمام أحمد.
[4] العبارتان مقتطفتان من شرح الطحاوية رحم الله صاحب المتن والشرح.
[5] تأويل مختلف الحديث - باب ذكر أصحاب الكلام وأصحاب الرأي.
- التصنيف: