الدفاع عن العقيدة أولى ...!

منذ 2005-09-10
3/5/1423 هـ
13/07/2002 م

تصلني رسائل كثيرة حول موضوع يتكرر ويعاد، خلاصته أننا نعرف عنك العزوف عن الدفاع عن نفسك، وابتعادك عن حرب الردود، ولكن ليس صحيحاً أن هذا هو الصواب دائماً، فثمة أمور ربما كانت ملتبسة على بعض الناس وفهموها عنك خطأً فبيانها كاشف لهذا اللبس، كما أن الرد على بعض الطعون يسرع بإطفاء الفتنة... إلخ.

وأقول: إن من حق المرء أن يدافع عن نفسه، لكن هذا ليس واجباً في الأصل، والدفاع عن النفس والانهماك فيه مشغلة للذهن، وصرف للجهد عن قضايا الإسلام والمسلمين.

ولن يؤدي إلى إطفاء نيران الفتن، بل هو سيزيدها اشتعالاً؛ لأنه سيقدم مادة جديدة يتم التعليق عليها وإخراجها والبحث عن عثراتها، وهو سيؤكد أن ثمة فريقين يختصمان، بينما الأولى أن تظل القضية أن طرفاً يهاجم، وآخر يلوذ بالإعراض عنه، والاشتغال بما هو أهم، وفي النهاية لا يصح إلا الصحيح.

يوجد -أخي الكريم- ما يزيد على أربعة مليارات إنسان فهموا ربهم خطأً، أو حتى كفروا به وأنكروا وجوده ، فلماذا لا ننشغل بكشف هذا اللبس في حدود طاقتنا؟

يوجد -أخي الكريم- ما يزيد عن مليار مسلم، ينتشر بينهم الضلال، وتروج البدع، وتعبد القبور، ويدعى الأولياء، وتمارس الفواحش، ويتعاطى الربا.. وتقع أجزاء من بلاد المسلمين تحت وطأة الكافرين وسلطانهم، كاليهود والنصارى والملحدين ... ويتعرضون لأبشع صور التعذيب والنكال والقتل والاغتصاب، وتعيش شعوب إسلامية فيما يشبه حالة الاحتضار. في طائفة من محن وأخطاء وخطايا يعيشها المسلمون.

وهذا ليس هجاء لهذه الأمة المصطفاة، فهي في قلوبنا ووجداننا، ونحن -بحمد الله- ممن يحفظ لهم وصف الإسلام، وإن وقعوا في الآثام، وحتى أولئك الذين وقعوا في الشرك جاهلين نؤثر عذرهم بالجهل، وبقاءهم على الأصل. ورحمته وسعت كل شيء، فنسأله ألا يحجبها عنا بذنوبنا، ولا عن أحدٍ من المسلمين، ويفترض أن نستفيد من خصمنا الكثير.

نستفيد الانتباه إلى أي ملاحظة أو خطأ وقع فيه الإنسان « كل ابن آدم خطاء، وخير الخطائين التوابون » أخرجه الترمذي (2499) وابن ماجة (4251) من حديث أنس -رضي الله عنه- وإن كان الناقد محباً قلنا: رحم الله امرأً أهدى إلينا عيوبنا. وإن كان شانئاً، قلنا:



عداتي لـــهم فضل عليّ ومنة
فلا أبعد الرحمن عني الأعاديا

هم بــحثوا عن زلتي فاجتنبتها
وهم نافسوني فاكتسبت المعاليا

وبعض الناس قد يركب متن الخطأ إصراراً وعناداً واستكباراً، وهذا ضعف في الشخصية، ونقص في الثقة بالنفس.

وآخرون قد يتنصلون، ويتراجعون، ويعتذرون عن الصواب، أو ينطقون بالخطأ وقصدهم حماية أنفسهم، أو السلامة من لسان فلان وفلان، وهذا أيضاً ضعف في الشخصية، ونقص في الثقة، وقلة أمانة.

كما نستفيد من خصمنا الاعتياد على سماع النقد، بل والسب والشتم والاتهام والجرح، ولا أحد يسلم قط، ومن تعود على سماع المديح المحض والثناء والإطراء ربما ثقل عليه سماع النقد والملاحظة، حتى لو كانت من وادّ ناصح، وبأسلوب لين، وحتى لو كانت حقاً جلياً.

وربما كان سماع الثناء المجرد سبباً في إعجاب المرء بنفسه، وذهابه وتيهه، والله أعلم بعباده.

والذي نختاره لإخواننا الشباب في بلاد العرب، وفي بلاد المهجر، وفي كل موقع، ألا يدافعوا إلا عن دينهم، ولا يشغلوا أنفسهم إلا بالحق، حتى لو سمعوا من يتكلم، أو يزيّف أو يتهم، وحتى لو رأوا أن الناس اقتنعوا بما يقول هذا وأجلبوا وراءه، وتناولوا فلاناً وفلاناً بالعيب والثلب، فالأمر هين، ومسائل الأشخاص والأعيان لا يجب أن تكون ميدان خصومة ولغط، والكف والإعراض أولى.

ونختار أيضاً: العمل الجاد المثمر، تعلماً، وتعليماً، ودعوة، وتعاوناً بين العاملين، وسعياً في التربية والإصلاح، وانتماء حقاً للأمة بشمولية هذا الانتماء وعمقه وامتداده، مشاركة في ميادين الخير، إعلاماً، واقتصاداً، ونشاطاً اجتماعياً، وتنمية للمواهب والطاقات، ورعاية للإبداع.

إن هذه الأغلوطات والمسائل الصغيرة لا تنمي عقلاً، ولا تبني ثقافة، ولا تؤسس علماً، ولا تشيد بناءً، ولا تحفظ وداً، ولا تصلح فاسداً، ولا تقيم معوجاً.

ولو أن امرأً شغل نفسه وحياته بسب فرعون وهامان وقارون وأبي جهل وأبي لهب ورؤوس الكفر والشرك، فهو يسبهم ويفضحهم ويلعنهم، لكان مذموماً ملوماً على تفريطه بالطاعات، وتركه للواجبات ، وانشغاله عن ذكر الله -تعالى- بذكر فلان وفلان، ولربما مات مسلم لا يعرف هؤلاء، ولم يسمع بأسمائهم فكان من أهل الدرجات العلا، وهذا صح عن النبي صلى الله عليه وسلم من حديث المغيرة بن شعبة رضي الله عنه: « لا تسبوا الأموات فتؤذوا الأحياء » رواه الترمذي (1982)، وأحمد (18210) وفي رواية:« فإنهم قد أفضوا إلى ما قدموا » أخرجه البخاري (1393) عن عائشة رضي الله عنهما قال هذا في أبي جهلٍ فرعون هذه الأمة.

إن النفس المشغولة بالبحث عن عثرات الناس وجمعها ومحاصرتهم بها نفس مريضة ولا بد، والنار تأكل بعضها إن لم تجد ما تأكله، ومن ظلم المرء لنفسه أن يختصر الآخرين في زلاتٍ محدودة، فإن النفس البشرية فيها من العمق والاتساع والتنوع ما يجعل كل إنسان فيه جوانب من الخير لو فُعّلت واستخرجت ووظفت لكان من ورائها خير كثير، ولذلك كان المصلحون نابغين في هذا الجانب، جانب تحريك الخير الكامن في نفوس الناس، وهذا يكون بالثناء المعتدل الصادق، مثلما تجده في ثناء النبي صلى الله عليه وسلم على قبائل، وأحياء، وأعيان، ومواطن.ك

ما يكون بحفظ جاه الناس، ومكانتهم، وعدم ازدرائهم، ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم: « (من دخل دار أبي سفيان فهو آمن) » أخرجه مسلم (1780) عن أبي هريرة رضي الله عنه، وقال:« الكبْر بطر الحق وغمط الناس » أخرجه مسلم (91) عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه. وغمط الناس: ازدراؤهم، وبطر الحق: ردُّه. ويكون بالتواضع وترك الاستعلاء، ولهذا قال صلى الله عليه وسلم: « هون عليك؛ فإني لست بملك إنما أنا ابن امرأة تأكل القديد » أخرجه ابن ماجة (3312) عن أبي مسعود رضي الله عنه.

ويكون بقبول الحق والخضوع له، ولو جاء من غير مظنته، ولهذا قال صلى الله عليه وسلم: « (صَدَقَكَ وهو كذوب ذاك شيطان) » أخرجه البخاري (3275) عن أبي هريرة رضي الله عنه.

وصَدَّق رسولُ الله صلى الله عليه وسلم قول اليهودية في عذاب القبر، انظر ما رواه البخاري (1372) ومسلم (586) من حديث عائشة رضي الله عنها ويكون بالفرح بالنجاح الذي يحققه الآخرون، فلا نشعر أن نجاحهم على حسابنا، الميدان رحب، والفرص عديدة، وقد نجح أعداء الإسلام الصرحاء في الكثير الكثير، وعلى حساب ديننا وأمتنا فلم يزعجنا ذلك، أو على الأقل لم يظهر على قسماتنا وملامحنا ولغتنا الانزعاج، وكان ذلك أولى بنا؛ لأننا أمام باطل محض، بينما ما نعيبه على إخواننا المسلمين هو على أسوأ الأحوال باطل مشوب بحق.

إنني أحس أن الشباب المسلم بحاجة إلى تصحيح طرائق النظر والتفكير؛ لأن القوالب الخاطئة في النظر والتفكير تولد نتائج خاطئة، وهذا أولى من ملاحقة مفردات المسائل وتصحيحها؛ لأنه إذا كان المصنع مبنياً بطريقة معوجة، وكانت القوالب غير منضبطة ولا منتظمة، فلابد أن يكون الإنتاج معوجاً وغير منضبط، وإصلاح المصنع وتصحيح قوالبه هو المتعين، أما ملاحقة المنتج، فردةً فردةً، وواحدة تلو الأخرى لتعديلها، فهو عمل شاق وقليل الجدوى.

ولا يفوتني أن أستدرك ما قد يقوله بعض الأحبة: وهل هذا يعني إلغاء باب الذب عن عرض المسلم؟

كلا. وهيهات، المسألة المطروحة ليست هذه، هي مسألة صراعات واحتدام نزاع وضياع أوقات، ولبس وشماتة عدو... فالانسحاب من هذا الميدان إلى ما هو أنفع هو اختياري، ولا بأس أن يذب المسلم عن عرض أخيه المسلم.

وقد اقتصرت هنا على ما أظنه لب المسألة، وتركت الدخول في التفاصيل، ولعل عذري أنني أظن في هذا مساهمة صغيرة صغيرة في تعديل المصنع، وصياغة القوالب. والله أعلم.
المصدر: موقع الإسلام اليوم

سلمان بن فهد العودة

الأستاذ بكلية الشريعة وأصول الدين بالقصيم -سابقًا-

  • 7
  • 1
  • 23,789
  • ملك الشوق

      منذ
    [[أعجبني:]] ماشاء الله... مقال أكثر من رائع... حفظك الله ياشيخ سلمان...
  • كمال ماهر

      منذ
    [[أعجبني:]] الحمد لله و الصلاة والسلام علي رسول الله بارك الله فيكم و جزاكم الله خيرا واعانكم علي طاعته [[لم يعجبني:]] الحمد لله و الصلاة والسلام علي رسول الله نظن فيكم خيرا ونرجو ان يكون تحميل الموقع اسرع من ذلك
  • jj

      منذ
    [[أعجبني:]] كلام الشيخ ممتاز فجزاه الله خيرا
  • ناصر

      منذ
    [[أعجبني:]] جزاك الله خيرا يا شيخ وسلمان فقد اخترت الدفاع عن الاولى وابعدتنا عن الاشياء التى لن ننجومنها
  • فائزة السلطان

      منذ
    [[أعجبني:]] من حق الإنسان أن يدافع عن نفسه وله الحق في استخدام أو اعدم استخدام هذا الحق ومن يشغل نفسه في تتبع عثرات الآخرين هو شخص ليس له هدف في الحياة ويعيش فراغا كبيرا .ثم أن انتقاد الآخرين يعطي فرصة لروية العيوب وتصحيحها وخيرا من الدفاع عن النفس الدفاع عن قضايا الإسلام والمسلمين .ولماذا نؤكد على العيوب ففي كل إنسان جانب من الخير هو التأكيد على هذا الجانب واستخراجه قد يأخذ بيد الآخر إلى الأحسن . فليحب المسلم لأخيه المسلم ما يحب لنفسه وليظن بالناس خيرا وليغضض بصره عن عيوب الآخرين فمن منا بلا عيوب
  • ابوعلي

      منذ
    [[أعجبني:]] لا استطيع أن أعلق على كلام الشيخ حفظه الله ووالله إنني استحي من أن أتكلم بأي عالم او طالب علم بعد ما قرأت، لله درك يا شيخي الفاضل.
  • وميض البرق

      منذ
    [[أعجبني:]] كلــــــــــه أعجبني وكيف لايعجبني كلام الرجل الألف همه هم الأمة الإسلامية كلها .. آثرها حتى على نفسه.. اللهم احفظ شيخنا أبا معاذ يارب العالمين

هل تود تلقي التنبيهات من موقع طريق الاسلام؟

نعم أقرر لاحقاً