وقفات مع حياة فضيلة الشيخ "يحيى بن عبد العزيز اليحيى" 3
سنلقي الضوء في هذه الصفحات على سيرة أحد رجال الحديث وأنصار السنة وقائد المسيرة لحفظ الوحيين، نحن هنا في وقفات مع حياة فضيلة الشيخ "يحيى بن عبد العزيز اليحيى" أحد الذين حفظ التاريخ جهودهم في حفظ السنة ونشرها عبر دوراته المباركة التي يقيمها في الحرمين
قصة الدورات الصيفية في الحرم المكي والحرم المدني
- بداية الدورات في مكة، حدثنا عنها، كيف كانت؟
- استمر عطاء الحلقة الحديثية في بريدة طيلة عشر سنوات ، حتى وصلت حلقات تحفيظ السنة إلى أكثر من عشر حلقات قام عليها نبذة من الحفاظ الأوائل.
وحين رأيتُ الحلقة قد بدأت تشق طريقها وتأخذ مكانتها في الساحة العلمية.. بدا لي أن أنتقل بها إلى طورٍ أكبرَ وأوسعَ ليعُم نفعها ويعظُم أثرها، فقمت بإعادة النظر في البرنامج وإعداد خطة جديدة لدورة جديدة يختلف نظامها عن الطريقة الأولى سواء من حيث المادة أو من حيث القدر المحفوظ، ثم درست البداية والنهاية والمدة وحجم المقرر بصورة دقيقة ومضبوطة حتى اكتملت عندي الصورة النهائية للدورة، ومن ثمَّ اخترت المكان.. فلم أجد أفضل ولا أنسب مكان لإقامتها من بيت الله العتيق في مكة المكرمة مهبط الوحي ومبعث النبي صلى الله عليه وسلم.
- كيف مهَّدت للدورة حتى يتم انتقالها من القصيم إلى مكة؟
في عام 1421هـ وفي شهر رمضان المبارك ذهبت إلى مكة للعمرة في العشر الأواخر، وهناك بدأت أعمل للبرنامج الدعاية والإعلان وأقوم بتسجيل الطلاب المتميزين الذين أعلم من قرائن الأحوال أنهم قادرون على تطبيق الخطة المرسومة لحفظ الصحيحين، وكذا في كل مجلس أحضره كنت أقوم بالدعوة إلى هذه الدورة الحديثية الجديدة.. ومن سجلتُه أخذت رقم هاتفه. ومضت الأيام.. وما إن اقتربت العطلة الصيفية المزمَعُ إقامة الدورة فيها حتى سجلت ما يقارب المائتين طالب.
وكان بعض المشايخ قد اقترح علي أن أقوم بترسيم الدورة من قبل وزارة الشؤون الإسلامية. وكان اقتراحاً رائعاً صائباً فأجريت مكالمات هاتفية مع الأحباب بمكة فقاموا بكتابة خطاب إلى الإمارة يطلبون فيه الموافقة على ذلك. وجاء الرد بالموافقة فعلاً على إقامة الدورة.
- كيف كانت طبيعة البرنامج أول الأمر؟
- كانت الدورة في انطلاقتها الأولى على قسمين: قسم في المسجد الحرام، وقسم في جامع الشيخ عبد العزيز بن باز. وأما برنامج الحفظ فقد كان برنامجاً جاداً صارماً، إذ تستمر الدورة سبعين يوماً يحفظ فيه الطالب فيها أجزاء الجمع بين الصحيحين الستة، في كل يوم (20) صفحة من الكتاب المقرر. حتى يختموا الصحيحين.
- هل واجهتك صعوبات في أثناء الانتقال وترسيم العمل؟
-لا، لم أواجه أي صعوبات في ترسيم الدورة فقد كانت تحت عناية رب العالمين سبحانه وتعالى.
- على أي ضوء ووفق أي معايير يتم قبول الطلاب في الدورة؟
في أول تسجيل للطلاب في دورة مكة كنت أنا من يتولى تسجيل الطلاب، وكنت حريصاً على أن لا يدخل الدورة إلا من أظن فيه الأهلية للنجاح في برنامج الدورة، ولذلك ربما تشددت في الشروط فكنت لا أقبل إلا من أتم حفظ القرآن كاملاً عن ظهر قلب بعد أن أختبره ، وكان متفوقاً متميزاً في دراسته في الجامعة أو غيرها إضافة إلى أسئلة فرعية أخرى.
التجربة الأولى لدورات الصحيحين:
- شهد عام 1422هـ الانطلاقة الأولى لدورات الصحيحين في مكة المكرمة. . قبل ذلك: كيف كانت التوقعات حيال قيام هذه الدورة؟
لم يكن يدور في خَلَد أحد كلَّمتُه عن الدورة وغاياتها أو جاءه خبرها أنها ستنجح ولا بنسبة 10% حتى أني فوجئت بمن هم من خاصتي يستبعدون نجاحها أيما استبعاد. ولكني والحمد لله كنت واثقاً 100% أنها ستنجح نجاحاً يتحدث عنه القريب والبعيد، وكنت أقول لكل من يناقشني فيها: أنا متأكد بإذن الله أنها ناجحة كتأكدي أن الواحد مع الواحد اثنان. فكانوا لا يزيدون على الابتسامة أو السكون المبطن. فلما كان قبل سفري إلى مكة اجتمعت مع أزيد من عشرة مشايخ وقدمت لهم استبياناً عن الدورة لأرى وأسمع آخر مشورة ورأي يتعلق بالدورة قبل البدء بها، ولكنني لم أرَ فيه أي جديد بل ربما رأيت فيه ما يخَذِّلُني ويحطِّمُ آمالي.
ولكني كنتُ أقول: «لا حول ولا قوة إلا بالله، يا حي يا قيوم برحمتك أستغيث فلا تكلني إلى نفسي طرفة عين» ( رواه النسائي في السنن الكبرى والحاكم والبزار، وحسنه الألباني)، وكان هذا هو زادي الذي أتثبت به أمام العقبات.
- كون هذه الدورة هي الأسبق والأغرب في تاريخ الدورات وما يعني ذلك من أهمية وعظمة بالنسبة لك.. ماذا عن الاستعدادات والتجهيزات التي قمت بها لأجل الدورة؟
أولاً:
كنت أعلم أن الدورة ستكون باهظة التكاليف لأنها ستقام بجانب الحرم إضافة إلى تكاليف الإعاشة والسكن طيلة فترة الدورة. فقمت بإجراء اتصالات مع كل من رأيت فيه خيراً لكي يساعدني على أعباء هذه الدورة، وكانت المواقف مشرِقة ومشرِّفَة، فقد هبَّ أهل الغنى لتلبية جميع متطلبات الدورة من المسكن والغذاء وغيرها ولله الحمد .
ثانياً:
قمت بإعداد الجدول لمشايخ الدورة من البداية إلى النهاية، وكان قد أبدا ستة عشر شيخاً من الحفاظ استعدادهم معي للمشاركة في برنامج الدورة هم: الشيخ يوسف الغفيص، والشيخ خليل المديفر، والشيخ فهد بن عبد الرحمن اليحيى، والشيخ تركي الغميز، والشيخ عبد الله السلمي، والشيخ عبد الله الفوزان، والشيخ سليمان الدبيخي، والشيخ إبراهيم الحميضي، والشيخ صالح الصقعبي، والشيخ عبد الله التويجري، والشيخ محمد الراشد، والشيخ شافي العجمي، والشيخ عبد الرحمن العقيل، والشيخ فهد التركي، والشيخ أحمد الصقعوب، والشيخ عمر المقبل، والشيخ عبد الله السويلم. وكانوا نعم المعينين لي في هذه الدورة ابتداء وانتهاء فلم يألوا جهداً في إسداء الملاحظات وسد الثغرات ورفع المعنويات وتوجيه الطلاب حتى انتهت على خير ما يرام.
ثالثاً:
بعد نهاية الامتحانات الدراسية كان قد بقي على موعد الدورة أسبوع واحد، فأخذت إجازة اضطرارية في هذا الأسبوع لكي أكون في أرض الموقع حتى أستقبل الطلاب وأباشر تنظيم الأمور قبل بداية الانطلاقة، فوصلت بحمد الله إلى أرض الحرم في اليوم السادس عشر من شهر ربيع الأول بصحبة الأهل والأولاد. وما إن صارت ليلة العشرين ليلة أول أيام الدورة حتى أقبل الطلاب من كل فج وبدأ الجوال لا يهدأ ولا دقيقة واحدة يسألون عن المكان والموقع وكان عدد من قبل في الدورة مائة وعشرون طالباً من اثنتي عشرة جنسية، وهكذا باشرنا التنظيم والترتيب حتى تمت الأمور وأصبح الجميع في غرفهم وكان ذلك في فندق المروة.
رابعاً:
وُزِّعَت الأجزاء على الطلاب وقُسِّمت المجموعات وعرف كل طالب شيخه، ثم صلوا في اليوم الثاني صلاة الصبح وأصبح الجميع على خير ثم أخذ كلٌّ موضعه في الحرم المكي أو في مسجد الشيخ ابن باز، وبدأ الحفظ وجد الجد.
يوم السبت 20/ 3 / 1422هـ اليوم الأول من أيام الدورة.. وبداية الانطلاقة في حفظ الصحيحين للمرة الأولى في برامج الدورات العلمية.
- كيف تصف لنا الأيام الأولى للدورة؟
- نعم، بدأت الدورة بكل جدية وقوة، فحفظ الجميع وبدون استثناء في ذلك الصباح خمسة أوجه، وانتهى اليوم الأول والنتيجة ناجحة 100% ولما أخذ الطلاب مضاجعهم تأكدت عبر الهاتف الداخلي أن الجميع قد حفظوا خمسة عشر وجهاً في اليوم الأول.
وفي اليوم الثاني استمر النشاط والتقدم على أكمله. وجاء اليوم الثالث وهو اليوم الذي كنت أخافه على مسيرة الطلاب بل كنت معلقاً النهاية على اجتيازه لأنه كان يتضمن الأحاديث الطويلة والصعبة. . ولكن عين الله كانت ترعى الجميع، فلقد مضى اليوم الثالث بنجاح أفضل من سابقيه، وحينئذ علمت أن الدورة قد كُتِبَ لها ما كنت أتطلع إليه. .
حقاً.. كانت بداية الدورة محوطة بالعناية الإلهية، بداية ناجحة بكل المعايير، الكل فيها مقبل على الحفظ والتسميع، والصوت السائد بينهم هو "عن فلان رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال" لست تسمع غير هذا.
- ماذا عن الطلاب وحالهم؟ كيف كان تفاعلهم وتقبلهم لبرنامج الدورة الجديد؟ وماذا عن نشاطهم في الحفظ؟
-أما الطلاب؛ فمن فضل الله علي أني كنت أجيد أسلوبين: أسلوب استثارة الهمم واستحثاثها، وأسلوب صناعة المنافسة بين الطلاب بعد معرفة نوعياتهم. ولذلك فقد كنت أترقب الوقت الذي يتبين في من هم السبَّاقون. وما إن مرَّ الأسبوع الأول حتى تجلى المتميزون، وترشَّح عندي نفرٌ جعلتهم الطليعة في هذه المسيرة.
فكان منهم: باسل الرشود، وعبد الله زكي، وتركي اليحيى، ومحمد القحطاني، ومنصور الغامدي. وبدأ التنافس المرسوم، وشحذ الهمم المدروس، وطفق الطلاب لا يعرفون شيئاً اسمه الملل أو السأم أو الفتور، وكان منظرهم يسُر الناظرين، وهيأتهم تجذب قلوب المحبين، تراهم غادين رائحين، وفي أروقة الحرم معتكفين، وعلى حفظ السنة منكبين، بل قد وجد منهم من يقضي أربعة عشر ساعة يومياً في الحفظ، حتى قال لي بعضهم وقد مضى أسبوع على الدورة : والله يا شيخ ما ذاقت عيني طعم النوم منذ ثلاثة أيام.
وقمتُ بدوري في استنهاض همم البعض الذين كانوا دون هؤلاء في الحماس والسبق قائلاً لهم: كيف أنتم؟ ؟ لقد هبت الركاب فهبوا وطارت الطيور بأرزاقها فشمروا.. وكانت كلماتي شديدة الوقع عليهم.
وفي الدورة تجلت من أخبار الطلاب أمورٌ أشبه بالكرامات أو المعجزات، فمنها: وجود بعض الطلاب يقرأ الصفحة مرتين وفي الثالثة يعيدها حفظاً عن ظهر قلب. ومنها: وجود من يحفظ يومياً مائة حديث دون أن يخطئ خطأً واحداً. ومنها: وجود من حفظ في يوم واحد ثلاثمائة حديث أي ما يعادل عمدة الأحكام أو قريباً منها. ومنها: وجود من يرتب محفوظاته الألف تصاعدياً و تنازلياً من النهاية إلى البداية ومن البداية إلى النهاية. ومنها: وجود من يجلس خمس عشرة ساعة متواصلة يحفظ الأحاديث دون حصول ملل أو سأم. ومنها: تفوق حفظ الكبار على من هم دونهم. وأمورٌ كثيرة شهِدَتها الدورة الأولى، ليس لها تفسير إلا أنها ببركة السنة والاشتغال بها.
- ماذا كان لهذه الدفعة من التميز بعد هذا النجاح العظيم؟
- لما رأت عيناي هذا الفضل والإكرام الذي أكرمني الله به بأن أخرِّج من برنامج الدورة حفاظاً لسنة النبي صلى الله عليه وسلم غمرني أمل كبير أن هذه الدورة سيكتب لها الاستمرار.
وبخصوص الطلاب منحتُ جلَّ الذين حفظوا علي المتفق عليه وملحقاته مع المفردات إجازة في تسميعه وتحفيظه، وبعضهم أجزته زيادة على ذلك في شرحه وتعليمه.
- اليوم الأخير من الدورة.. صف لنا المشاعر فيه؟
- قُضيت الدورة. .ولكن لم ينقضِ معها الطموح ولم تفتُر العزائم، فالكل عازم على المواصلة ومراجعة المحفوظات بعد الدورة. كثير منهم حين أنهى الجمع بين الصحيحين فاضت عيناه متأثراً وفرِحاً بإتمام الكتاب. فعلاً كانت مسيرة جادة نحو هدف سامٍ. .جدَّ فيه الجد، واشتد معه العزم، واستُنفرت فيه الهمم، واستثُيرت العزائم ورُفع الإعلان الكبير: "لن نحط رحالنا إلا عند الحديث الأخير".
وقد كنت طلبت من الطلاب أن يكتب كل من أتم الحفظ مشاعره حين أتم. وكان أول من أنهى الجمع هو باسل الرشود، حفظ الأجزاء الستة في سبعة وعشرين يوماً ثم تتابع الطلاب بعده بقوة ليأتي تركي اليحيى في المرتبة الثانية وعبد الله زكي في المرتبة الثالثة ومحمد القحطاني في المرتبة الرابعة. . وهكذا توالى الطلاب إلى النهاية في مظهرٍ لا أروع منه ولا أجمل.
- أخيراً.. ما هو تقييمك للتجربة الأولى لدورات تحفيظ السنة؟ وما هي أبرز الأسباب؟
أولاً:
أحمد الله جل جلاله الذي لا يُحمد إلا إياه، فهو المتفضل السابق بنعمه، الكريم على عباده، وقد علم منا الضعف والعجز ورأى حبنا لنشر سنة نبيه صلى الله عليه وسلم فلم يخذلنا وهو نعم المولى ونعم النصير.
ثانياً:
أما الأسباب والأسرار خلف هذا النجاح فهي كما يلي:
1 - التوكل على الله والاستعانة به واللجوء إلى عونه وتوفيقه.
2 - أنها في مسجد إبراهيم عليه السلام ، وبجوار الكعبة المشرفة في مهبط الوحي ومبعث النبي صلى الله عليه وسلم ، فما ظنك بمكان كهذا تحفَّظُ فيه أحاديث النبي صلى الله عليه وسلم إلا أن يكون عملاً مباركاً وسعياً متقبلاً.
3 - المادة المحفوظة، وهي كلام النبي صلى الله عليه وسلم. . مادة شرعية مقدسة، فيها نَفَس النبوة وروح الدين، فلا تراها إلا سهلة على الأذهان، محببة إلى النفوس، شديدة الثبات في الحافظة.
4 - حسن الاختيار للطلاب.
5 - الخدمات التي تقدم للحافظ من سكن وتغذية ونظافة وملبس، والتي يقصد منها تفريغ الطالب ذهنياً وإعداده نفسياً وصرفه عن جميع الشواغل عن الحفظ.
أبو عدي القحطاني
- التصنيف:
- المصدر: