{عَسَى أَلَّا أَكُونَ بِدُعَاء رَبِّي شَقِيّاً}
خالد سعد النجار
{عَسَى أَلَّا أَكُونَ بِدُعَاء رَبِّي شَقِيّاً} أي رجائي في ربي كبير أن لا أشقى بعبادته كما شقيتم أنتم بعبادة الأصنام. فلما حقق ما واعدهم به من هجرته لديارهم الى ديار القدس تاركًا أباه وأهله وداره، كافأه الله بأحسن حيث أعطيناه ولدين يأنس بهما في وحشته، وهما إسحاق ويعقوب، وكلا منهما جعلناه نبيًا رسولًا.
- التصنيفات: التفسير - ملفات القرآن الكريم وبرامجه -
قال تعالى على لسانِ إبراهيم عليه السلام:
{وَأَعْتَزِلُكُمْ وَمَا تَدْعُونَ مِن دُونِ اللَّهِ وَأَدْعُو رَبِّي عَسَى أَلَّا أَكُونَ بِدُعَاء رَبِّي شَقِيّاً} [مريم:48]
{عَسَى أَلَّا أَكُونَ بِدُعَاء رَبِّي شَقِيّاً} أي رجائي في ربي كبير أن لا أشقى بعبادته كما شقيتم أنتم بعبادة الأصنام.
قال تعالى مخبرًا عنه، فلما حقق ما واعدهم به من هجرته لديارهم الى ديار القدس تاركًا أباه وأهله وداره، كافأه بأحسن حيث أعطيناه ولدين يأنس بهما في وحشته، وهما إسحاق ويعقوب، وكلا منهما جعلناه نبيًا رسولًا.
ووهبنا لجمعيهم وهم ثلاثة، الوالد إبراهيم، وولداه إسحاق ويعقوب بن إسحاق عليهم السلام من رحمتنا الخير العظيم من المال، والولد والرزق الحسن هذا معنى قوله تعالى: {فَلَمَّا اعْتَزَلَهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ وَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ..} وهو ابن ولده اسحاق: {وَكُلًّا جَعَلْنَا نَبِيًّا} [مريم: 49]•
وقوله تعالى عنهم: {وَجَعَلْنَا لَهُمْ لِسَانَ صِدْقٍ عَلِيًّا} هذا إنعام أخر مقابل الهجرة في سبيل الله حيث يجعل الله تعالى لهم لسان الصدق في الآخرة فسائر أهل الإيمان الإلهية يثنون على إبراهيم وذريته بأطيب الثناء وأحسنه وهو لسان الصدق العلي الرفيع الذي حظي به إبراهيم وولديه إكرامًاً من الله تعالى وإنعامًا عليهم جزاء صدق إبراهيم وصبره وبالتالي هجرته للأصنام وعابديها (1)..
ولما أمره بهجره الزمان الطويل أخبره بأنه يتمثل أمره ويعتزله وقومه ومعبوداتهم، فهاجر إلى الشام قيل أو إلى حران وكانوا بأرض كوثاء، وفي هجرته هذه تزوج سارة ولقي الجبار الذي أخدم سارة هاجر، والأظهر أن قوله {وَأَدْعُو رَبِّي} معناه وأعبد ربي كما جاء في الحديث: «الدعاء العبادة» لقوله: {فَلَمَّا اعْتَزَلَهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ}، ويجوز أن يراد الدعاء الذي حكاه الله في سورة الشعراء {رَبِّ هَبْ لِي حُكْمًا} إلى آخره، وعرض بشقاوتهم بدعاء آلهتهم في قوله: {عَسَى أَلَّا أَكُونَ بِدُعَاء رَبِّي شَقِيًّا } مع التواضع لله في كلمة: (عَسَى) وما فيه من هضم النفس.
وفي {عَسَى} ترج في ضمنه خوف شديد، ولما فارق الكفار وأرضهم أبدله منهم أولادًا أنبياء، والأرض المقدّسة فكان فيها ويتردد إلى مكة فولد له إسحاق وابنه يعقوب تسلية له وشدّاً لعضده، وإسحاق أصغر من إسماعيل، ولما حملت هاجر بإسماعيل غارت سارة ثم حملت بإسحاق، وقوله: {مِن رَّحْمَتِنَا} قال الحسن : هي النبوة.
وقال الكلبي: "المال والولد، والأحسن أن يكون الخير الديني والدنيوي من العلم والمنزلة والشرف في الدنيا والنعيم في الآخرة". ولسان الصدق: الثناء الحسن الباقي عليهم آخر الأبد. قاله ابن عباس: "وعبر باللسان كما عبر باليد عما يطلق باليد وهي العطية" (2).
{عَسَى أَلَّا أَكُونَ بِدُعَاء رَبِّي شَقِيّاً} أي: عسى ألا أشقى بعبادته، أو: لا أخيب في طلبه، كما شقيتم أنتم في عبادة آلهتكم وخبتم.
ففيه تعريض بهم، وفي تصدير الكلام بـ(عسى). من إظهار التواضع وحسن الأدب، والتنبيه على أن الإجابة من طريق الفضل والكرم، لا من طريق الوجوب، وأن العبرة بالخاتمة والسعادة، وفي ذلك من الغيوب المختصة بالعليم الخبير ما لا يخفى (3)..
{عَسَى أَلَّا أَكُونَ بِدُعَاء رَبِّي شَقِيّاً} فيه من الدلالة على مزيد أدبه عليه السلام مع ربه عز وجل ما فيه، ومقام الخلة يقتضي ذلك فإن من لا أدب له لا يصلح أن يتخذ خليلًا (4).
{عسَى أَلَّا أَكُونَ بِدُعَاءِ رَبِّي شَقِيًّا} أي خائبًا ضائعًا غير مقبول في دعائي وعبادتي، فإن ذلك هو الشقاء الأكبر، وهذا الرجاء كان لفرط إخلاصه للَّه تعالى، وخشيته من غضبه وطرده، فإن الحبيب دائما يخشى من غضب محبوبه، ويعمل على رضاه ويخشى من غضبه، وخليل اللَّه الذي اختاره اللَّه تعالى خيلًا، وقال: {وَاتَّخَذَ اللَّهُ إِبْرَاهِيم خَلِيلًا}، كان أشد ما يخشاه غضب ربه، وأن يرد عبادته فيشقى بهذا الرد، وقال: {عَسَى} الدالة على الرجاء تواضعًا للَّه واستصغارًا لعبادته، وكان بهذا المخلص البر الحبيب المحبوب، إذ غلَّب الخوف ليصلح أمره وأنه إذ اعتزلهم حرم من أنس أهله، فوهبه البنين والذرية (5).
{عسَى أَلَّا أَكُونَ بِدُعَاءِ رَبِّي شَقِيًّا} أي: عسى ألاَّ أكون شقيًا بسبب دعائي لربي، لأنه تبارك وتعالى لا يُشقي مَنْ عبده ودعاه ، فإنْ أردتَ المقابل فَقُلْ : الشقيُّ مَنْ لا يعبد الله ولا يدعوه (6).
{عَسَى أن لا أَكُونَ بِدُعَاءِ رَبِّي شَقِيًّا} أي: عسى الله أن يسعدني بإجابة دعائي، وقبول أعمالي، وهذه وظيفة من أيس ممن دعاهم، فاتبعوا أهواءهم، فلم تنجع فيهم المواعظ، فأصروا في طغيانهم يعمهون، أن يشتغل بإصلاح نفسه، ويرجو القبول من ربه، ويعتزل الشر وأهله (7).
والشقي: الذي أصابته الشقوة، وهي ضد السعادة، أي هي الحرمان من المأمول وضلال السعي، وأطلق نفي الشقاوة والمراد حصول ضدها وهو السعادة على طريق الكناية إذ لا واسطة بينهما عرفا.
ومثل هذا التركيب جرى في كلامهم مجري المثل في حصول السعادة من شيء، ونظيره قوله تعالى في هذه السورة في قصة إبراهيم {عسَى أَلَّا أَكُونَ بِدُعَاءِ رَبِّي شَقِيًّا} أي عسى أن أكون سعيدا، أي مستجاب الدعوة.
وفي حديث أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم فيما يرويه عن ربه في شأن الذين يذكرون الله ومن جالسهم: «هم الجلساء لا يشقي بهم جليسهم» (صحيح). أي يسعد معهم.
وزاد على الإعلان باعتزال أصنامهم الإعلان بأنه يدعوا الله احتراسًا من أن يحسبوا أنه نوى مجرد اعتزال عبادة أصنامهم فربما اقتنعوا بإمساكه عنهم، ولذا بين لهم أنه بعكس ذلك يدعوا الله الذي لا يعبدونه.
وعبر عن الله بوصف الربوبية المضاف إلى ضمير نفسه للإشارة إلى انفراده من بينهم بعبادة الله تعالى فهو ربه وحده من بينهم، فالإضافة هنا تفيد معنى القصر الإضافي، مع ما تتضمنه الإضافة من الاعتزاز بربوبية الله إياه والتشريف لنفسه بذلك.
وجملة: {عسَى أَلَّا أَكُونَ بِدُعَاءِ رَبِّي شَقِيًّا} في موضع الحال من ضمير "وادعوا"، أي راجيا أن لا أكون بدعاء ربي شقيا.. وفي إعلانه هذا الرجاء بين ظهرانيهم تعريض بأنهم أشقياء بدعاء آلهتهم (8).
اعلم أنه ما خسر على الله أحد فإن إبراهيم عليه السلام لما اعتزلهم في دينهم وفي بلدهم واختار الهجرة إلى ربه إلى حيث أمره لم يضره ذلك دينًا ودنيا، بل نفعه فعوضه أولادًا أنبياء ولا حالة في الدين والدنيا للبشر أرفع من أن يجعل الله له رسولًا إلى خلقه ويلزم الخلق طاعته والانقياد له مع ما يحصل فيه من عظيم المنزلة في الآخرة، فصار جعله تعالى إياهم أنبياء من أعظم النعم في الدنيا والآخرة، ثم بين تعالى أنه مع ذلك وهب لهم من رحمته أي وهب لهم من النبوة ما وهب ويدخل فيه المال والجاه والأتباع والنسل الطاهر والذرية الطيبة..
ثم قال: {وَجَعَلْنَا لَهُمْ لِسَانَ صِدْقٍ عَلِيّاً} ولسان الصدق الثناء الحسن وعبر باللسان عما يوجد باللسان، كما عبر باليد عما يعطي باليد وهو العطية، واستجاب الله دعوته في قوله: {وَاجْعَلْ لِي لِسانَ صِدْقٍ فِي الآخِرِينَ} [الشعراء: 84] فصيره قدوة حتى ادعاه أهل الأديان كلهم (9).
أجل الكتب وأفضلها وأعلاها، هذا الكتاب المبين، والذكر الحكيم، فإن ذكر فيه الأخبار، كانت أصدق الأخبار وأحقها، وإن ذكر فيه الأمر والنهي، كانت أجل الأوامر والنواهي، وأعدلها وأقسطها، وإن ذكر فيه الجزاء والوعد والوعيد، كان أصدق الأنباء وأحقها وأدلها على الحكمة والعدل والفضل، وإن ذكر فيه الأنبياء والمرسلون، كان المذكور فيه أكمل من غيره وأفضل، ولهذا كثيرا ما يبدئ ويعيد في قصص الأنبياء، الذين فضلهم على غيرهم، ورفع قدرهم، وأعلى أمرهم، بسبب ما قاموا به من عبادة الله ومحبته والإنابة إليه، والقيام بحقوقه، وحقوق العباد، ودعوة الخلق إلى الله، والصبر على ذلك، والمقامات الفاخرة، والمنازل العالية.
فذكر الله في هذه السورة جملة من الأنبياء، يأمر الله رسوله أن يذكرهم، لأن في ذكرهم إظهار الثناء على الله وعليهم، وبيان فضله وإحسانه إليهم، وفيه الحث على الإيمان بهم ومحبتهم، والاقتداء بهم (10).
الهوامش
(1). أيسر التفاسير، أبو بكر الجزائري:2/414
(2). البحر المحيط:8/39
(3). تفسير ابن عجيبة، البحر المديد:3/465
(4). تفسير الألوسي:12/84
(5). زهرة التفاسير: 9/4653
(6). خواطر الشيخ الشعراوي: 1/5562
(7). تفسير السعدي: 1/494
(8). التحرير والتنوير، ابن عاشور: 16/51 بتصرف يسير
(9). تفسير الرازي: 10/319
(10). تفسير السعدي: 1/494
د/ خالد سعد النجار
[email protected]