بعد إقرار الدستور نريد: (خلافًا بدون استقطاب، تطهيرًا بدون انتقام، حُكمًا بدون انفراد)
عبد المنعم الشحات
هذه خطوط عريضة لخارطة طريق (ما بعد الدستور).
- التصنيفات: الواقع المعاصر - قضايا إسلامية معاصرة -
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد:
فلقد أنجز الشعب المصري خطوة عظيمة بعد عامين تقريبًا من الثورة المصرية، فقد أصبح لدينا:
1- رئيس منتخب من الشعب وصل إلى هذا المنصب بعد ماراثون طويل.
2- دستور وضعته جمعية تأسيسية منتخبة وأقره الشعب في استفتاء شعبي رائع.
وهي أمور ينبغي أن يفخر بها أي مصري، بغض النظر عن كونه مؤيدًا للرئيس أم معارضًا، مؤيدًا للدستور أم معارضًا، لأننا نتحدث هنا عن استحقاق للشعب المصري بأكمله.
وثمة استحقاقات على جميع المشتغلين بالسياسة تجاه شعب عظيم صبور ينتظر منهم أن يعملوا من أجله، ومِن ثَمَّ فإننا في حاجة إلى أن نضع أسسًا نسير عليها في المرحلة القادمة.
وبالتحديد في الموضوعات الآتية:
أولاً: إدارة الخلاف السياسي والذي نرجو أن نصل في إدارته إلى أن يكون (خلافًا بدون استقطاب).
ثانيًا: تطهير مؤسسات الدولة من آفات الماضي والذي نريده أن يكون (تطهيرًا بدون انتقام).
ثالثًا: الحزب الحاكم وعلاقته بباقي الأحزاب والذي نريده (حكمًا بدون انفراد).
أولاً: خلاف بدون استقطاب:
إن مرحلة التأسيس عادة ما تشهد استقطاب أيديولوجي حاد، لرغبة كل فريق في أن يرى بلاده في الصورة التي يتمناها والتي يراها أكمل من وجهة نظره، ولكن وبعد إقرار الدستور فهناك قواسم مشتركة وهموم مشتركة ينبغي أن نسعى جميعًا لعلاجها من المشكلات الاقتصادية والإدارية المتراكمة عبر سنوات طويلة.
وهذه (روشتة) لعلاج الاستقطاب الحادث في المجتمع في قضايا (الدستور، الفلول، الحملات الإعلامية المتبادلة).
1- بالنسبية للدستور:
في أثناء الحوار حول الدستور طفت على السطح القضايا التي تمس هموم المواطن، من التعليم والصحة والعدالة الاجتماعية، والحد الأدنى للأجور والمعاشات والحد الأقصى، وضمان حقوق المواطن أمام الدولة، لا سيما الجهات الأمنية، وللرافضين للدستور اعتراضات على تلك المواد، في حين رأى الموافقون أن المعترضين يفسرون تلك المواد تفسيرًا متعسفًا، ودار سجال حسمه نحو ثلثي الناخبين بالموافقة.
ومما سبق يمكننا أن نخلص إلى الأتي:
أ- مواد الهوية خط أحمر:
مواد الهوية (2 - 4 - 6 - 10 - 81 - 219)، كانت أحد المرجحات القوية عند الموافقين، فإذا نظرنا إلى المعترضين على الدستور وجدنا أن موقفهم منها مر بثلاثة مراحل:
المرحلة الأولى:
الموافقة على هذه المواد داخل اللجنة التأسيسية من باب التوافق حيث كان (التيار السلفي) يرغب في صياغات أقوى من هذه، وكان (التيار المدني) راغبًا بالطبع في ضد ذلك فتم التوافق على هذه الصيغ.
المرحلة الثانية:
الاعتراض المفاجئ والذي كان مرتبطًا فيما يبدو بتسريبات من المحكمة الدستورية بقرب حل التأسيسية مما دفع (التيار المدني) إلى اشتراط حذف هذه المواد أو الانسحاب من التأسيسية.
المرحلة الثالثة:
بعد ما أنجزت التأسيسية عملها وعُرض الدستور على الاستفتاء اتجه الرافضون إلى الاعتراض على مواد أخرى، وتجنبوا ذكر هذه المواد -ذكر بعضهم المادة 10 على استحياء- مما يعني أن هناك اتفاقًا على حرص الشعب على المواد المعبِّرة عن الهوية، فعلى الجميع مراعاة ذلك، لأن أي محاولة للمساس بها هو إعادة إنتاج (لاستفتاء 19 مارس، 15 ديسمبر)، وربما أكثر.. وإذا كان التيار المدني يتهم الإسلاميين بتوظيف الشريعة في معركة ليست طرفًا فيها فعليه بالفعل أن يُخرج محاولة هز مرجعية الشريعة من دائرة اهتماماته وإلا بقي الاستقطاب.
ب- إذا سلمنا بالمرجعية الدستورية للشريعة فلا بأس أن يعمل الليبراليون على تكريس الحريات بما لا يتعارض مع قيم المجتمع، ومنه: (الشريعة)، وسوف يلتقون في تلك النقطة مع الإسلاميين، أو مع معظمهم على الأقل.
ت- وكذلك يمكن للاشتراكيين أن يهتموا أكثر بالعدالة الاجتماعية، وللمرة الثانية طالما كان ذلك في ظل الشريعة فسوف يلتقون مع الإسلاميين.
ث- ويمكن للقوميين أن يعتنوا بتعزيز العلاقات العربية، والتي سوف يلتقون فيها أيضًا مع الإسلاميين.
جـ- بحكم الدستور لا يمكن أن تسن قوانين جديدة تخالف الشريعة، وأما تنقية القوانين السابقة فعلى الإسلاميين ألا ينفردوا بدراسة التبعات والخطوات، ويجب أن تخضع جميع الخطوات لنقاش مجتمعي واضح وشفاف.
حـ- بقية المواد يمكن أن تطرح للنقاش المجتمعي وللنقاش داخل البرلمان، ولا يوجد الآن على رقابنا سيف الوقت ولا هاجس الفراغ الدستوري، فهناك دستور يحدد شكل مؤسسات الدولة، وعلاقة كل منها بالأخر، وعلاقة كل منها بالمجتمع، والذي نفضله في ذلك أن تحل الأمور في القوانين المكملة إلى حين تجميع حزمة تعديلات دستورية بعد دراسة كل ما نحتاج إلى تعديله، لا سيما ومعظم اعتراضات المعترضين يمكن استيعابها بقوانين، ولنضرب على ذلك أمثلة بقضية كانت من أكثر القضايا التي طرحت مِن قِبَل المعترضين على الدستور وكيف أن معالجتها على مستوى القانون ممكنة وميسورة.
مثال: ربط الأجر بالإنتاج أم بالأسعار -ويُعنى به هنا كيفية تحديد العلاوة السنوية مع أن القانون يحدد لها حدًا أدنى أصلاً، ورغم إدراكنا مدى صعوبة وخطورة ربط الأجر بالأسعار إلا أنه إذا افترضنا أن الحوار المجتمعي أثمر الانحياز لهذه الفكرة، فمع ملاحظة أن الدستور نص على ربط الأجر بالإنتاج ولم ينص على منع غيره من المعايير فيمكن في القانون أن ينص على ربط الأجر بالإنتاج والأسعار معًا.
مثال أخر: إبلاغ المحتجز بتهمته كتابة خلال 12 ساعة -والتي أثارت الكثير من الجدل- يمكن أن ينص القانون على إبلاغه شفاهة فورًا وكتابة خلال 12 ساعة، ولا أظن أن أحدًا يطالب بإخباره كتابة فورًا، لاستحالة هذا.
2- بالنسبة لموضوع الفلول:
نرى أن الواجب بعد إقرار الدستور الاقتصار في تعريف (الفلول) على مَن ورد وصفهم في الدستور، والتعامل مع باقي أعضاء الحزب الوطني السابق بمقتضى القواعد الطبيعية، فمن تورط في جريمة ينال عليها عقابه القانوني، وبالتبع سوف يمنع من مباشرة حقوقه السياسية، ومن رأى منه الناس فسادًا وإن لم يثبت قانونًا فسوف يعاقبهم الجمهور انتخابيًّا ويجب على الأحزاب ألا تخجل من عضوية أعضاء سابقين في الحزب الوطني لمجرد العضوية السابقة في الحزب الوطني، وفي المقابل يجب تغليظ عقوبة الرشاوى الانتخابية واستخدام البلطجة في الانتخابات، لمنع عودة ممارسات الوطني المنحل سواء عن طريق أفراده أو عن طريق غيرهم.
3- الحملات الإعلامية المتبادلة:
لحل مشكلة الإعلام لا بد من ميثاق يلتزم فيه الجميع بالآتي:
1- مصداقية الأخبار: فلا يتم نشر الأخبار إلا بعد التأكد منها، وأن يقف المجتمع كله أمام أي وسيلة إعلامية تمارس الابتزاز السياسي عن طريق نشر أخبار مغرضة.
2- بالنسبة لما تقدمه كل وسيلة من أراء فنقترح أن تصنف كل وسيلة إعلامية نفسها: إما أنها محايدة، وإما أنها لسان حال تيار ما مثل (التيار الإسلامي أو الليبرالي أو اليساري) أو... فإذا اختارت لنفسها الاختيار الأول فيجب أن يتضح هذا في سلوكها الإعلامي وبرامجها الحوارية وغيرها... وإن اختارت الثاني، فلا حرج عليها حينئذٍ في الانحياز للفكرة التي رفعت رايتها على ألا يكون ذلك على حساب المصداقية في الخبر.
3- وعلى كل حال لا يجوز بحال من الأحوال أن نتجاوز من نقد الفكرة إلى نقد الشخص كإنسان، فضلاً عن السب والشتم والبذاءة التي قال فيها النبي صلى الله عليه وسلم: «لَيْسَ الْمُؤْمِنُ بِالطَّعَّانِ، وَلا اللِّعَانِ، وَلا الْبَذِيءِ، وَلا الْفَاحِشِ» (رواه أحمد والترمذي، وصححه الألباني)، وقال مبينًا أهم السمات السلوكية للمسلم تجاه مجتمعه: «الْمُسْلِمُ مَنْ سَلِمَ الْمُسْلِمُونَ مِنْ لِسَانِهِ وَيَدِهِ» (رواه البخاري ومسلم).
وأولى الناس بذلك هم المنتسبون إلى الدعوة الذين هم أولى الناس بقوله تعالى: {ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ} [فصلت:34].
ثانيًا: تطهير بغير انتقام:
يجب أن يدرك المجتمع وتعي الدولة أننا ورثنا دولة قد دب الضعف في أوصالها، وتفشت في جهازها الإداري الكثير من الأمراض مما يستوجب تحركًا سريعًا لإنقاذ البلاد، لا نقول هذا من منطلق نظرة تشاؤمية، بل نثق في الله عز وجل الذي أزاح عنا النظام السابق بكل جبروته، والذي عصم البلاد من كثير من المصائب التي دُبِّرت لها بليل، وبعد هذا نثق أن بلادنا غنية بشعبها غنية بمواردها، ولكن كل هذا يحتم علينا سرعة التحرك وفي الاتجاه السلمي الصحيح، وفي الاتجاه التصالحي الذي يبني ويرمم -إن اقتضى الحال- ولا يهدم البنيان على مَن فيه.
وإذا كنا متفقين على توصيف هذا الواقع... فماذا يمكننا أن نفعل لإصلاحه؟
سمعنا بالبعض يطالب بإحالة جميع العاملين في بعض الأجهزة -كالشرطة مثلاً- إلى المعاش، وهي إجراءات لا تناسب ثورة سلمية ولا تناسب شعب مصر، وليس من شأنها أن تؤدي بنا إلى استقرار.
وإنما المفترض في هذا الجانب أن يتم الآتي:
1- من وجهت إليه بشخصه تهم محددة واضحة المعالم، فلا بد وأن يُتعامل معها بطريقة قانونية طبيعية تطبق فيها قواعد العدالة، وعلى رأسها: (المتهم بريء حتى تثبت إدانته).
2- الفساد العام المستشري في الأجهزة المختلفة، لا بد وأن يُواجه بحملات قومية حكومية ومجتمعية، من أجل توعية القائمين على العمل في هذه الهيئات من الناحية القانونية والإدارية، وبث اليقظة الدينية التي تساعدهم على التغلب على أمراض الرشوة والمحسوبية والإهمال وغيرها من الأمراض، كما يجب تأهيلهم مهنيًّا في كيفية أداء عملهم بإتقان ومع أمانة.
3- وبعد إعطاء الفرصة الكافية لتأقلم جميع العاملين في الجهاز الإداري للدولة وفق المنظومة الجديدة القائمة على الطهارة والتي تعلي من شأن المواطن وتحترم القانون، يمكن في هذه الحالة رصد المتمردين على ذلك الوضع والمصرِّين على ثقافة الماضي وإحالتهم للمعاش أو التقاعد أو المحاكمات التأديبية أو غيرها من الإجراءات التي تكفل لنا تغييرًا هادئًا وإن كان بطيئًا بعض الشيء في اتجاه الدولة التي تحترم مواطنيها وتلتزم بقوانينها.
ثالثًا: حكم بدون انفراد:
من الأمور التي تثير رعبًا في كثير من الأوساط ما يسميه بعضهم بـ(أخونة الدولة المصرية)، وفي هذا الصدد يجب التفريق ما بين الوظائف السياسية والوظائف الإدارية، وبين الوظائف التي يُختار شاغلوها بالانتخاب وبين مَن يختار شاغلوها بالتعيين.
فإذا استصحبنا هذا سنجد أن هناك وظائف لا خلاف على أحقية الرئيس في اختيار أفرادها مع إعطاء الأولوية لأفراد حزبه، مثل: (المساعدين، والمستشارين) ممن لا يتحملون أمام الرأي العام أي تبعة، وإنما يكون ما ينصحون أو يعينون به الرئيس جزءًا من أداء الرئيس أمام الرأي العام.
وهناك وظائف حدد لها الدستور آلية معينة أو لم يحدد، ولكن جرى العرف بمراعاة ضوابط معينة مثل اختيار الوزارة، والذي نراه أن مصر الآن في حاجة إلى وزارات (تكنو قراط) تقدَّم فيها الخبرة على الانتماء الحزبي، لعلاج الأثار الاقتصادية المترتبة على طول المرحلة الانتقالية.
وإذا كنا نميل في هذه المرحلة إلى اختيار وزراء (تكنو قراط) فمن باب أولى المحافظين، لا سيما مع وجود طموحات بجعل المحافظين بالانتخاب وهو أمر لا تحتمله مصر في هذه المرحلة، ولكن يمكن للرئيس إذ لم يلزمه الدستور بذلك أن يقترب من هذا النموذج عن طريق عمل استطلاعات رأي بشأن تعيينات المحافظين، وأن يحرص على أن يختار المحافظ من بين القيادات الشعبية والتنفيذية في المحافظة.
هذا بالنسبة للمناصب السياسية أما المناصب الإدارية -وهي تشمل بداية من وكيل وزارة إلى العمالة المؤقتة- فأي شبهة محاباة أو تمييز أو حتى تعويض عن سنوات الحرمان للحزب الحاكم، أو حتى للأحزاب المتحالفة معه -يعني التيار الإسلامي كله- فأمر في غاية الخطورة، وينبغي عدم ترك الباب مواربًا في هذه القضية، ويجب التتبع الدقيق لأي محاولة يمكن إن تركناها أن تعيد ولو ببطء إنتاج النظام السابق مع تبدل المقاعد أو حتى تثير في النفوس أدنى درجة من الريبة، ولذلك فلم يكن وزير الإعلام موفقًا حينما قال مازحًا: "لو كان هناك إخوان في ماسبيرو لاستعملتهم في أخونة ماسبيرو!"، فمثل هذا القضايا لا تحتمل المزاح.
وما دام أفراد (التيار الإسلامي) بشرًا وليسوا ملائكة فلا بد وأن يعطوا الناس الحق ألا يوقِّعوا لهم على بياض، نعم رأى الناس الإسلاميين دعاة ورأوهم معارضين، إذا فلنعطهم الحق أن يراقبوا بحذر تجربتهم كحكام.
وفي المقابل: نرجو من الإعلام أن يساعد الجمهور في الرقابة وفق ثقافة الشعب المصري: "حذر وما تخونش"، وأما محاولة دفع الشعب المصري إلى تخوين حكامه الذين اختارهم لأول مرة في تاريخه فوأد للتجربة في مهدها، ثم إنها إن خوفت البعض فإنها في الوقت ذاته سوف تدفع البعض الآخر إلى التأييد المطلق، ولنضرب على ذلك مثالاً بموقف (الدعوة السلفية، وحزب النور) من الإعلان الدستوري الصادر في (22 نوفمبر)، والذي أثار لغطًا كبيرًا.
لقد كانت (الدعوة السلفية) من أوائل مَن تحفـَّظ على بعض مواده، وبينما هي تمارس تلك المعارضة البناءة إذا بها تجد أن هناك قوى تريد أن تجعل من معارضتها لهذا الإعلان مسوغًا لإسقاط شرعية الرئيس، فما كان من (الدعوة السلفية) إلا أن شاركت وبكل قوة في مليونية (الشرعية والشريعة) وهو ما اعتبره البعض تناقضًا، ولكن الواقع أن المعارضة الهوجاء هي التي دفعتنا إلى الوقوف أمامها بكل قوة.
كما ندعو الإعلام -إن أراد أن يكون إعلامًا هادفًا- حينما يجد خطأ فرديًّا أن يكشفه ويوضحه، ولكن يضعه في إطاره وحجمه الطبيعي ثم ينتظر الإجراءات التصحيحة، فإن وجدت فينبغي عليه أن يبرزها، وإلا استمر في تسليط الضوء عليها.
وبعد: فهذه خطوط عريضة لخارطة طريق (ما بعد الدستور)، نسأل الله أن تـَلقى قلوبًا صافية وأذانًا صاغية وسواعد متعاونة.