الشيخ سلطان العويد.. فقيد الدعوة والإحسان
لقد سطر الشيخ العويد رحمه الله اسمه في عالم الدعوة والأخلاق والعلم بعد أن انتهج الصدق والإخلاص مع الله -نحسبه كذلك- فبلغه الله منزلة علية بين خلقه وجعل محبته في قلوبهم ورزقه الذكر الحسن، فرحم الله الشيخ سلطان العويد.
لم يكن الوقع الذي أحدثته وفاة الشيخ سلطان العويد هيناً في قلوب كثيرين ممن عرفوه وأحبوه، فهذا الداعية الرباني الذي شهد بفضله القاصي والداني، قد اهتزت القلوب لخطبه وكلماته فلا غرو أن تهتز حزناً على فراقه، بعد أن وافته المنية فجأة إثر حادث أليم وهو في طريقه عائد من المدينة النبوية.
والشيخ سلطان بن حمد العويد هو أحد أبرز دعاة المنطقة الشرقية بالمملكة العربية السعودية وأشهر خطبائها، فقد ولد في مدينة الثقبة بمحافظة الخبر يوم الجمعة السابع عشر من شوال من عام 1386، وبها أتم المراحل الدراسية الأولى ثم التحق بكلية أصول الدين بفرع جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية بالأحساء، ولتميز الشيخ ونبوغه عين معيداً في نفس الكلية في قسم أصول الدين واستمر كذلك مدة عامين.
وقد حفظ الشيخ سلطان العويد القرآن وأتقن حفظه خلال السنة الأولى من دراسته الجامعية، كما انكب في تلك الفترة على قراءة الكتب، فقد كان مولعا بالقراءة في العلوم الشرعية واللغوية والأدبية، إضافة إلى كتب التاريخ والاقتصاد، مما شجعه على الالتحاق بجامعة الملك سعود بالرياض لإكمال دراساته العليا فاختار العقيدة، لكنه لم يكمل دراسته الأكاديمية وآثر طلب العلم والانشغال بالعمل الدعوي.
وقد عُرِف عن الشيخ رحمه الله حرصه على طلب العلم، وحفظ المتون، وحفظ فتاوى كبار العلماء، وقد طلب العلم على العديد من العلماء وجالسهم كفضيلة الشيخ العلامة عبد الرحمن بن ناصر البراك، والشيخ عبد المحسن الزامل، والشيخ عبد العزيز الراجحي، والشيخ مانع القطان رحمه الله والشيخ الألباني رحمه الله، كما جالس كل من الشيخين ابن عثيمين وابن باز رحمهما الله.
وفي عام 1413هـ تم تعيين الشيخ سلطان العويد في الرئاسة العامة للإفتاء في مدينة الدمام والتي صارت فيما بعد تعرف بوزارة الشؤون الإسلامية والأوقاف والدعوة والإرشاد، وعمل داعية فيها، وفي ذات العام عين إماما وخطيباً لجامع فيصل بن تركي بحي الجلوية بمدينة الدمام، واستمر حتى طلب الإعفاء من إمامة المساجد فتمت الموافقة على طلبه لكنه بقي يخطب في الجامعة حتى وفاته رحمه الله.
والشيخ العويد ممن تأثروا بالشيخ ابن عثيمين رحمه الله بعلمه وسمته وفقهه، واستنباطه للأحكام من آيات القرآن الكريم، حتى إن الشيخ ابن عثيمين كان ممن أشار عليه بالدراسة الجامعية في العلوم الشرعية، لما رأى منه الحرص على طلب العلم والنباهة والحفظ، فقد كان الشيخ العويد متفوقاً في دراسته وكان يميل إلى اللغة العربية وعلومها، وكان ينوي الدراسة في هذا المجال في جامعة الملك سعود، كما أن الفرصة سنحت له أيضا للدراسة في جامعة البترول بالظهران إلا أن نصيحة الشيخ ابن عثمين كان لها الأثر.
وكان الشيخ العويّد رحمه الله معلماً ومربياً ومتواضعاً، يحب الاحتساب والمحتسبين والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والسعي لقضاء حوائج الناس، وكان من أكرم الناس في وقته، يعطي عطاء من لا يخشى الفقر، ويساعد المحتاجين والمعوزين، وكان يطرق بابه الفقراء والضعفاء والأرامل، ولم يُعلم أنه ردّ محتاجاً أو رجع من عنده من أتاه إلا وهو قرير العين مسرور البال مقضي الحاجة والطلب.
ومن المواقف التي لم يُعلم عنها إلا بعد وفاته: أن اختلف المقاول الذي يرمم الجامع الذي يخطب فيه مع التاجر المتبرع على مبلغ قرابة 500 ألف ريال، مما سيؤدي إلى تأخير انتهاء الترميم فدفعها الشيخ سلطان محتسباً.
ولم يكن الفقراء والضعفاء هم وحدهم من افتقد الشيخ ونعاه، بل حتى الجمعيات والمبرات الخيرية، فكان للشيخ جهود ملموسة في دعم تلك الجمعيات، وتوجيه التجار لها وربطهم بها وحثهم على دعمها، كما كان لا يتوانى عن تلبية دعوات الجهات الخيرية للمشاركة بالرأي والمشورة.
والشيخ العويد رحمه الله هو من أسس جمعية الوئام للمساعدة على الزواج والرعاية الأسرية في المنطقة الشرقية عام 1431هـ، وكان هو نائب رئيس مجلس إدارتها، كما كان عضواً بمجلس الأمناء لجائزة الأمير محمد بن فهد للدعوة، وتولى فضيلته القيام على شؤون أوقاف العديد من تجار المملكة.
وكان الشيخ سلطان رحمه الله يحمل هم ّ أمته، فلم يأل جهداً في مناصرة قضايا المسلمين في فلسطين وكوسوفا والشيشان والعراق وسوريا، كما كان كثير السفر والترحال للدعوة وتقديم العون للمسلمين في كل مكان، فبلغ عدد الدول التي زارها لذلك 38 دولة؛ فتراه في بنجلاديش يقدم دورة للدعاة، ثم يفتتح مسجداً في السودان، ثم تسمع أنه يحاضر في عدد من دول أوروبا، ثم في اليمن متفقداً حال المحتاجين ومشاريعه الدعوية، ثم لا يلبث أن يشارك جمعية البصر في مخيماتها العلاجية في غالب دول أفريقيا وهكذا.
وكان محبا للجميع القريب والغريب، الصغير والكبير، الشاب والشيخ، ومن ذلك ما قاله عنه عبد العزيز بن سليمان التويجري خطيب جامع ابن عثيمين بالخبر عضو التوعية الإسلامية في الحج: "كان رحمه الله يتفقد جماعة مسجده في صلاة الفجر، ذات مره رأيته بعد صلاة الفجر يسلم على شخص في أقصى ناحية المسجد ثم اقترب من شخص كان بجواري فانحنى إليه وسلم عليه وسمعته يقول له: نورت المسجد".
كان بينه وبين سكان حي الجلوية ألفة ومحبة، فقد كان يثني على عدد من كبار السن في الحي وعدهم لي ذات مرة بأسمائهم وقال لي عن أحدهم: "إنه يعدل سبعين رجلاً".
ويقول صديقه الشيخ د. (خالد السبت) عن علمه وخُلقه: "طالما انتفع خلائق قُبالة منبره عبر سنين متطاولة تقرب من ربع قرن، يعظهم فيها ويفقههم ويصحح مفاهيمهم، وينير عقولهم بنور الوحي بعبارة قريبة سهلة لا تستعصي على السامع، فالجميع ينتفع ويعتبر، فقد كان رحمه الله يحمل همّ الإصلاح ويعالج قضايا المجتمع، ويعيش آلامهم ويوجههم في ملماتهم، فأحبوه واجتمعوا حول منبره حتى ضاق بهم المسجد على سعته كما ضاقت الطرق إلى المقبرة عند تشييع جنازته".
ويتابع الشيخ السبت: "وقد عرفت مسجده قبل أن يتولى إمامته وعرفته بعده، فلم يكن للمسجد اشتهار ومعرفة إلا بعد مجيئه، فأحياه حقا وصار المسجد يوم الجمعة قبلة يؤمها الناس، ولم يكن ذلك في الجمعة فحسب بل كان المسجد وساحاته يمتلئ بالمصلين في رمضان مع طول الصلاة مقارنة بغيره، حيث كانت له قراءة مؤثرة ترق القلوب عند سماعها، فإذا دعا في القنوت ذاك الدعاء المتتابع البليغ -من غير تكلف- ود من خلفه أن لا يتوقف".
ولحرصه على حفظ القرآن الكريم وتثبيته كان يقضي جلّ وقته في مراجعة القرآن الكريم إلى جانب مطالعة الكتب، وفي آخر عشر سنوات من عمره رحمه الله، انكب على دراسة الاقتصاد والأنظمة المالية والاقتصاد الإسلامي، كما شرع في عمل الدراسات والبحث في مجال الاقتصاد الإسلامي.
ومنذ تركه للوزارة ولم يتوقف عن طلب العلم وحفظ الفتاوى، كما اهتم بالحديث الشريف وتفسير القرآن الكريم، ومراجعة وتثبيت حفظه، وقد كان رحمه الله حريصاً على هذا الجانب، حتى إنه يقال بأن الشيخ العويد لم يعرف عنه أن أخطأ في تلاوته للقرآن من تمكنه وشدة حفظه.
وكان رحمه الله بارعاً في خطبه، مفوهاً في حديثه، متميزاً في طرحه، فقد كان إماما كفئاً لجامع الإمام فيصل بن تركي بالدمام، يقصده طلبة العلم، لدروسه ومحاضراته، وكان يحسن اختيار مواضيع خطبه، ويوجهها للكبير والصغير، للمثقف والعام، ويضع المعالجات الشرعية لقضايا الناس العملية ويعرضها في عبارات سهلة ورسائل مختصرة وواضحة، يلامس بها قلوب الجميع، وكان دائم الحديث عن قبول الناس للإسلام وأن المستقبل بإذن الله لهذا الدين وأهله.
ولم يُعرَف عن الشيخ العويد رحمه الله حبه للظهور الإعلامي والخروج في وسائله تورعاً منه وخشية من أن يدخل إلى قلبه شيء جراء الظهور أو الاشتهار، كما كان يتحاشى التصوير لنفس السبب، وكان يقول للمقربين منه: "هذا الإعلام مجال أخشى إن دخلته لا أعلم بعدها إلى أين سوف يذهب بي".
ويقول ولده أحمد العويد: كان باب والدي وقلبه مفتوحان للجميع، يزوره العامة والأعيان والمشايخ، ولا يمضي أسبوع دون أن يقيم والدي مأدبة أو مأدبتين لزواره، وكان محبوباً جداً من المشايخ من داخل المملكة وخارجها، لا يكاد يزور المنطقة أحد الدعاة أو العلماء إلا ويحرص على لقائه، وممن حضر في زيارته الشيخ الدكتور ناصر العمر، والشيخ عبد المحسن الزامل، والشيخ عبد الكريم الخضير، والشيخ العلامة عبد الرحمن المحمود، والشيخ أبو إسحاق الحويني، والشيخ مصطفى العدوي، ومفتي الجبل في لبنان، والشيخ محمد الجوز، ووزير الأوقاف القطري، والشيخ ناصر السنة في لبنان، وغيرهم كثير.
وعن معاملة الشيخ لأبنائه يقول أحمد العويد: "وكان رحمه الله يعاملنا معاملة الصديق لصديقه، ودائماً ما يأمرنا بالمحافظة على الصلاة، وبخاصة صلاة الفجر، ويدعونا دوما إلى التحلي بالأخلاق الفاضلة والتواضع والصدق والكرم، ودائماً ما يشجعنا على تلاوة القرآن الكريم وحفظه".
وعن الحادث يقول أحمد: "كان والدي قد عزم على السفر إلى المدينة لزيارة خالته هناك، وبعد أن حجز بالطائرة علم أن والدته قد سافرت قبله، فألغى حجز الطائرة وسافر إلى المدينة المنورة براً ليرافق والدته هناك في تنقلاتها، وفي طريق العودة وبالقرب من مدينة الغاط فوجئ بشاحنة خرجت من الطريق المقابل وانقلبت على سيارتهم فتوفي والدي في الحال وأصيب ابن خاله د. (خالد الصالح) الذي كان يرافقه".
ويضيف: "توفي والدي وليس عليه إلا جرح بسيط، وأثناء إخراجه من السيارة وأثناء تغسيله، كان نير الوجه رافعاً سبابته رحمه الله".
وشيع الآلاف الشيخ العويد من ضمنهم رجال أعمال ومشايخ كبار أمثال الشيخ يوسف الأحمد والشيخ ناصر العمر، واكتظ جامع الإمام فيصل بن تركي في الدمام بحشود المصلين الذين قدموا من داخل وخارج المنطقة الشرقية للصلاة عليه في الجامع ذاته الذي كان الفقيد خطيبَ منبره، كما أدى آخرون يقدر عددهم بالآلاف الصلاة على المقبرة في جنازة لم تشهد المنطقة الشرقية مثلها حتى قيل إن مدينة الدمام كانت خالية أثناء جنازته.
لقد سطر الشيخ العويد رحمه الله اسمه في عالم الدعوة والأخلاق والعلم بعد أن انتهج الصدق والإخلاص مع الله -نحسبه كذلك- فبلغه الله منزلة علية بين خلقه وجعل محبته في قلوبهم ورزقه الذكر الحسن، فرحم الله الشيخ سلطان العويد، ووضع عنه وزره، ورفع ذكره، وجعل له لسان صدقٍ في الآخرين.
محمد لافي
- التصنيف:
- المصدر: