مقاومة المقاومة
هاني عبد الله
- التصنيفات: فقه الجهاد -
حق الشعوب في الدفاع عن نفسها وفي مقاومة الاحتلال الأجنبي من
الحقوق المعترف بها عالمياً و دولياً، ومن الحقوق المنصوص عليها في
القوانين الدولية التي تضعها و تتفنن في صياغتها الدول المحتلة و
الغازية و المستعمرة نفسها!! فمن الحقوق المتفق عليها بداهةً -و لا
مجال للجدال فيها- هو حق الشعوب في المقاومة و الدفاع عن النفس.
وأقل ما يجب على عموم المسلمين نحو إخوانهم في الدين الذين يقاومون
الاحتلال السافر، ويجاهدون دفاعاً عن بلادهم وأعراضهم، وهم يرونهم
يُحاربون ويُستضعفون، وتُنتهك حرماتهم وتُهدم ديارهم- أن ينصروهم
بالكلمة، والكلمة أقل شيء، فقد يعجز الإنسان ولا يتمكن من النصرة
بالنفس، لكن لا يعجز المرء عن نصرة أخيه بالكلمة.
لكن المؤسف حقاً أن تتبدل كلمة النصرة بقذائف المحاربة، وأن يتحول
الواجب من مساندة المقاومة ودعمها وتأييدها إلى محاربتها والنيل منها
ومنابذتها بكل السبل، ويتحول موقفنا من (دعم المقاومة) إلى (مقاومة
المقاومة).
ولا غرابة أن تكون مقاومة المقاومة هي سياسة أعدائنا المتّبعة؛ إذ إن
ذلك من طبيعة المعركة، ومن لوازم الصراع بيننا وبينهم، و لذلك فإن أي
صورة من صور المقاومة والدفاع عن النفس في البلاد الإسلامية تجاه
الغازين والمحتلين هي من صور الإرهاب الذي لابد من محاربته والقضاء
عليه في حسّ السياسة الأمريكية واليهودية.
فحين أصدر مكتب منسق مكافحة الإرهاب بوزارة الخارجية الأمريكية تقريره
عن المنظمات الإرهابية الأجنبية بعد أحداث الحادي عشر من سبتمبر،
والذي يضم المنظمات والجماعات الإرهابية على مستوى العالم، التي تهدد
مصالح الولايات المتحدة وحلفائها، فقد ضم هذا التقرير(28) منظمة
وجماعة، من بينها (15) جماعة تنتمي إلى دول وبلاد إسلامية، وعلى رأسها
حركة المقاومة الإسلامية (حماس)، وحركة الجهاد الإسلامي الفلسطينية،
وجبهة التحرير الفلسطينية، و غيرها، والجدير بالذكر في هذا المقام أن
منظمة مثل منظمة التحرير الفلسطينية كانت ضيفاً دائماً على هذه
القائمة الدورية -والتي يُعاد تصنيفها كل عامين- في حقبة السبعينيات
والثمانينيات من القرن الماضي حين كانت تنتهج نهج المقاومة والعمل
المسلح، ثم رُفعت منها بعد ذلك بعد أن تغير موقفها من القضية، ولم تعد
ترى لها سبيلاً إلا سبيل المفاوضات.
وليس من الغريب أن تكون هذه هي نظرة السياسة الأمريكية للمقاومة، لكن
المؤسف أن تتسرب هذه النظرة إلى صفوفنا، و تصير نظرة الكثيرين من
طائفة الساسة والمفكرين والمثقفين من بني أمتنا تجاه المقاومة، فتصير
مقاومة العدوان، ودفاع الأمم عن نفسها من الإرهاب المنبوذ الذي لابد
من محاربته!!
منذ أيام لما اشتد النزاع بين السلطة الفلسطينية وحركة المقاومة
الإسلامية (حماس) حتى وصل إلى درجة النزاع المسلح، قرأنا في الأخبار
بكل صراحة مدّ السلطات المصرية للسلطة الفلسطينية بالسلاح لدعمها ضد
المقاومة، في حين أنه إذا أُثبت دعم المقاومة الفلسطينية من أي جهة
داخل الأراضي المصرية بالمال أو السلاح، فإن ذلك الدعم قد يؤدي بصاحبه
للسؤال والمحاكمة التي ربما قد تقضي عليه بالسجن عدة سنوات.
وفي رمضان من العام الماضي كانت المعركة بين القوات الأمريكية ومجاهدي
المقاومة العراقية في الفلوجة قد بلغت أشدها، ووصل سير المعركة إلى
درجة من البشاعة شبهت فيها حال القتلى في الصف العراقي بقتلى
هيروشيما، واستخدم الجانب الأمريكي في القتال أسلحة محرمة وأساليب لا
إنسانية، في التعامل مع المقاومين ومن يؤويهم من مدنيين، وسط صمت
الحاكم العراقي المعين، ووسط صرخات واستغاثات أهالي الفلوجة بإيقاف
سيول النيران حتى يتسنى لهم دفن موتاهم وانتشال جثثهم التي تملأ شوارع
المدينة، وفي وسط كل هذا الجو الكئيب المظلم الذي تعتصر النفس منه
ألماً وكمداً صدر بيان موقع من (29) عالماً من السعودية يدعو
المجاهدين العراقيين للثبات والمقاومة، ويحثهم على الصبر والقتال،
ويبين أن قتالهم ودفاعهم من الجهاد المطلوب، ودعوة الشعب العراقي لعدم
مساندة جنود الاحتلال ودعمهم، ودعوة عموم المسلمين إلى نصرة إخوانهم
في العراق و الدعاء لهم، فما كان من وسائل الإعلام العربية والعالمية
إلا أن شنت حملتها الدعائية ضد هذا البيان وموقّعيه، و انطلقت الدعاوى
في وسائل الإعلام العالمية لتصف هؤلاء الموقعين بالإرهابيين ودعم
الإرهاب، حتى ظهر أحد المسؤولين الكبار في إحدى الدول العربية ليصف
هؤلاء بأنهم "لا يعبرون عن الإسلام الصحيح، ولا يعبرون عن علماء
السعودية"، وما لبثت أن مرت بضعة أيام حتى أصدرت إحدى الدول العربية
المجاورة قراراً بمنع هؤلاء الموقّعين جميعاً من دخول أراضيها، بحجة
دعمهم للإرهاب.
سلاح آخر من أسلحة مقاومة المقاومة هو استخدام الفتاوى، واتخاذها
وسيلة لإجهاض المقاومة ونزع الشرعية عنها، فتصدر الفتاوى عن عدة جهات
تلح وتؤكد أن المقاومة في البلدان الإسلامية المحتلة ليست مشروعة ولا
مطلوبة، وأنها ليست من الجهاد في شيء، بل قد تكون من إلقاء النفس إلى
التهلكة المنهي عنه، كما وصفت الانتفاضة الفلسطينية من قبل أنها سفه
وطيش.
والناظر في تاريخ أمتنا يرى أن سلاح الفتاوى تضرب جذوره بعمق في أحداث
الأمة و تاريخها، وفي ذلك مما يذكر أنه في منتصف القرن التاسع عشر حين
كانت الجزائر تقع تحت الاحتلال الفرنسي، واشتدت حركة المقاومة تحت
قيادة الأمير عبد القادر الجزائري، قام أحد الفرنسيين ويُدعى (لبون
روش) عام 1841م برحلة إلى مصر و الحجاز متنكراً في زي حاج، من أجل
انتزاع فتوى من علماء الأزهر وبلاد الحجاز تفتي بجعل الجهاد ضد
الفرنسيين من باب إلقاء النفس إلى التهلكة، ولذلك يجب الرضا بحكم
الفرنسيين، وعدم شرعية المقاومة بقيادة الأمير عبد القادر، وبالفعل
سانده في صياغة هذه الفتوى مجموعة من شيوخ الصوفية المرتزقة، ولم
يستطع انتزاع الفتوى من علماء الأزهر الصادقين وقتئذ.
ولما قامت الحملة الفرنسية على مصر عام 1798م بقيادة نابليون بونابرت،
انطلقت المقاومة الشعبية من داخل الجامع الأزهر ضد الاحتلال، وتحت
قيادة علماء و مشايخ الأزهر، وخاصة بعدما حدث من اقتحام للجامع الأزهر
بخيول الفرنسيين وقصفه بالمدافع، وضُربت الأمة في رمز من أعز رموزها،
وكان المشايخ هم من يقودون ثورة المقاومة الشعبية في القاهرة ضد
الاحتلال، وكان الجامع الأزهر هو مركز القيادة للثورة، فأنشأ
الفرنسيون ديواناً مشكلاً من المشايخ العملاء وعلماء السوء الذين
كُلّفوا بصياغة البيانات الدعائية ضد ثوار المقاومة، ونعت الثورة بـ
(الفتنة) ودعوة الجماهير إلى (السكينة والهدوء)، وكان أحد مشايخ
الأزهر (الشيخ محمد المهدي) هو الموكل إليه بصياغتها وتنميقها
وترقيعها بآيات الكتاب وأحاديث السنة.
من أسلحة مقاومة المقاومة كذلك -بالإضافة إلى الهجوم الصريح على
المقاومة، واستخدام سلاح الفتاوى لنزع الشرعية عنها- طرح مسائل فقهية
على وجه غير المقصود بها شرعاً في سبيل التشكيك في مدى شرعية
المقاومة.
من ذلك أن الجهاد بلا إمام و بلا راية ليس من ضروب الجهاد الشرعية،
بلا تمييز بين جهاد الدفع الذي يتعين حينما يغزو الكفار بلاد
المسلمين، وجهاد الطلب الذي تغزو فيه الجيوش المسلمة بلاد الكفار
لفتحها، وأن حروب العصابات الدفاعية هي من طرق إثارة الفتن التي تكون
مفاسدها أكثر من منافعها، وأن رد العدوان عند عدم تكافؤ القوى هو من
سبل إلقاء النفس إلى التهلكة، وأن العمليات الاستشهادية هي من
الانتحار المنهي عنه شرعاً بإطلاق دون تفصيل، وغير ذلك من المسائل
التي تُثار وتُحشد لها الأدلة لإثباتها، وتُنقل سيول من أقوال الأئمة
والعلماء من كتب الفقه لتدعيمها، فتُحرّف هذه المسائل عن مقاصدها
الشرعية وعن مطابقتها للواقع.
وهكذا تُقاوم المقاومة، تُقاوم بعداوة صريحة وبراءة من النصرة، تُقاوم
بفتاوى علماء السوء لإجهاضها ونزع الشرعية عنها، تُقاوم بإثارة مسائل
علمية على غير الوجه المقصود بها للتشكيك في شرعيتها، هكذا تُقاوم
المقاومة - بكل أسف - بدلاً من أن تنال النصرة والتأييد، وكان الأوْلى
لمن عجز عن نصرة إخوانه بالكلام لا عن عجز وإنما عن خذلان، ألاّ
يتكلم؛ فالسكوت حينئذ أفضل ألف مرة من الكلام!!
لقد أصبحنا في مرحلة من يعلن فيها نصرة إخوانه ودعمه لهم في مقاومتهم
للعدوان كمن يقبض على جمرة توشك أن تحرقه، من كثرة ما يرى من براءة
بني جلدته من نصرة بني دينهم، ومن كثرة ما يرى من عظم الإنكار عليه
لنصرة إخوانه، وكأنه يتوجب عليه أن تتبلد أحاسيسه، وأن يتحجّر قلبه،
وهو يرى حرمات إخوانه تُنتهك، وأرواحهم تُحصد.