قصة حزب الله
من أكثر النماذج التي أبهرت معظم المسلمين في السنوات الأخيرة نموذج حزب الله اللبناني، وكذلك زعيمه (حسن نصر الله)، الذي وصفته مجلة النيوزويك الأمريكية بأنه أكثر شخصية كاريزمية في العالم الإسلامي، وأشدهم تأثيرًا على جمهور المسلمين. والعلماء والمفكرون الإسلاميون يختلفون اختلافًا بيِّنًا في تقييم هذا الحزب، وكذلك في تقييم زعيمه حسن نصر الله؛ فمنهم الذي يدافع باستماتة حتى يلقِّب حسن نصر الله بخليفة المسلمين، ومنهم من يهاجم بضراوة حتى يُخرجِهم كُلِّيةً من الإسلام، وهناك عشرات الآراء بين هذين الطرفين.
من أكثر النماذج التي أبهرت معظم المسلمين في السنوات الأخيرة نموذج حزب الله اللبناني، وكذلك زعيمه (حسن نصر الله)، الذي وصفته مجلة النيوزويك الأمريكية بأنه أكثر شخصية كاريزمية في العالم الإسلامي، وأشدهم تأثيرًا على جمهور المسلمين. والعلماء والمفكرون الإسلاميون يختلفون اختلافًا بيِّنًا في تقييم هذا الحزب، وكذلك في تقييم زعيمه حسن نصر الله؛ فمنهم الذي يدافع باستماتة حتى يلقِّب حسن نصر الله بخليفة المسلمين، ومنهم من يهاجم بضراوة حتى يُخرجِهم كُلِّيةً من الإسلام، وهناك عشرات الآراء بين هذين الطرفين.
فأين الحقيقة في هذا الأمر؟ وهل يجوز لنا أن ننبهر بإنجازات حزب الله؟ وهل ينبغي أن نعتبره رمزًا يجب أن نحافظ عليه، أم ينبغي أن ننبه الناس إلى خطورته؟ وهل يجوز أن نتبنَّى مدرسة السكوت التي يفضِّلها كثير من المسلمين، فيقولون: "لا داعي لفتح هذه الصفحة الآن؟" أم أنّ السكوت لا معنى له؛ إذ إن الأحداث تستمر والمشاكل تتفاقم، وكما تعلمون الساكت عن الحق شيطان أخرس!
إننا كما تعودنا في مقالاتنا السابقة لكي نفهم الشيء لا بد أن نعود إلى جذوره، ولا بد أن نفهم القصة من بدايتها، ولا بد أن نعرف كيف نشأ حزب الله، وفي أي ظروف. كما لا بد أن نفهم قصة مؤسسيه وعقيدتهم وطريقة تفكيرهم وأحلامهم وأهدافهم ووسائلهم، وعندها ستتضح لنا كثير من الأمور الغامضة، وسنستخدم عقولنا في توجيه عواطفنا؛ لأنّ حديث العقل شيء، وحديث العاطفة شيء آخر تمامًا.
شعار حزب الله..
كيف نشأ حزب الله؟
نشأ حزب الله في دولة لبنان، ودولة لبنان لها طابع فريد يختلف عن كل دول العالم؛ إذ إنها دولة طائفية بشكل عجيب، إذ يعيش على أرضها 18 طائفة دينية معترف بها، ولعل طبيعتها الجبلية هي التي كانت سببًا في أن يأوي إليها أصحاب المذاهب المخالفة للحكم، ومن ثَمَّ وُجد فيها النصارى على اختلاف مللهم، وكذلك الشيعة والدروز وغيرهم، ويتعارف اللبنانيون فيما بينهم على أن أكبر ثلاث طوائف في لبنان هي: طائفة المسلمين السُّنَّة، وطائفة الشيعة الاثني عشرية، وطائفة النصارى الموارنة، ويأتي من بعدهم بكثير الدروز وهم محسوبون على المسلمين! وإن لم يكونوا كذلك.
التوزيع العقائدي لسكان لبنان:
ولقد حرص الاستعمار الفرنسي الذي دخل لبنان سنة (1920م) أن يرسِّخ هذه الطائفية، بل أن يركّز معظم السلطات في يد حلفائه من النصارى الموارنة، غير أنه بعد الاستقلال سنة (1943م) تم وضع الدستور اللبناني الذي أعطى رئاسة الجمهورية للموارنة، ورئاسة الحكومة للسُّنَّة، ورئاسة مجلس النواب للشيعة، ولم يتم تطبيق هذا الدستور فعليًّا إلا في سنة 1959م، حيث كانت كلُّ المراكز قبل هذا التوقيت في يد الموارنة.
ولأجل هذه الحساسية الطائفية فإن اللبنانيين تجاهلوا تمامًا القيام بتعداد للسكان يوضِّح -على وجه الدقة- نسبة كل طائفة، وإن كانت أقرب التحليلات تقول إن السنة 26%، وكذلك الشيعة 26%، بينما يمثل الموارنة 22% من السكان، ثم الدروز 5. 6 %.
وبطبيعة الحال فإن كل طائفة سعت إلى التمركز في مكان معين حتى تصبح قوة يمكن أن تؤثر فيما حولها؛ فيتمركز الشيعة في الجنوب اللبناني وسهل البقاع، ويتمركز السُّنَّة في شمال لبنان ووسطه ومدن الساحل (بيروت، وطرابلس، وصيدا)، بينما يتمركز الموارنة في جبل لبنان، وكذلك بيروت الشرقية.
ولعل تمركز الشيعة في جنوب لبنان يفسِّر لنا الصدام الذي حدث مع اليهود في العقود الأخيرة، فالصدام -كما سنبيِّن بإذن الله- لم يكن صدامًا عقائديًّا، ولم يكن صدامًا لله، ولم يكن صدامًا لتحرير فلسطين، إنما كان صدامًا لتعرُّضِ المناطق الرئيسية التي يسيطرون عليها للضياع، وليس هناك بُدٌّ في هذه الحالة من المقاومة، وإلاّ تنتهي القصة برُمَّتِها.. ولو كان الهجوم اليهودي على مناطق السُّنَّة، ما تحرك الشيعة -يقينًا- قيد أنملة.
موسى الصدر وجذور القصة: ونعود إلى جذور قصتنا..
موسى الصدر:
لقد عاش السُّنَّة والشيعة مهمَّشين إلى حد كبير إلى جوار الموارنة المؤيَّدِين من فرنسا والمجتمع الدولي، ولكن بدأ السُّنَّة والشيعة في محاولة البحث عن الذات وإثبات الوجود، خاصة في أواخر الخمسينيات، وفي الوقت الذي فقدت فيه السُّنَّة من يحمل قضيتها، أو يتبنَّى مشروعها، خاصة مع المد القومي الاشتراكي الذي عمَّ العالم العربي في ذلك الزمن، في هذا الوقت وجد الشيعة متنفسًا للنمو والتصاعد عندما نزل إلى أرض لبنان رجلٌ من الشيعة المؤثرين الذين تركوا بصمة واضحة على خريطة لبنان، وهو:
موسى الصدر، وذلك في سنة 1959م.
ولد موسى الصدر في مدينة قُمّ الإيرانية سنة 1928م، ودرس هناك المذهب الاثني عشري، وصار محاضرًا في جامعة قُمّ يدرِّس الفقه والمنطق، وانتقل إلى مدينة النجف في العراق سنة 1954م ليكمل دراسته الشيعية على يد المراجع الشيعية الكبرى، أمثال (محسن الحكيم، وأبي القاسم الخوئي)، ثم انتقل بعد ذلك إلى لبنان في سنة 1959م، حيث استقر فيه بقية عمره.
جاء موسى الصدر إلى لبنان وهو يحمل معه أمرين مهمَّين:
أما الأمر الأول: فهو المشروع الشيعي الديني لإقامة دولة شيعية في لبنان، وهو يريد أن يقيم هذه الدولة من منطلق مذهب الاثني عشرية بكل معتقداتها وأفكارها المنحرفة، وبكل بدعها المنكرة، ولو أردتم التفصيل فعودوا إلى مقال (أصول الشيعة)؛ حيث فصَّلتُ في نشأة الشيعة والأفكار التي يعتقدونها، مع العلم أن الشيعة في لبنان في ذلك الوقت لم يكونوا متدينين، بمعنى أنهم كانوا شيعة اسمًا لكنهم لم يكونوا يدركون طبيعة مذهبهم ولا قواعده.
أما الأمر الثاني الذي كان يحمله فهو كميات كبيرة جدًّا من الأموال التي تُسهِّل له إقامة مشروعه هذا.
ومن المعلوم أن المراجع الشيعية في العالم واسعة الثراء؛ حيث يعطي لهم الشيعة خُمُس دخلهم (20% كاملة) من منطلق أنهم من آل البيت، وهذه الأموال خالصة لهم يتصرفون فيها كما يشاءون، وبها يسيطرون على مقاليد الأمور حيث يُكَوِّنون قوة اقتصادية ضخمة.
الشيعة ومحاربة الحكم السني:
إن مذاهب الشيعة في الأساس ما هي إلا ثورات على النظام الحاكم تهدف إلى السيطرة وإلى الحكم بشكل يعارض المناهج السُّنية ويحاربها، ولقد نجحت الشيعة في السيطرة على مناطق واسعة من العالم الإسلامي في مراحل مختلفة من التاريخ، وإنْ شئتم فراجعوا مقال (سيطرة الشيعة)، حيث تظهر بوضوح الآثار السلبية المقيتة لهم عندما يسيطرون على الحكم في مكان، ولكن بسقوط الدولة الصفوية في منتصف القرن الثامن عشر الميلادي فَقَد الشيعة سيطرتهم في كل الدنيا، وخَمَد مشروعهم فترة طويلة من الزمن، ولكن من جديد عاد هذا الفكر التسلُّطي يظهر في فترة الخمسينيات، وظهرت الرغبة الجامحة في إنشاء دولة تنشر الفكر الاثني عشري المنحرف بقوة السلطة والسلاح، وكانت الأماكن المرشَّحة لهذه الدولة لا تخرج عن ثلاثٍ؛ إيران والعراق ولبنان، حيث يوجد أعداد من الشيعة تسمح بقيام دولة.
لقد كان اللوبي الشيعي يخطط لقيام دولة في إحدى هذه الدول الثلاث أو فيها كلها، وتم تقسيم الرجال على المناطق المختلفة، فهناك من يعمل على قلب نظام الحكم في إيران وعلى رأس هؤلاء الخميني، وهناك من يعمل لذلك في العراق وسنتحدث عنهم بإذن الله في مقال لاحق، وهناك من سيُرسل للعمل في لبنان وهو موسى الصدر.
لقد كانت عملية متشابكة معقدة متأنية، فليس هناك مانع من أن يتم النجاح بعد عشرات من السِّنين، ولكن المهم أن يتم، وهذا هو نفس أسلوب قيام الدول الشيعية القديمة مثل الدولة البويهية، والدولة العبيدية المسماة زورًا بالفاطمية، وغيرها، وراجعوا ذلك في مقال "سيطرة الشيعة". وعادةً ما تعمل هذه التنظيمات مع طبقة الكادحين في الشعب والفقراء، فتبثّ فيهم روح الانقلاب على الأغنياء وأصحاب القصور، وتثير مسألة الثورة المترسِّخة في وجدان الشيعة، ومن ثَمَّ يحدث الانقلاب وتقوم الدولة الشيعية.
إن هذا الأمر شاهدناه في التاريخ وشاهدناه كذلك في إيران، وقد يتيسر لنا الوقت -بإذن الله- لشرح قصة ثورة الشيعة هناك، ونحن الآن نشاهد خطوات بشكل واضح في لبنان والعراق، وإذا تم الأمر في هاتين الدولتين الأخيرتين، فإنّ التوسع بعدهما قد يشمل سوريا والكويت والبحرين والمنطقة الشرقية من السعودية؛ لذلك وجب أن تُكتب هذه الكلمات، وأن يفهم المسلمون الأحداث من حولهم.
التخطيط لقيام دولة شيعية، وعودة إلى قصة لبنان..
الدولة الشيعية في لبنان:
لقد تم إرسال موسى الصدر إلى لبنان للتخطيط لقيام دولة شيعية، وقد تم اختياره لأن له أصولاً لبنانية، وكان يجيد العربية إلى جوار الفارسية، وكان التنسيق بينه وبين الخومينيمتواصلاً، بل إن هناك علاقاتٍ أخرى أقوى من التنسيق السياسي كانت بينهما؛ فابن الخوميني وهو أحمد الخوميني متزوج من بنت أخت موسى الصدر، وكذلك ابن موسى الصدر متزوج من حفيدة الخوميني، كما أن مصطفى الخوميني كان من أقرب الأصدقاء إلى موسى الصدر.
توجَّه موسى الصدر مباشرة إلى جنوب لبنان حيث الكثافة الشيعية، وبدأ في العمل من المنطلق الاجتماعي دون بروز شكل ديني واضح؛ فقام بتأسيس المؤسسات الخدمية لمساعدة الفقراء والمحتاجين، وكذلك المدارس والعيادات الطبية، ثم بدأ يُظهِر توجُّهه الشيعي شيئًا فشيئًا، فأنشأ المحاكم الجعفرية التي تحكم بين الشيعة بمذهبهم الاثني عشري، وكان الطابع الطائفي للبنان يسمح له بمساحة من العمل، خاصة مع الضعف الشديد للحكومة اللبنانية وجيشها.
كان موسى الصدر رجلاً يلعب على كل الأوتار، ويضع يده في يد كل الآخرين بُغية الوصول إلى هدفه، ولقد علم من البداية أن التيار المسيحي الماروني هو الأقوى في لبنان آنذاك، وأن التيار السُّني منافس له، مع العلم أن السنة في ذلك الوقت لم يكونوا ملتزمين بتعاليم السنة أو الدين الإسلامي، إنما كانوا ينتهجون المناهج القومية والاشتراكية والعلمانية إلا من رحم الله.
تقرب موسى الصدر من التيار المسيحي لأن الشيعة كما نعلم من البداية ما هي إلا ثورة على المنهج الإسلامي السني، ورفض لقصة الإسلام بدايةً من أبي بكر الصديق وعمر بن الخطاب -رضي الهن عنهما-، ومرورًا بكل الدول الإسلامية السنية التي حكمت أمتنا؛ ففكرها في الأصل صدامي مع أهل السنة، ومن هنا توجه موسى الصدر إلى شارل الحلو رئيس لبنان الماروني في ذلك الوقت، ولم يتجه إلى زعماء السنة لتجميع قوى المسلمين، ورأى فيه شارل الحلو حليفًا مناسبًا ضد الشارع السني، فقرَّبه وشجَّعه، ومن ثَمَّ وافق في عام 1967م على إنشاء المجلس الإسلامي الشيعي الأعلى ليكون ممثلاً لشيعة لبنان، بل وافق شارل الحلو على إصدار قانون رقم 72/ 76 وهو يقضي بأنه لا يمانع أن تكون مرجعية المجلس الشيعي في فتاويها وأحكامها وقوانينها تعود إلى المراجع الشيعية الكبرى في العالم (إيران والعراق وغيرهما)، وليس بالضرورة إلى الأحكام في لبنان!
وتم إنشاء هذا المجلس بالفعل سنة 1969م، وكان موسى الصدر أول رئيس له بالطبع، واعترفت الحكومة بهذا المجلس في سنة 1970م، بل وقررت صرف عشرة ملايين دولار مساعدةً للجنوب الشيعي، ولم ينس موسى الصدر أن يسوِّق لنفسه عند أمريكا؛ ففي لقاء مع السفير الأمريكي ذكر الصدر أنه يقاوم المد الناصري الاشتراكي في شباب الشيعة في لبنان، وقد اشتهر أمر علاقته بالأمريكان حتى اتهمه بذلك المقربون من الخوميني، وكان الخوميني يعتبر أمريكا في هذه المرحلة خطرًا داهمًا؛ لأنها كانت مؤيِّدة للشاه الإيراني بقوة.
وحدث تطور على عكس ما يريده موسى الصدر في سنة 1970م، حيث تعرَّض الفلسطينيون المهجَّرون في الأردن إلى مذبحة عُرفت في التاريخ باسم أيلول الأسود، ومِن ثَمّ تم تهجير الفلسطينيين بقيادة (فتح) إلى لبنان، وعلى غير رغبة الشيعة كان هذا التهجير إلى الجنوب اللبناني (بالقرب من فلسطين) إلا أن الفلسطينيين من السُّنَّة، وهذا سيؤدي إلى تعطيلٍ لمشروع الدولة الشيعية، مع العلم أن فتح في ذلك الوقت كان توجُّهها اشتراكيًّا علمانيًّا، بعيدًا كل البُعد عن تعاليم الإسلام.
ومع ذلك فقد استفاد موسى الصدر في هذه المرحلة من فتح، وأقام معها علاقات ودِّيَّة بُغية أن تقوم فتح بعد ذلك بتدريب الشيعة عسكريًّا؛ استعدادًا لتكوين مليشيات مسلحة تؤثر في مسيرة لبنان، وكانت فتح -في نفس الوقت- تبحث عن حليف إلى جوار الشيوعيين، فقامت بينهما علاقة مصالح.
الرئيس السوري حافظ الأسد:
وفي سنة 1971م صعد إلى كرسي الحكم في سوريا الرئيس حافظ الأسد وهو من الطائفة العلوية النُّصيرية، وهي طائفة خارجة عن الإسلام وإنْ كانت محسوبة عليه في التقسيمات السياسية، وهم يؤلِّهُون عليًّا -تعالى الله عما يقولون علوًّا كبيرًا- ومع ذلك فقد سارع موسى الصدر بإعلان فتوى يشير فيها إلى أن العلويين شيعة، وأنه بذلك يعتبر حافظ الأسد من المسلمين! وهذا أدى إلى تقارب شديد مع سوريا ونظامها الحاكم، وصار موسى الصدر همزة وصل بين حافظ الأسد وقادة الثورة الإيرانية، حيث كان حافظ الأسد يؤيد الانقلاب على الشاه، بل إنه كان مؤيدًا لإيران بعد قيام الثورة في حربها ضد العراق؛ لعدائه الشديد لصدام حسين.
وهكذا كان موسى الصدر يضع بذور دولته الشيعية الجديدة، متعاونًا في ذلك بقوة مع المراجع الدينية الكبرى في العالم خاصة الخوميني، وكذلك مع نصارى لبنان، وأيضًا أمريكا وسوريا، بل أيضًا مع فتح المحسوبة على السُّنَّة.
وفي سنة 1974م أسس موسى الصدر حركة المحرومين، تنادي بحقوق أكبر للفقراء، وانضم في البداية عددٌ كبير من المسيحيين في الجنوب إلى هذه الحركة؛ ظنًّا منهم أنها حركة قومية تهدف إلى إخراج فقراء لبنان من أزمتهم، لكنهم خرجوا بعد رؤية التوجُّه الشيعي الواضح للحركة، ثم ما لبث الصدر أن عقد اتفاقًا مع ياسر عرفات قائد حركة فتح لتدريب حركة المحرومين عسكريًّا، تحت سمع وبصر الحكومة اللبنانية الضعيفة.
وفي يوليو 1975م أعلن الصدر عن تكوين جناح عسكري لحركة المحرومين سمّاه: "أفواج المقاومة اللبنانية"، والتي تعرف اختصارًا بحركة (أمل)، وكان هو بالطبع على رأسها، وما لبث موسى الصدر أن تنكَّر للفلسطينيين، وطالب بقوة برحيل الفلسطينيين السُّنة من الجنوب الشيعي، وسنرى -بعد ذلك- أن أتباعه في حركة أمل سيقاتلون الفلسطينيين في حرب المخيمات الشهيرة من عام 1985م إلى عام 1988م.
ودخلت لبنان في سنة 1975م في تيه الحرب الأهلية، وهي حرب معقدة جدًّا دخلت فيها أطراف داخلية كثيرة، وأطراف خارجية أكثر، وسنحتاج أن نُفرِد لها تحليلات خاصة حتى نفهمها بشكل واضح.
موسى الصدر وعداوات كثيرة:
صار موسى الصدر بعد تأسيس المجلس الشيعي الأعلى، وبعد تأسيس حركة أمل قوة لا يُستهان بها؛ مما أثار حفيظة الكثيرين، ذلك أن موسى الصدر ما كان يخفي هذه القوة أو يواريها، بل كان كثيرًا ما يهدد صراحةً في مؤتمراته بتسليط أنصاره على قصور الأغنياء في لبنان إن لم تتحقق مطالبهم، بل إنه صار ينتقد بعض الأفعال للخوميني، ويتعامل مع الجهات العالمية دون الرجوع إلى المراجع الدينية التي أرسلته أصلاً إلى لبنان، وزاد الأمر حدة عندما زار إيران وتقابل مع الشاه شخصيًّا، طالبًا منه العفو عن اثني عشر قائدًا دينيًّا كان الشاه قد قرر إعدامهم، واعتبر الخوميني ذلك خروجًا عن التنسيق العالمي للشيعة، وتعاملاً مع الشاه عدو الثوريين.
وتفاقم الأمر في سنة 1978م عندما تأزمت العلاقات فجأة بين سوريا والصدر، وذلك أن سوريا كانت تحت ضغط شديد من الدول المحيطة وأمريكا بعد زيارة السادات للكيان الصهيوني في سنة 1977م، وأرادت سوريا أن تقف معها لبنان بقوة لوجود الجيش السوري آنذاك بلبنان، وأرادت أيضًا من الصدر ألاّ يتخذ له حلفاء غير سوريا، لكن الصدر كان قد شعر بقوته وضعف موقف سوريا، فأراد أن يزيد من علاقاته مع الدول العربية مخالفًا بذلك لتحذير سوريا، ومن هنا زار الكويت، ثم أتبعها بالجزائر، ثم أخيرًا توجَّه إلى ليبيا في أغسطس 1978م، لتحدث المفاجأة الكبرى حيث أعلنت ليبيا أن الصدر قد غادر أراضيها في 25 من أغسطس 1978م، لكنه لم يظهر بعد ذلك في أي مكان في الدنيا!!
إنها مسألة عجيبة حقًّا؛ لأن موسى الصدر ليس طفلاً يتوه في المطار، وليس شخصية عابرة لا تدري الدولة أين ذهب، ولكن من الواضح أنه قد تم اعتقاله واغتياله.
إن الأعداء المتربصة بموسى الصدر الآن أصبحوا كثيرين، وأصابع الاتهام أشارت إلى عددٍ منهم، وعلى رأس هؤلاء قيادة الثورة التي ستقوم في إيران بعد عام واحد، والتي لا تريد وجود شخصيات كاريزمية لها علاقات متعددة تنافس الخوميني على صدارة الدولة الشيعية الجديدة. كما أن إغضاب النظام السوري كان يعني في ذلك الوقت مؤامرة اغتيال؛ فالطريقة الدموية التي كان يتعامل بها النظام السوري مع معارضيه معروفة ومشهورة، وليبيا نفسها كانت على علاقات قوية بقيادة الثورة الإيرانية، وستدعمهم بعد ذلك ضد العراق، أما القوى الداخلية في لبنان والتي تستفيد من إزاحة موسى الصدر فكثيرة؛ فالحرب الأهلية اللبنانية كانت على أشدها.
لقد أصبح اختفاء موسى الصدر لغزًا محيِّرًا تنافس السياسيون في حلِّه، لكن لم يصل أحدهم إلى نتيجة مؤكدة، والمهم أن موسى الصدر ترك الساحة من خلفه مشتعلة، وترك حركة أمل المسلحة التي تحمل مشروعه، وترك منصبًا شاغرًا في المجلس الشيعي الأعلى، وبعد عام واحد ستقوم الثورة الإيرانية لتطيح بالشاه، وبعد أعوام أربعة ستجتاح القوات الصهيونية جنوب لبنان.
ومن رحم كل هذه التشابكات المعقدة خرج حزب الله الشيعي ليكمل مشروع الصدر ولكن بتوجُّه إيراني لا التباس فيه... كيف حدث هذا؟ وما هو مصير أمل؟ وما هو موقف الشيعة من الفلسطينيين في الجنوب؟ وكيف علا نجم حزب الله؟ ومن هو حسن نصر الله؟ وما هي عقيدته وأفكاره؟
هذا حديث قد يطول، وهو حديث مقالنا القادم بإذن الله، ونسأل الله أن يُعِزَّ الإسلام والمسلمين.
يترك كثيرٌ من المسلمين لعواطفهم الفرصة للحُكم على الأمور، ولتقييم الرجال والمنظمات والدول، ولا يبحثون فيما وراء الأشياء، ولا يقرءون ما بين السطور، ولا ينقِّبون عن الجذور والأصول، وهذا يُوقعهم في خلطٍ كبير، وسوء تقدير للعواقب، ثم لا يفيقون إلا على كارثة أو مصيبة، وعندها قد لا ينفع الندم.
وقد استعرضنا في المقال السابق (قصة حزب الله 3/1) الجذور العميقة التي مهدت لقيام حزب الله الشيعي في لبنان، ونكْمل في هذا المقال ما كنّا قد بدأناه قبل ذلك، وأنا أعلم أنني أسير على طريقٍ مليء بالأشواك، وأنني في محاولتي لتوضيح الرؤية للمسلمين سوف أقابل موجة عارمة من الرفض والتجريح من المسلمين المتعاطفين مع أيّ نموذجٍ ناجح في هذه الفترة الحساسة من تاريخ الأمة، ولو كان شيعيًّا فاسدًا، ومن أولئك المتشيِّعين الذين اعتقدوا أن نقد الصحابة وتجريحهم والاعتراض على آرائهم ومواقفهم هو لون من ألوان حرية الرأي.
كما أنني أعلم إنني سأواجه مقاومة شرسة من الشيعة أنفسهم الذين يشجِّعون الأقلام السُّنِّية التي تنادي بغلق هذا الملف، وعدم الحديث عنه، والالتفات إلى الكيان الصهيوني وأمريكا فقط، بينما يتحرك الشيعة في مخططهم بخُطى ثابتة، وسيصحو المسلمون بعد ذلك على دولة كبيرة بحجم الدولة البويهية القديمة أو أكبر!!
انقسامات أمل بعد موسى الصدر:
لقد عَمِل موسى الصدر بعد قدومه من قُمّ الإيرانية ثم النجف العراقية إلى لبنان على تجميع الشيعة في كيان متكامل يصلح أن يكوِّن دولة المستقبل، واهتمّ بالشكل الديني المذهبي لهذا الكيان فأسس سنة 1969م المجلس الشيعي الأعلى، كما اهتم بالجانب العسكري فأسس حركة أمل، وأمل هي الحروف الثلاثة الأولى من كلمات أفواج المقاومة اللبنانية، وأقام علاقات قوية مع النصارى الموارنة، وكذلك مع أمريكا وسوريا، وبالطبع مع من أرسلوه إلى لبنان وعلى رأسهم الخوميني، الذي كان يقطن العراق في ذلك الوقت.
ومع ازدياد قوة الصدر بدأت المصالح تتضارب، وحدث خلافٌ بينه وبين قادة الثورة الإيرانية (قبل قيامها)، وكذلك مع أحد أكبر مؤيديه وهو الرئيس السوري العلويّ حافظ الأسد، وانتهى الأمر في 25 أغسطس سنة 1978م بمفاجأة، وهي اختفاء موسى الصدر في ليبيا أثناء زيارة رسمية لها!
ترك موسى الصدر فراغًا كبيرًا، وحاول الشيعة أن يعيدوا تنظيم أوراقهم، فأصبح على رأس المجلس الشيعي الأعلى عبد الأمير قبلان، وكان نائبًا لموسى الصدر، وقد ظل يشغل منصب النائب بينما أصبح منصب الرئيس شاغرًا إلى الآن! وأصبحت المرجعية الروحية في لبنان تعود إلى أحد شيوخهم وهو حسين فضل الله، بينما تأزم الوضع في الجناح العسكري الشيعي المعروف بحركة أمل، حيث انقسم أعضاؤه إلى فريقين.
أما الفريق الأول فهو الفريق الشيعي العلماني، الذي يريد أن يدير اللعبة بدون الرجوع إلى القواعد المذهبية الاثني عشرية، ولا يريد الارتباط بمراجع دينية خارج لبنان، ويأخذ الخط القومي الوطني، وهذا الفريق يرأسه نبيه بري الزعيم اللبناني المعروف. وأما الفريق الثاني فهو الفريق الذي يريد أن يكمل المسيرة على خُطَا موسى الصدر، فيقيم دولة شيعية مذهبية تُقِرّ عقائد الشيعة وانحرافاتها بقوة السلاح، وتبْسُط سيطرتها بشكل توسُّعي على كل ما تستطيع، وتتعامل مع القيادة الثورية التي تخطِّط للانقلاب في إيران، ولكن هذا الفريق كان يفتقر إلى زعيمٍ يقوده.
الموسوي ونصر الله والمخطط الإيراني:
في هذا التوقيت الحرج عاد من النجف بالعراق رجلان شيعيان كانا يدرسان هناك العقيدة الشيعية، وكانا لهما أكبر الأثر في المحافظة على خطّ موسى الصدر المذهبي الديني، وهذان الرجلان هما: (عباس الموسوي، وحسن نصر الله) لقد انخرط الرجلان بسرعة في صفوف أمل، وحصلا على بعض المراكز القيادية فيها، مع أن حسن نصر الله كان يبلغ في هذا الوقت ثمانية عشر عامًا فقط!
حسين فضل الله:
وفي عام 1979م حدثت الثورة الإيرانية، وتم خلع الشاه، وعاد الخوميني من باريس -بعد أن أخرجته العراق سنة 1978م- إلى طهران وتولى القيادة، وبدأ بترتيب الأوضاع هناك، وتخلص من منافسيه، وتنَكّر إلى من ساعدوه من التيارات الإيرانية الأخرى، وثبَّت أقدامه تمامًا، ولم يتجه إلى قُم المقدسة كما كان يتوقع الناس، بل بقي في طهران العاصمة.
بعد استقرار الأمور في إيران نظر الخوميني إلى لبنان والعراق، وهما المكانان الآخران اللذان يضمان أعدادًا كبيرة من الشيعة، وهما في نفس الوقت يمثلان بقية التخطيط الشيعي لإقامة دولة كبرى في المنطقة.
أما الوضع في العراق فكان متأزِّمًا جدًّا، فقد كان صدام حسين يفرض قبضة من حديد على الأمور هناك، وقد لمس الخوميني ذلك بنفسه، فقد عاش في العراق أربعة عشر عامًا كاملة انتهت بخروجه مضطرًّا إلى باريس، ومِن ثَمّ فالخوميني يعلم أن تنظيم الشيعة في داخل العراق لا يستطيع قلب نظام صدام حسين؛ ولذلك فقد اختار الخوميني الحلّ العسكري، وبدأ من فوره بحرب شاملة في سنة 1980م -بعد أقل من عام على الثورة الإيرانية- مع النظام العراقي، وذلك بُغية إسقاط النظام وتسليم الحكم لشيعة العراق، وبالتالي الانضمام للدولة الشيعية الكبرى التي يحلم بها الخوميني.
أما في لبنان البعيدة صاحبة الطوائف الدينية الكثيرة، فما زال هناك إعداد يحتاج إلى رجالٍ أصحاب ولاءٍ كامل للخوميني ونظامه، ومِن ثَم تواصل الخوميني مع الرجلين اللذين يحملان الفكر الاثني عشري، واللذين يؤمنان بمبدأ ولاية الفقيه الذي أتى بالخوميني إلى الحكم، وهذان الرجلان هما عباس الموسوي وحسن نصر الله. ومن هنا بدأ الدعم الإيراني المباشر لهما؛ لكن ما زالت قيادة أمل في يد نبيه بري صاحب التوجُّه العلماني.
وفي عام 1981م عُقد المؤتمر الرابع لحركة أمل ليضع حدًّا للنزاعات الداخلية فيه، والتي يرمي كلُّ فريق فيها إلى السيطرة على الجنوب الشيعي، وانتهى المؤتمر بقرار استمرار نبيه بري في قيادة أمل، بينما أصبح عباس الموسوي نائبًا له، وهي خطوة مهمَّة للسيطرة على الأمور في جنوب لبنان.
الاجتياح الصهيوني والموقف الشيعي:
لكن في عام 1982م، وتحديدًا في 6 يونيو من هذا العام حدث ما غيَّر من ترتيبات كل فريق؛ إذ فُوجئ الجميع بالاجتياح الصهيوني للجنوب اللبناني بكامله، بل الوصول إلى بيروت وحصارها بغية طرد ياسر عرفات وقيادات فتح والميليشيات الفلسطينية المسلحة من جنوب لبنان إلى خارجها، وكان الاتفاق واضحًا بين الجيش الصهيوني والنصارى الموارنة على إخراج الفلسطينيين الذين أصبحوا يشكِّلون قوة ضاغطة في المجتمع اللبناني، وحدثت مذابح كثيرة للفلسطينيين كان من أهمها مذبحة صابرا وشاتيلا، حيث قُتل من الفلسطينيين ثلاثة آلاف، ونجح الصهاينة -بالاشتراك مع النصارى الموارنة- في إخراج معظم الفلسطينيين من الجنوب اللبناني ومن بيروت.
كان هذا الموقف على هوى الشيعة، إذ إنهم كانوا يطالبون منذ زمن بإخراج الفلسطينيين من الجنوب تمهيدًا لإقامة دولتهم هناك، لكن الكيان الصهيوني لم يَعُد إلى قواعده بعد إخراج الفلسطينيين، بل ظل جاثمًا على صدر لبنان، قائمًا باحتلال عسكري لكل جنوب لبنان.
حطَّم هذا الأمر آمال الشيعة في إقامة دولتهم، خاصةً أنهم منقسمون على أنفسهم ما بين علماني وديني، فقرر المتدينون الانفصال عن حركة أمل، والتواصل مع قادة إيران لأخذ دعمهم. وبالفعل كوَّنوا لجنة من تسعة أشخاص سافرت إلى طهران، والتقت بالخوميني، وأعلنوا له إيمانهم بمبدأ ولاية الفقيه، ومِن ثَم فالخوميني هو الفقيه الذي سيلي أمور الشيعة في لبنان، وأقر الخوميني هذه المجموعة، وعادت إلى لبنان؛ لتنفصل فعليًّا عن حركة أمل، مكوِّنةً ما عُرف في هذه الفترة باسم حركة أمل الإسلامية، وذلك تحت قيادة عباس الموسوي.
وقد شاركت إيران بقوة مع هذا الكيان الجديد، بل إنها أرسلت إلى سوريا ومنها إلى البقاع في لبنان 1500 من الحرس الثوري الإيراني؛ لتدريب حركة أمل الإسلامية على السلاح، ولإمدادها بما يكفيها من طاقات مالية وعسكرية. وبذلك حصلت هذه الحركة الوليدة على تأييد دولتيْن كبيرتين في المنطقة هما إيران وسوريا، بينما ظلت سوريا على دعمها لحركة أمل القومية في نفس الوقت.
تأسيس حزب الله والسيطرة على الجنوب:
ظلت الحرب الأهلية اللبنانية مشتعلة، وكانت قوةُ حركة أمل الإسلامية الشيعية تتنامى حتى أعلن عباس الموسوي في فبراير 1985م عن تأسيس حزب الله بديلاً عن حركة أمل الإسلامية، وبعدها بشهور ثلاثة، وفي مايو 1985م قامت حركة أمل بقيادة نبيه بري بمجزرة ضد الفلسطينيين راح ضحيتها المئات، وذلك للإجهاز على البقيّة الباقية في الجنوب اللبناني.
لقد كانت حركة أمل تتنافس مع حزب الله على الزعامة في مناطق تجمع الشيعة في الجنوب اللبناني والبقاع، ومن ثَمّ بدأ الصراع بينهما، وانتهى الأمر بمعركة ضخمة سَحَق فيها حزبُ الله حركةَ أمل في سنة 1988م، وتحول أكثر من 90% من أفراد حركة أمل إلى حزب الله تحت القيادة الإيرانية، وذلك بنظام ولاية الفقيه، ومدعومين بقوة سوريا، وخرجت بذلك حركة أمل من النظام العسكري، وأصبحت حركة سياسية فقط.
عباس الموسوي:
ومع أن الساحة خلت بذلك لحزب الله إلاّ أنه وجد أن مركز قوته الرئيسي، وهو الجنوب اللبناني، ما زال محتلاًّ من اليهود، وهذا ما جعله يتّجه إلى السيطرة على بعض المناطق في بيروت؛ لكي يجعل له مركزًا يتحرك منه، ولم يذهب حزب الله إلى بيروت الشرقية حيث التجمُّع النصراني، إنما اتجه إلى بيروت الغربية وخاصة جنوبها، وبدأ في احتلال هذه الأماكن بقوة السلاح، وهي جميعًا أماكن لتجمُّع السُّنَّة، وكان يبني أملاكه أحيانًا في المناطق العامة، وأحيانًا أخرى على أرض السنة، ولم تحرِّك الحكومة اللبنانية ساكنًا، حتى صارت الضاحية الجنوبية من بيروت شيعيَّة خالصة، وسيطر عليها حزب الله سيطرة تامة.
الشيخ حسن خالد مفتي لبنان:
وفي سنة 1989م توفي الخوميني، وخلفه في منصب مرشد الثورة علي خامنئي، ولم يتغير الوضع بالنسبة لحزب الله؛ حيث إنه ما زال تابعًا للوليّ الفقيه الجديد علي خامنئي. وفي نفس العام اجتمع أطراف الصراع اللبناني بوساطة سعودية في الطائف ليضعوا اتفاقية الطائف التي أنهت الحرب الأهلية اللبنانية، وفي نفس العام أيضًا تم اغتيال أكبر شخصية سُنِّية في لبنان، وهو الشيخ حسن خالد -رحمه الله- مفتي لبنان من سنة 1966م؛ ليفقد المسلمون السنة زعامتهم، بينما يظهر حزب الله كرمزٍ إسلامي في أرض لبنان.
محاربة اليهود والتنكر للسنة:
بدأ حزب الله في التجهيز لحرب اليهود لكي يحرِّر المناطق التابعة له، والتي يريد إقامة الدولة الشيعية عليها، وجاءته أموال غزيرة من إيران لهذا الهدف، فضلاً عن المساعدة السورية، وأقلق هذا اليهود وقاموا باغتيال عباس الموسوي أمين حزب الله في سنة 1992م، ليتولى حسن نصر الله زعامة الحزب.
وفي نفس السنة ظهر رمز سُنِّي جديد بدأ يجتمع حوله سُنّة لبنان، وهو رفيق الحريري الذي تولى رئاسة وزارة لبنان من سنة 1992 إلى سنة 1996م، وقد بدأ في إعادة بناء لبنان من جديد، والتفّ حوله الكثير من أهل لبنان.
وفي سنة 1996م قام الصهاينة بعدوان وحشي على لبنان من خلال عملية عناقيد الغضب، وبدأت تتحرك الحَميّة في قلوب اللبنانيين للخلاص من الاحتلال الصهيوني، وأعلن حزب الله عن تكوين السرايا اللبنانية لمقاومة العدو الصهيوني، وانضمت إلى هذه السرايا طوائف الشعب اللبناني المختلفة، وكان أكثر أعضاء هذه السرايا من أهل السُّنَّة حيث كانوا يمثلون نسبة 38%، بينما مثَّل الشيعة 25%، إضافةً إلى 20% من الدروز، و17% من المسيحيين.
وأدت الهجمات التي قامت بها هذه السرايا إلى انسحاب الجيش الصهيوني من معظم مناطق جنوب لبنان في سنة 2000م باستثناء مزارع شبعا، واحتل حزب الله كل هذه الأماكن، ورفض أن ينشر الجيش اللبناني قواته في هذه المناطق، وتنكَّر حزب الله للجهود المشتركة التي ساعدت في تحرير لبنان، بل بدأ في التعدِّي على أملاك السُّنة في الجنوب وفي جبل لبنان، ووصل الأمر إلى التعدي على بعض المساجد مثل مسجد النبي يونس، والأوقاف التابعة له في منطقة الجية.
رفيق الحريري والمد الشيعي:
وفي نفس السنة التي خرج فيها اليهود تولى رفيق الحريري من جديد رئاسة وزراء لبنان، ليظهر في الصورة من جديد هو وعائلته، ليصبح من الرموز السنية المشهورة التي تمثِّل منافسة حقيقية قوية للمدّ الشيعي في لبنان.
سعد الحريري:
أخذت قوة حزب الله في التنامي أكثر وأكثر وهو يريد انتهاز الفرصة لإقامة دولته الشيعية المؤيَّدة بإيران وسوريا، إلاّ أن ظهور نجم رفيق الحريري جعل الأمور عند الشعب اللبناني متوازنة.
في سنة 2004م استقال الحريري من رئاسة الوزراء لخلافه مع السوريين المتواجدين بكثافة عسكرية كبيرة في لبنان، ثم حدثت المفاجأة المُدوِّية في 14 فبراير سنة 2005م عندما تم اغتيال رفيق الحريري وهو في موكبه في بيروت، وفي تواجد عدد ضخم من المخابرات العالمية تعمل في الساحة اللبنانية مثل المخابرات (الأمريكية والفرنسية والسورية والإيرانية واللبنانية)، ولتفقدَ السُّنَّة في لبنان رمزًا فريدًا من رموزها.
زُلزلت لبنان بعد اغتيال رفيق الحريري، وتوجهت أصابع الاتهام الدولية إلى سوريا، ومن ثَمّ طالب المجتمع الدولي سوريا بالانسحاب من لبنان، فقام حزب الله بمسيرة كبرى في 8 آذار/ مارس 2005م ليؤيد وجود سوريا في لبنان وعدم خروجها، فردَّ عليه تيار المستقبل -وهو تيار عائلة الحريري بزعامة سعد الحريري، مدعومًا بكتلة اللقاء الديمقراطي بقيادة الدرزي (وليد جنبلاط)، وكذلك حزب القوات اللبنانية الماروني بقيادة سمير جعجع- بتظاهرة كبرى في 14 آذار/ مارس 2005م يطالب فيها بخروج سوريا من لبنان؛ ولهذا أطلق على هذا التجمُّع اسم 14 آذار، وبالفعل خرجت سوريا من لبنان في نفس الشهر.
مأزق حزب الله وحرب 2006:
وجد حزب الله بعد خروج سوريا أنه قد يتعرّض لمأزق في لبنان، خاصة بعد ارتفاع النبرة الطائفية بقوة بعد اغتيال الحريري، ومِن ثَم آثر حزب الله أن يشترك في عمل سياسي مع القوى الأخرى ليدخل انتخابات البرلمان اللبناني في مايو 2005م، متّحدًا مع فصائل ثلاثة أخرى هي: تيار المستقبل السني وتيار (جنبلاط الدرزي) -مع عدائه للفريقين- وكذلك مع حركة أمل السياسية، فيما عُرف بالتحالف الرّباعي، وحصلت هذه القوى مجتمعة على 72 مقعدًا نيابيًّا من أصل 128، وشكلت بذلك أكثرية، وصارت منها حكومة لبنان برئاسة فؤاد السنيورة.
لقد ضغط حزب الله على نفسه، وشارك مع السُّنيين برغم خلافه معهم؛ لكي يظهر بصورة المشاركة الوطنية، ومع ذلك فإنّ حسن نصر الله لم يكن يحضر اجتماعاتهم ولا المؤتمرات العامة الجامعة، إنما كان يرسل مندوبًا عنهم، ويتعامل مع الجميع بصيغة فوقيَّة تمهِّد لزعامة قادمة على الجميع.
فؤاد السنيورة:
ولعلّ من أكبر الأدلّة على هذه الرؤية هو إقدام حزب الله في 12 يوليو سنة 2006م على القيام بعملية عسكرية ضد الصهاينة أسروا فيها جنديين وقتلوا ثمانية، دون الرجوع لا من قريب ولا من بعيد للدولة التي يشاركون في حُكمها، ولا للحلفاء الذين صعدوا بها إلى المجلس النيابي، وكانت هذه العملية العسكرية هي السبب في جرِّ الدولة بكاملها، وليس حزب الله فقط في الحرب مع الكيان الصهيوني.
وقامت الحرب المشهورة في يوليو 2006م، واستمر القصف الصهيوني للبنان مدة 33 يومًا كاملة، وكان الهدف الصهيوني هو تدمير البنية التحتية لحزب الله، وكذلك لبنان، وبادل حزب الله اليهود إطلاق الصواريخ، وسقطت أعداد كبيرة من القتلى في لبنان، بينما فشل اليهود في إيقاف صواريخ حزب الله، واعتُبر هذا نصرًا كبيرًا لحزب الله، فقد أنهى اليهود قصفهم دون أن يدمِّروا قوة حزب الله الصاروخية، ولا أن يسترجعوا الجندييْن المخطوفين.
وانتهت الحرب المدمرة ليواجه المجتمع اللبناني وضعًا مؤسفًا من الدمار الذي شمل كل أجزاء الوطن، وليواجه كذلك تضخمًا شيعيًّا كبيرًا متمثِّلاً في حزب الله الذي ما زال يحتفظ بسلاحه الإيراني المتطور، وبدعمه السوري الجارف، وليشعر الجميع أن البلاد تتجه إلى قيادة شيعية خاصة، مع حالة التعاطف الإسلامي العام مع حزب الله لحربه ضد اليهود.
تُرى ماذا حدث في لبنان بعد ذلك؟ وما هي الخطوات التي سار فيها المشروع الشيعي؟ وكيف عبّر حسن نصر الله عن رؤيته لمستقبل لبنان؟ ولماذا خسر حزب الله في الانتخابات البرلمانية يونيو 2009م على الرغم من تنامي قوته؟ وما الذي ينبغي على جموع الأمة الإسلامية في هذا الموقف؟
هذه أسئلة تحتاج إلى شرح وتفصيل، وهي موضوع مقالنا القادم بإذن الله، وأسأل الله أن يُعِزَّ الإسلام والمسلمين.
في مقالين سابقين قصة حزب الله 1/3، وقصة حزب الله 2/3 تحدثنا عن نشأة حزب الله ومؤسسيه، وعلاقاته الأساسية بإيران، وكذلك بسوريا، وتخطيطه لإنشاء دولة شيعية في لبنان، وانتهى بنا المقال إلى حرب 2006م حيث فشل الكيان الصهيوني في تدمير قوة حزب الله، وفشل في استهداف قادته، وترك هذا شعورًا بالفرحة العارمة عند الشارع الإسلامي، وسبَّب انبهارًا عند أبناء الأمة الإسلامية، خاصةً وأنهم لم يشاهدوا نصرًا حقيقيًّا على اليهود في معركة مواجهة منذ 1973م، أي أكثر من ثلاثين سنة، وتناقل الناس عبارات الثناء على حزب الله، وعلى قائده حسن نصر الله، حتى توقع البعض أن يكون حسن نصر الله هو قائد مسيرة الأمة بكاملها، متناسين في ذلك خلفيته الاثني عشرية، والتي تلزمه بالعداء الدائم لأهل السُّنَّة، أظهر ذلك أم أخفاه.
حزب الله والانقلاب على الحكومة:
خرج حزب الله من حرب 2006 يريد استثمار هذا الحدث الكبير، فقرر فورًا الانقلاب على الحكومة التي هو جزء منها، فقام في 30 ديسمبر 2006 بتنظيم اعتصام كبير حول مقر الحكومة، ونصب أكثر من 600 خيمة ليطول مكث الاعتصام، وكان يطالب بإقالة رئيسها السني فؤاد السنيورة، ومع أن الدستور اللبناني يقضي بأن يكون خَلَفه سُنِّيًا أيضًا، إلا أن هذه الرغبة من حزب الله كانت إشارة إلى قدرته على تغيير الأمور حسبما يريد، وأن الذي سيأتي من ورائه لا بد أن يسمع ويطيع لأوامر القيادة المنتظرة للبنان، والمتمثلة في حسن نصر الله، ولكن الحكومة لم تستجب لأوامر حسن نصر الله، فدام الاعتصام ما يقرب من 18 شهرًا متصلاً!! ثم تفاقم الأمر عندما قام حزب الله بعملية إجرامية عسكرية، حيث نزل بقواته المسلحة ليحاصر بيروت الغربية بالكامل حيث يعيش السُّنة، مهدِّدًا بالاجتياح أو عدم رفع الحصار حتى تُقال الحكومة، وكان ذلك يوم 9 مايو سنة 2008م.
إن الأمر لم يعُدْ مجرد هواجس، إنها تجربة عملية على أرض الواقع لتحرُّك الميليشيات المسلحة للسيطرة على محاور بيروت العاصمة، بل إن هذا يلفت الأنظار إلى ما كشفه وليد جنبلاط قبل هذا الحصار بستة أيام، وتحديدًا في 3 مايو 2008م، عندما أعلن في مؤتمر صحفي أنه عثر على مراسلات بين وزير الدفاع اللبناني إلياس المر، ومخابرات الجيش اللبناني تفيد باكتشاف كاميرات تحيط بالمطار تابعة لحزب الله، وذكر أيضًا وليد جنبلاط في هذا المؤتمر أنه في الوقت الذي يُمنع فيه دخول السلاح إلى لبنان فإنّ السلاح يتدفق من إيران على حزب الله، وما هي إلا فترة محدودة، وسيصبح هذا الكيان هو الكيان الوحيد المسلَّح، بل يفوق تسليحه الجيش اللبناني بكثير.
اتفاق الدوحة وسقطة نصر الله:
استمر الحصار حول بيروت الغربية مدة 13 يومًا حتى تم عقد اتفاق في الدوحة أنهى هذه الحرب، وفك الاعتصام، ولكن تم فك أيضًا التجمُّع الرباعي الذي كان تم تكوينه بين تيار المستقبل السني وحزب الله الشيعي وحركة أمل الشيعية وحزب اللقاء الديمقراطي الدرزي، واكتشف الجميع أن مثل هذا الحلف صعب للغاية، وأن المصالح بين السنة والشيعة ستتعارض حتمًا، ومن هنا بدأ الفريقان في تبادل الاتهامات والتنافس المضاد؛ فتيار المستقبل أو تجمُّع 14 آذار أصبح يدرك واقعيًّا احتمالية سيطرة الشيعة على مقاليد الحكم في لبنان بكامله، وحزب الله بدأ في اتهام تيار المستقبل بالعمالة لأمريكا؛ لكي يُنقِص من أسهمه عند الشعب اللبناني والتيارات القومية، وظلت هذه الاتهامات متبادلة بين الفريقين، وظلت وتيرتها تتصاعد مع مرور الوقت واقتراب انتخابات يونيو 2009 لاختيار أعضاء البرلمان الجدد، حيث دخل الانتخابات تجمع 14 آذار بقيادة سعد الحريري ضد حزب الله بقيادة حسن نصر الله، وصار كل فريق يعرض صلاحياته وإمكانياته، وفي نفس الوقت يطعن في الفريق الآخر.
ثم سقط حسن نصر الله سقطة كبيرة ما كانت لتحدث من سياسي محنك مثله، لولا أن الله يريد للأوراق أن تنكشف.. لقد أعلن في خطابه قبيل الانتخابات في يوم 29 مايو 2009م، ونص الخطاب موجود على موقع حزب الله في الإنترنت، أنه إذا تم انتخاب فريقه فإنه سيأتي بالسلاح إلى لبنان من سوريا وإيران، مُظهِرًا لغة التشيُّع بشكل بارز، حتى إنه قال بالحرف الواحد: "ما أعرفه أن الجمهورية الإسلامية في إيران، وبالخصوص سماحة الإمام القائد السيد الخامنئي -دام ظله الشريف- لن يبخلوا على لبنان بأي شيء".
إنه يقول في منتهى الوضوح للشعب اللبناني أن التمويل الذي سيكفل لهم الأمان والعزة سيأتي من طرف الشيعة، وهو ترغيب وترهيب في نفس الوقت، ولفتٌ للأنظار إلى حجم حزب الله وعلاقاته.
ووصلت الرسالة إلى الشعب اللبناني، ولكن بصورة عكسية عن التي أرادها حسن نصر الله؛ فقد اكتشف اللبنانيون الخطر الشيعي، وعلموا أن وصول فريق حزب الله إلى الحكم يعني زيادة تسليح وقوة لحزب الله لا للبنان، وأن احتمالات قيام دولة شيعية موالية لإيران وسوريا صارت قريبة جدًّا. ومن هنا خاف الشعب من هذا التوجُّه، وظهر خوفه هذا في صناديق الانتخابات، حيث أدلى بأصواته إلى فريق 14 آذار، مع أن سعد الحريري ليس بثقل الراحل رفيق الحريري، ولكن الشعب اللبناني لمس بنفسه خطورة الموقف.
ولا مجال هنا للقول بأن الضغط الأمريكي هو الذي أدى إلى هذه النتيجة؛ لأن الانتخابات كانت نزيهة، ولم يطعن أحد في شفافيتها، وفاز تجمع 14 آذار بفارق 14 مقعدًا، وهذا رقم ضخم في الانتخابات اللبنانية، وهو يعني بداية اتِّضاح الأمور بشكل أكبر.
موقفنا من حزب الله:
إنني بعد استعراض هذه القصة الطويلة أودُّ أن أقف مع القارئ لأعلِّق على بعض الأمور التي تجيب على أسئلة محيِّرة تقفز إلى ذهن كل مسلم عندما ينظر إلى هذه الأحداث، وقد يختلف معي البعض أو يتفق، ولكني أقول للجميع إننا عند التعليق لا بُدَّ أن نضع عواطفنا جانبًا، وأن نحكم بعقولنا، وأنه يجب علينا إذا أردنا أن نحسن التحليل أن ننظر إلى الجذور والأصول، وأن نعود إلى التاريخ القديم والحديث، وأن نربط الأشياء بعضها ببعض، وأن نقرأ ما بين السطور، وأن نبحث عن أهداف كل فريق، وخلفياته ومعتقداته، وعندها ستتغير الكثير من الرُّؤَى التي نعتقد بصوابها، وقد نصبح مهاجمين لما كنا ندافع عنه، أو مدافعين عن الذي كنا نهاجمه!!
أولاً: قيام دولة شيعية في لبنان أمر وارد جدًّا، بل لعله يكون أمرًا قريبًا؛ فإمكانيات حزب الله ليست إمكانيات حزب أو طائفة، إنما هي إمكانيات دولة، ودعم إيران وسوريا لقيام دولة شيعية موالية لهما دعم كبير، وهذه الدولة تشمل جنوب لبنان، إضافةً إلى منطقة البقاع شمال شرق لبنان، وقد تمتد هذه الدولة لتشمل شمال لبنان السُّني. كما أنها ستسيطر على بيروت الغربية والجنوبية، أما المناطق النصرانية فهي محل خلاف، ولا نستبعد أن يقبل حزب الله بقيام دولتيْن على أرض لبنان؛ شيعية ونصرانية، وقبل ذلك بألف سنة عرض الشيعة الإسماعيليون على الصليبيين عند دخولهم الشام أن يقسِّموا أراضي السُّنة بينهم؛ فيأخذ الصليبيون سوريا ولبنان، ويأخذ الشيعة فلسطين والأردن، إلا أن الصليبيين رفضوا، حيث كانوا يريدون لأنفسهم الشام بكامله!
وقيام دولة شيعية في لبنان ليس بالأمر السهل بالنسبة للسُّنة، وراجعوا قصة السنة في إيران، وكذلك في العراق، وراجعوا مواقف حركة أمل ثم حزب الله مع السُّنة في لبنان، وراجعوا تاريخ الدولة البويهية والحمدانية والعبيدية المسماة (زورًا بالفاطمية) والصفوية... راجعوا هذا التاريخ لتعرفوا أن قيام دولة شيعية قوية يعني تسلُّطًا على السُّنة في المقام الأول؛ فالقضية قضية عقيدة، والوقائع كلها تؤيِّد هذا.
حرب مصالح:
ثانيًا: حرب حزب الله مع اليهود حرب مصالح وليست حرب عقيدة؛ فاليهود دخلوا جنوب لبنان سنة 1982م، وهي المنطقة التي من المفترض أن تقوم عليها الدولة الشيعية المنتظرة، فكان لا بد من المقاومة من أجل البقاء، مثل أي حرب تدور بين فريقين من فرق الدنيا، وليست هذه الحرب لتكون كلمة الله هي العليا؛ لأن كلمة الله التي يعتقدها الشيعة كلمة محرَّفة باطلة، زعموا فيها عصمة أئمتهم، وعلوّ قدرهم فوق الرسل، فأيُّ خيرٍ من وراء هذا الاعتقاد!!
ودعوني أفترض أن الشيعة كانوا يتمركزون في شمال لبنان، وأن السنة كانوا في جنوبها، فهل تعتقدون أن الشيعة كانت ستحارب من أجل إنقاذ الجزء اللبناني التابع للسُّنة؟! إن هذا محالٌ محال... بل لعلّ التنسيق كان يتم لاقتسام الأرض اللبنانية في هدوء مع اليهود، وليس هذا الكلام بدون مشاهدات؛ فالشيعة في لبنان منذ عشرات السنين، فهل تحركوا لحرب اليهود في فلسطين؟ مع أنهم يقولون في أدبياتهم أن فلسطين بلد محتل من الصهاينة.
ولقد حاول العلاّمة الدكتور مصطفى السباعي -رحمه الله- مراقب الإخوان المسلمين في سوريا أثناء حرب 1948م- أن يقرِّب بين السنة والشيعة، وأن يدفع الشيعة إلى الاشتراك مع السنة في تحرير فلسطين، لكنهم رفضوا وتمنَّعُوا، حتى أُحبط الدكتور مصطفى السباعي، وكتب في كتابه (السنة ومكانتها في التشريع الإسلامي) أن التقريب بين السنة والشيعة معدوم، حيث إنهم يفهمونه على أنه تحويل للسنة إلى شيعة، وليس الالتقاء على أرضية مشتركة[2].
وعندما قامت حرب 1967م لم يحرك الشيعة الملاصقون لشمال فلسطين ساكنًا، بل إن موسى الصدر أعلن شعاره الشهير في مارس 1973م "السلاح زينة الرجال"، ومع ذلك لما قامت حرب أكتوبر 1973م بعد هذه المقولة بستة أشهر فقط ما تحرك شيعيٌّ واحد لحرب اليهود في فلسطين! ولعلّ الجميع شاهد حرب غزة الأخيرة سنة 2009م، وكان من الممكن لصواريخ حزب الله أن تشغل العدو الصهيوني عن القصف المروِّع لغزة، لكن لم نسمع إلا الكلمات فقط، ولم يُطلق صاروخ واحد لتشتيت الصهاينة.
ومن هنا فالعدو الصهيوني يعلم أن خطورة حزب الله محدودة على أرضه، وأنه ليس له ولا لإيران في المرحلة الحالية أطماع في فلسطين، كما تعلم أمريكا أن الشعارات التي تطلقها إيران ضدها ليست واقعية، إنما هي من قبيل الكسب الإعلامي لمشاعر المسلمين، وإلاّ فلننظر إلى المشروع الشيعي في العراق كيف يتم برعاية أمريكية صِرفة، بل إن أمريكا لا تمانع من قيام دولة شيعية ضخمة تضم إيران والعراق وسوريا ولبنان؛ لأن هذه الدولة ستحقق توازنًا للقوى في المنطقة الإسلامية، وستقف بشكل تلقائي ضد المد السنيّ الإسلامي المتمثِّل في الصحوة الإسلامية في معظم بلاد المنطقة، وخاصة مصر والسعودية والأردن، وهي البلاد التي تسعى أمريكا من ناحيتها إلى تحجيم قوتها؛ إما عن طريق السياسة أو الجيوش أو الاقتصاد.
الانتصار وسلامة المنهج:
ثالثًا: الانتصار لا يعني سلامة المنهج، والبلاء الحسن لا يعني الإخلاص! فكم من المنتصرين كانوا من المبتدعين، ولقد مُكِّن للشيعة القرامطة في الأرض مائة سنة أو يزيد مع أنهم قتلوا الحجيج، واقتلعوا الحجر الأسود من مكانه، وعاثوا في الأرض فسادًا. ومُكِّن الفرس والرومان والتتار والإنجليز والأمريكان مع فساد مناهجهم، ومُكِّن لزعماء مسلمين جبابرة ومتكبرين، ومنحرفين عن المنهج الإسلامي القويم، فصاروا يحكمون شعوبهم عشرات السنين.
إن الانتصارات والتمكين لا يعنيان بالضرورة سلامة المنهج، ولكن يجب على المسلمين النظر في الأقوال والأفعال، وهل هي مطابقة للقرآن والسنة أم على غير المنهج، وكم من الرجال أبلى بلاءً حسنًا في المعارك، وصمد صمود الأبطال لكنه من أهل النار؛ لأنه لم يفعل ذلك لله.
ولقد رأينا رجلاً في عهد رسول الله r يقتل من المشركين ويوجع فيهم، فحسب الناس أنه من أعظم المسلمين، فأخبرهم رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه من أهل النار، فلما ذهبوا إليه وجدوه في النَّزْع الأخير، وقال لهم: إنني كنتُ أقاتل عن قومي! إنه لم يكن يقاتل لله؛ فحرُبه حرب مصالح، وانتصاره وثباته كان على مبدأ باطل. ونحن لا نقول إننا نتدخل في نيات حزب الله التي لا يراها إلا الله، ولكننا نتكلم عن عقيدتهم المعلنة، وعن بِدعهم الظاهرة، وراجعوا مقال (سيطرة الشيعة)، وستجدون فيه انتصارًا وتمكينًا للشيعة، لكنْ لم يكن أبدًا انتصارَ مبادئ، إنما كان انحرافًا عن الطريق المستقيم.
موقف السنة:
رابعًا: ليس معنى أن الحرب بين حزب الله والصهاينة حرب مصالح أن لا يتخذ المسلمون السُّنة موقفًا من هذه الحرب، ومن هنا فأنا أخالف الكثير من أساتذتي في العلم والدعوة الذين كانوا يرون ترك الأمور دون محاولة تدخُّل لأن الفريقيْن من الضالين؛ فالمسلم له دور إيجابي، ويستطيع تقييم المفاسد والمصالح، وهذه حرب بين الصهاينة الذين يحتلون فعلاً أرض فلسطين، وبين حزب الله الذي يعيش في أرضٍ يحتل العدو الصهيوني بعض أجزائها، ومن هنا فإضعاف الصهاينة هدف في حد ذاته، كما أن التعدّي الصهيوني واضح، وتحرير الأرض اللبنانية من الصهاينة ضرورة، ثم على المسلمين بعد ذلك أن يدبروا أمورهم بالشكل الذي يحفظ حقوقهم دون أن تضيع بين اليهود أو حزب الله.
ولقد أكبرتُ جدًّا موقف السنة في لبنان سنة 1997م عندما انضموا بأعداد كبيرة إلى سرايا المقاومة اللبنانية التي عملت على إخراج اليهود من لبنان، مع أن القيادة كانت لحزب الله، ومع أن حزب الله سرق جهودهم بعد ذلك، وتنكَّر لجهودهم، ولكن تبقى الرؤية واضحة عند المسلمين.
ولقد وقف رسول الله صلى الله عليه وسلم مع رجل مشرك ليأتي له بحق سليب له عند أبي جهل، ولم يقل في هذا الموقف: إن الرجل سيأخذ ماله السليب ليتقرب به إلى اللاّت والعزى، إنما وقف معه في هذا الموقف، ثم وقف معه بعد ذلك موقفًا آخر يدعوه إلى الله، إن الأوراق لا تختلط لدينا؛ فنحن نعلم خطورة حزب الله في مشروعه الشيعي في المنطقة، ولكننا ندرك في نفس الوقت خطورة المشروع الصهيوني في المنطقة ذاتها.
خامسًا: حسن نصر الله شخصية كاريزمية، بمعنى أنه شخصية ذات طابع خاص تستطيع أن تؤثِّر فيمن حولها، وتقود الجموع، وتلهب المشاعر، وهو سياسي من الدرجة الأولى، وشديد الذكاء، وسريع البديهة... ولا مانع عندي من الانبهار به سياسيًّا وإداريًّا، ولا أخاف من الإعجاب به من ناحية طريقة الخطابة، أو من ناحية فهم الموازنات السياسية... كل هذا لا مانع عندي أن يشعر به المسلمون، بل وأن يقلدوه في بعض هذه الأمور، لكن الذي لا يُقبل ولا ينبغي لنا أن نقع فيه هو الانبهار به كقائد إسلامي يمارس الجهاد كما أمر الله به؛ لأن القائد الذي بهذه الصورة لا بد أن يكون سليمَ العقيدة، وصحيح العبادة، ومتبعًا للسُّنَّة النبوية، ووقّافًا عند آيات الله، وكل هذه الصفات ليست في حسن نصر الله!
معتقدات حسن نصر الله:
إن حسن نصر الله اثنا عشري المذهب، وهذا يعني أنه يدين بكل العقائد التي في هذا المذهب، فهو يؤمن أنّ الصحابة جميعًا سرقوا الخلافةّ من علي بن أبي طالب، وسلموها إلى الصِّدَّيق ثم عمر ثم عثمان رضي الله عنهم جميعًا، وهو يعتقد أن النبي صلى الله عليه وسلم أوصى لأئمتهم الاثني عشر بأسمائهم، وهو يعتقد العصمة في هؤلاء الأئمة، وهو يعتقد أن الإمام الثاني عشر دخل في السرداب، وما زال حيًّا وسيعود يومًا ما، وهو يعتقد أن التَّقِيَّة تسعةُ أعشار الدين، بمعنى أن يقول الإنسان خلاف ما يبطن.
وهو يعتقد أن السُّنة يناصبون آل البيت العداء، مع أنهم أشد توقيرًا لهم من الشيعة، ولكن على منهج رسول الله صلى الله عليه وسلم. وهو يعتقد أن من حق الأئمة الكبار أن يأخذوا خُمُس الدخل الذي يحصِّله الشيعي، وهو يعتقد أن زواج المتعة حلال، فيجوز عنده أن يذهب الشاب إلى صديقته، أو إلى أي فتاة فيتزوجها يومًا أو ساعة ليقضي معها شهوته ثم يطلقها، وهو يعتقد بمبدأ ولاية الفقيه، ومِن ثَم يحرم عنده مخالفة مرشد الثورة الإيرانية علي خامنئي في أيّ أمرٍ من الأمور، وهكذا وهكذا.
الاثنا عشرية:
إن كل ما ذكرته الآن هو من عقيدة حسن نصر الله الراسخة، ولا معنى لأن يقول أحدٌ: "إننا لم نسمعه يسبّ الصحابة، ولا يطعن في أمهات المؤمنين"، فأقول لهؤلاء البسطاء: ليس هناك ضرورة أن تسمع منه ذلك حتى تتيقن أنه يقوله، فهذا من لوازم الاثني عشرية، فأنت قد لا تسمع جارك المسلم يقول: لا إله إلا الله محمد رسول الله، ولكنك تعلم أنه يعتقدها لأنه مسلم، كذلك الاثنا عشري لا بد أن يؤمن بكل ما ذكرته، وإلاّ يصبح على مذهب آخر، وإذا كان حسن نصر الله يوقِّر الصحابة ويقدرهم فهو لن يستطيع أن يبرِّر أصول الاثني عشرية، ولا إمامة علي بن أبي طالب والحسن والحسين رضي الله عنهم جميعًا، أو غيرهم من أئمتهم.
إن الشخصية التي قَبِلتْ بكل هذه التُّرّهات والبدع لا يمكن أبدًا أن ننبهر بها، ولا أن نجعلها نموذجًا كاملاً للقائد المسلم، إنما يمكن أن آخذَ منه شيئًا كما آخذ من غيره، ليس لأنه إسلامي، ولكن لكونه إنسانًا يملك مواهب وإمكانيات.
إن التاريخ الإسلامي شهد احتلال فلسطين والشام قبل ذلك من الصليبيين، وكان هذا في وجود دولة شيعية قوية هي الدولة العبيدية التي كانت تحكم مصر، ومع ذلك لم يتخذ المسلمون الصادقون آنذاك قدوة لهم من زعماء هذه الدولة الفاسدة، مع أنهم كانوا على مستوى عظيم جدًّا من السياسة والإدارة وفنون القتال، إنما صنع المسلمون نموذجهم الخالص، فكان عماد الدين زنكي، ونور الدين محمود، وصلاح الدين الأيوبي، وهذا ما يجب أن يشغلنا الآن..
فإذا كنا قد شاهدنا المشروع الشيعي، وهو ينضج وينجح في إيران والعراق ولبنان، فأين المشروع السني الذي يقف على قدم المساواة مع مشروع الشيعة، ثم يتقدم عليه ويتفوق؟! إننا نهيب بواحد من حكامنا الكُثُر أن يتبنَّى المشروع السني العظيم، الذي يعتمد على القرآن والسنة، والذي يسير في طريق سلفنا الصالح، والذي يدافع عن حقوق المسلمين في الأرض، والذي يؤيِّد أهل السنة المقهورين في إيران والعراق ولبنان وسوريا، والذي يقف بقوة وجرأة أمام المشاريع الصهيونية والاستعمارية في بلادنا المسلمة.
أما إذا لم يوجد حاكم واحد يتحمل هذه المسئولية، فإننا ندعو الشعوب أن تراجع مناهجها، وتحاسب نفسها، وتعود راغبة طائعة إلى ربها؛ فإن الله لا يحرم الأمة من قائد مخلصٍ إلا إذا رآها مضيِّعة مفرِّطة، فكما تكونوا يولَّ عليكم، والله لا يظلم مثقال ذرة، فكونوا مع الله يكُنْ معكم، وانصروه ينصركم، وعودوا إليه يقبلكم، ويغفر لكم، ويهدِكم إلى صراطه المستقيم.
ونسأل الله أن يُعِزَّ الإسلام والمسلمين..
- التصنيف:
- المصدر: