التيارات الإسلامية: دِينٌ أم نظام تَديُّن؟

منذ 2013-01-24

إن المشكلة الحقيقية في العالَم الإسلامي هي مشكلة أفكار، كما أصَّل لذلك مالك بن نبي الفيلسوف الجزائري الكبير، ونحن لن نستطيع أن نتجاوَز ما نحنُ فيه من مِحنٍ تَحُول بيننا وبين الإيمان الصافي إلاّ إذا طمسْنا الحدودَ بين هذه الأفكار ..


قضية أراها من أخطر القضايا؛ لأني بعد تأمُّل كثير، ومواقف أكثر، تبيَّن لي أنها المحور الذي استنبَت العِداء بين بعض أفراد التيارات الإسلامية في الداخل والخارج؛ ذلك أن هناك مبدأ لم تلتفِت إليه هذه التيارات منذ تأسيسها، أو التفَت إليه مؤسِّسوها ولم يلتفت إليه أتباعها؛ ذلك المبدأ أن الإسلام باعتباره ديناً قد اكتمَل، ولم يعُد فيه لبِنة يحتاج إليها بناؤه، ولا يمكن أن يُزاد عليه أو يُنقص منه.

أما تطبيق الإسلام، فهو الذي يهتزُّ بين الزيادة والنُّقصان.

وبهذا المفهوم جاء حديث: «لتُنْتَقَضَنَّ عُرى الإسلام عروة عروة، فكلما انتقَضت عروة، تشبَّث الناس بالتي تليها، فأوَّلهن نقضًا الحُكم وآخرهن الصلاة»؛ [صحيح ابن حبان وصحَّحه الألباني في التعليق الرغيب].

لأن سُقوط الأمانة والصلاة والزكاة والصوم مع امتداد الأيام ليس سقوطاً من التشريع؛ وإنما سُقوط من الأتباع.

وبِناء على ذلك؛ فإن أيَّ زمن بعد موت النبي صلى الله عليه وسلم يَقتصِر فيه عمَل العلماء والدُّعاة على أمرين أساسيين: التبليغ والإصلاح.

يُمثِّل تبليغ العلم الديني الوظيفة الأساسية للعالَم، ويُمثِّل الإصلاح بالوعظِ والتوجيهِ والسعي؛ الوظيفةَ الأساسية للداعية، والأصل أن كل عالِم داعية، وليس شرطًا أن يكون كل داعية عالِماً، وإنما يدعو المسلم الناس إلى ما علِمه صحيحاً، وما عمِله خالصاً. وخلال ذلك تدعو الحاجة إلى أن تتبلور أفكار واقعية تنظِّم هذين الأمرين، فيُعمِل الناس فيها عقولهم، ويضع الناس لها مناهج، هذه كلها وسائل لتحقيق غاية كبرى: اتِّباع الدين بصحة وإخلاص.

وإن قيام هذه المناهج لا يمكن أبداً أن يكون دِيناً؛ لأن الدِّين مَصدره الله ورسوله، وإنما هذه المناهج نظام تَدَيُّن؛ فهي إذاً أمور تَنظيمية غير مُتَّفق عليها بين سائر التيارات، تهدف لتطبيق الدِّين المتفَق عليه بين هذه التيارات جميعاً.

وقولي: المتفق عليه لا يَخفى أن معناه الأصول العقديَّة والأخلاقيّة والفقهيّة، وإلاّ فثمَّة خلاف فقهيٍ مثلاً بين تيار وآخر، أو خلاف في فرعية عَقدية بين تيار وآخر، والذي حوَّل الاختلاف إلى خلاف، وكدَّر صفو النيات، وأَغْطَش نهار العمل الإسلامي، ليس إلاّ اختلاط هذين الأمرين: أنْ صار التيار الإسلامي المعيَّن لدى بعض المنتمين إليه دِيناً، بدلاً من أن يكون تديناً.

المشكلات التي تنشأ عن هذا الاختلاط والالتباس عظيمةٌ جسيمة:

- فاعتبار التيار الإسلامي ديناً لدى بعض المُنتمين إليه يُولِّد تلقائيّاً في نفوسهم عَداءً للمخالِف؛ باعتباره مُعادياً لصورة الإسلام في نظره.

- واعتبار التيار ديناً يَنقل عقيدة الولاء والبراء من دائرة العمل لأجل الله تعالى ورسوله، إلى دائرة مؤسِّس هذا التيار الإسلامي.

- واعتبار التيار ديناً يُؤدي إلى انتقاص الإسلام من غير المسلمين -بل ومن بعض المسلمين- إذا رأَوا نقصاً في التيار الذي يُمثِّله.

- واعتبار التيار ديناً يَحجُر على حرية الرأي التي كفَلها الله تعالى بالحق والرشاد.

- واعتبار التيار ديناً فيه جَبريَّة لا يعرفها الإسلام.

أشياء كثيرة تنطوي تحت هذا الخلْط كلها يصُب في مصالح العدو المتربِّص في كل زاوية من زوايا الزمان والمكان، وهذه المشكلة لها أشباه تاريخية؛ لأن كل تحزُّب لا يأتي بخير أبدًا إذا صار الولاء فيه للفِكر دون الشرع، وكانت تيارات الاختلاف بينها الفكر أو اتجاهات الاختلاف بينها الفقه.

ويعلَم كثير مِمَن يقرأ هذه السطور كيف كان الحال بين الفِرق الإسلامية من المُعتزلة وأهل السُنّة، هذا العِداء الذي سار على شَوكه الإمام الجليل أحمد بن حنبل، وتَعلمون كذلك كيف كان الحال بين فقهاء يَنتمون للمذاهب المختلفة؛ عداءً وصَل إلى تحريمِ صلاة الرجل الشافعي -مثلاً- خلْف غير الشافعي، وَ وصَل إلى تحريم زواج هذه من هذا إذا كانا على غير مذهبٍ فقهيٍ واحد!


وما كان ابتلاء شيخ الإسلام ابن تيمية إلاّ من هذا القَبيل، وتعلَمون كيف كان يُعاديه الشيخ نصر المَنبجي الصوفي، والقاضي كمال الدين بن الزملكاني مُفتي الشافعية وغيرهما؛ حتى تسبَّبوا في سَجْنه أعواماً تِلو أعوام.

فإن من الواضح إذاً أنه يجب على المنُتمي إلى تيارٍ إسلامي مُعيَّن أن يُؤمن بِعدة أمور، من شأنها أن تسير به في طريق مستقيم:

أولاً:

أن يُؤمن بأن تياره عمَل تنظيميٌ لضبْط حياتِه الدينية ومُستواه الإيماني، وليس صورة ممثِّلة للدين في جوهره الحقيقي الكامل.

ثانياً:

أن يُؤمن بأن هذا التيار يَنبَني على فِكرٍ غيرِ معصوم، فحتى لو كان صحيحاً تسعين في المائة، فإنه لا يَعني أن التيارات الأُخرى مُخطئة تسعين في المائة؛ لأن الأمور التنظيميّة يمكن أن تَختلِف باعتبارها وسائل، والوسائل تَكثُر رغمَ كون الغاية واحدة.

ثالثاً:

أن يُؤمن أن هذا الفكرَ المعصوم خاضعٌ لسُنّة التغيير والتطوير، والتقدُّم والتأخر، والزيادة والنُّقصان.

رابعاً:

أن يُؤمن أن قَبول الآخر -في رأيه وذاتِه- فَرْضٌ عليه في ضوءِ النَّظرة السابقة، ومِن ثمَّ فالإثم كل الإثم على مَن يُعادي على فكره ومَنهجه.

خامساً:

ألاّ يدعو الناس إلى فكرهِ وتيّارهِ من مُنطلق أن هذا هو الدِّين؛ وإنما من مُنطلَق أنه يَرى مَنهجه أفضل مَنهجٍ لتطبيق الدِّين مثلاً، وللناس حرية الاختيار في الانضمام لهذا المَنهج أو عدمَ الانضمام جزئيّاً أو كليّاً.

سادساً:

أن يُؤمن أنه من واجبه الشرعي إصلاح أفكار زملائه الذين يَتبنَّون فكرة تياري هو دِيني؛ لأن الحق إذا اعتُقِد وجبَت الدعوة إليه بنفْسِ قوة وجوب العمل به.


بقيتْ كلمة في الختام:

إن المشكلة الحقيقية في العالَم الإسلامي هي مشكلة أفكار، كما أصَّل لذلك مالك بن نبي الفيلسوف الجزائري الكبير، ونحن لن نستطيع أن نتجاوَز ما نحنُ فيه من مِحنٍ تَحُول بيننا وبين الإيمان الصافي إلاّ إذا طمسْنا الحدودَ بين هذه الأفكار للتلاقح والتكاثُر على الطبيعة التي فطَر الله الناس عليها.

فكن أنت أول يدٍ واصِلة، وكن أنت التغيير الذي تُحب أن تراه في العالَم.


محمد شلبي محمد
 

  • 0
  • 0
  • 1,748

هل تود تلقي التنبيهات من موقع طريق الاسلام؟

نعم أقرر لاحقاً