سقوط الديمقراطية

منذ 2013-02-03

إن مآسي تجربة الديمقراطية المعاصرة لهيَ خيرَ شاهدٍ على مدى المعاناة التي تنجرفُ إليها البشرية حينما تثق برأيها وتستبدِّل بفكرها شريعة أَحكم الحاكمين وهديِّ سيّد المرسلين.


حكم الشعب للشعب، العدالة الاجتماعية، زوال الديكتاتورية...

شعارات ردّدها معتنِقوا الديمقراطية، وهلّلوا لها، متغافلين عن المآزق العديدة التي تعانيها الديمقراطية الغربية، وفشَلها الذريع في بسط الرفاهية والعدالة المنشودة في العالم في ظلِ معدلاتٍ رهيبة من الإباحية والنفعية والانهيارات الاقتصادية، وغيره الكثير مما يَستحي دعاة الديمقراطية أن يَذكروه أو يناقشوه.

إن مآسي تجربة الديمقراطية المعاصرة لهيَ خيرَ شاهدٍ على مدى المعاناة التي تنجرفُ إليها البشرية حينما تثق برأيها وتستبدِّل بفكرها شريعة أَحكم الحاكمين وهديِّ سيّد المرسلين.

الليبرالية:

الليبرالية جزءٌ أساسي من مكونات المنظومة الديمقراطية، حتى نستطيع أن نقول أنه لا ديمقراطية بدون ليبرالية، وتَعني الليبرالية التحرُّر من أي قيَد، والنظر لمُمثلي الشعب على أنهم بِيَدهم وحدهم أزمة الأمر، فالرأيُ ما اجتمعت عليه الأغلبية النيابية دون وضع أيِّ أساس لمسألة ''الحل والحرمة'' التي هيَ من صميم عقيدة المسلم، فالليبرالية لا تعترف بشرعة الدِّين ولا العُرف ولا التقاليد ولا الفِطّرة، وشعارها دوماً: أن الفرد حُرٌ فيما يَفعل بشرط ألا يَعتدي على حُريات الآخرين ''أنت حُرٌ ما لم تَضر''، بل ربما ما تراه الليبرالية اليوم صواباً ينقلبُ غداً خطأً، والأمور تسير وفق مصالح واعتبارات -بزعمهم- لا علاقة لها بدِّينٍ ولا شَرع، وكأن الشرائع جاءت عُقبة في مصلحة البشر.

فالسياحة مثلاً في نظر الديمقراطية الغربية أحد مصادر الدخل القومي؛ بِصرفْ النظر عن تبنيها للمعاييرِ الأخلاقيةِ أم لا، حتى باتتْ السياحة قرينة للمُجون والفُجور والتفسُّخ، وحدّث ولا حرجْ عن حاناتِ الخمور ونوادي القِمار وشواطئْ العُراة وبائعاتِ الهوى.

والاقتصاد الربوي أحد دعائم الاقتصاد القومي في الأنظمة الديمقراطية، دُون وضع المعايير الأخلاقية في الحسُبان، الأمر الذي أودى بالاقتصاد الغربي إلى مِحنة الحالية فيما يُعرف بأزمة التمويل العقاري.

أمّا ''سِيادة صندوق الاقتراع'' فهي أحد الكوارث الديمقراطية التي لا تعترف بدِّين ولا خُلق ولا فَضيلة، فالخضوعُ لمن يأتي به الصندوق أمراً مشهوراً من مُسلَّمَات الديمقراطية، حتى ولو كان ملحداً أو شاذاً أو ماجناً. وفي ظلِّ ليبرالية الديمقراطية صَدرت قوانينَ بإباحة زواج المثليين، والاعتراف بحقوق الشّواذ، وإلغاء عُقوبةِ الإعدام، والنظر للمُجرم على أنه مريضٌ نفسي لا صاحبَ خطيئةٍ تِجاه نفسه ومجتمعه.

لقد أسْرفت الديمقراطية في الأخذ بالمفهوم الليبرالي حتى غابت من قاموسها عبارات الفاحشة والعيب والحرام، واختفت الفضائل وحلّت مَحلها الرذائل تحت دعوىَ الحُرية الفِكرية والجسدية وحُرية َ الإبداع والفن، حتى تجرأت بعض الأفواهِ والأقلام على الذات الإلهية نفسها.

الديمقراطية لا تَعرف عن العقائد شيئاً، فهيَ -العقائد- مَحصورة في قلبِ المرءْ، وإظهارها لا يكون إلا في مسجده أو معبده فقط.

غابَ التفريق بين أهل الإيمان وأهل الضلال، والله تعالى يقول: {أَفَنَجْعَلُ الْمُسْلِمِينَ كَالْمُجْرِمِينَ} [القلم: 35]، وتَميّعت الأمور حتى قَضت على عقيدة الولاءِ والبراء، وتَشرذمتْ الأمةُ في أحزابٍ متناحرة، وأفكارٍ مبعثرة لا تَعرف مرجعيّة لها ولا هُدىً تَسيرُ عليه.

إن الليبرالية في مُجملها لا تَعترف بسيَادة الشريعة الإسلامية وأَحقيتِها في رَسم الإطار العام الذي تسيرُ عليه الأمةُ بِمُحكْمَات النصوص وقواطع الأدلة، فجعلوا حُكم الله وتشريعه معرفةً قلبية محضّة، وأما العمل فهو على ما يشرعه الناس، وسمّو المعرفة الأولى ''مشروعية دينية'' والعمل الثاني ''مشروعية سياسية''.

ولذلك عاتبهم القرآنُ في إثباتهم الخلقُ لله ونَفيهم أَمره وسُلطانه، فقال تعالى: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُواْ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنزِلَ مِن قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَن يَتَحَاكَمُواْ إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُواْ أَن يَكْفُرُواْ بِهِ وَيُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَن يُضِلَّهُمْ ضَلاَلاً بَعِيداً . وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْاْ إِلَى مَا أَنزَلَ اللّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ رَأَيْتَ الْمُنَافِقِينَ يَصُدُّونَ عَنكَ صُدُوداً} [النساء: 60-61].

الأغلبية العددية:

الأغلبية العددية من أسوأ إفرازات الانتخابات الديمقراطية، إذ أن كل أفرادِ الشعب ليسوا بالمستوى الفكري والثقافي الذي يُمكنُهم من اختيار المرشح الأفضل الذي يقود دفة البلاد إلى الرَشاد. ويكفي أن ندلّل على هذا بالنموذج المصري الذي تصل فيه الأمية إلى 34% حسب آخر تقديرات للأمم المتحدة، ولذلك عَمِدَ مشرفو الانتخابات إلى وضع رمزٍ لكل مرشح في الورقة الانتخابية (الحصان، الشمسية، المركب، الساعة..) من أجل التيسير على الأميين في اختيار مرشحهم.

لكن بالله عليكم ما علاقة رجلٍ لا يَقرأ ولا يَكتب وله في الجهل باع. ما علاقته برسم سياسةِ البلد واختيار رموزها السياسية والقيادية، وكيف يتعلق مصيرُ أُمّةٍ بعجوزٍ أُميِّةٍ في مجاهل القرى أو نجوع الصعيد حَملها أولادها وقالوا لها اختاري رمز السيارة أو العمارة أو الخلاط.

ثم هل من الإنصاف أن تُعطى القدرة التصويتية للجميع بالتساوي، بمعنى أن صوت عميد كلية الاقتصاد والعلوم السياسية يتساوى مع صوتِ راقصة ماجنة أو شابٍ مُدمن، أو طاعن في السن لا تُسعِفُه قواه العقلية على إدراك حقيقة الأشياء، قال تعالى: {مَثَلُ الْفَرِيقَيْنِ كَالأَعْمَى وَالأَصَمِّ وَالْبَصِيرِ وَالسَّمِيعِ هَلْ يَسْتَوِيَانِ مَثَلاً أَفَلاَ تَذَكَّرُونَ} [هود: 24].

دكتاتورية رأس المال:

إن طبيعة الانتخابات في العملية الديمقراطية مقتصرة على النخب الثرية، التي تَملك المال للإنفاق ببذخ على الدعاية والإعلان، بل ربما استعانت في تمويل الحملة الإعلانية على أقطاب رأس مالية من قَبيل الشركات العملاقة في مُقابل امتيازات يحصل عليها الممولون بعد فوز المرشح بالمنصب، لذلك يطيب لبعض المحللين أن يصف الديمقراطية بـ ''دكتاتورية رأس المال''، حيث تكونت إمبراطوريات في الخفاء تدير العملية السياسية من وراء ستار، وتملك من أوراق الضغط الكثير بما يخدم مصالحها وحدها، وما تبقى من فُتات فهو للفقراء والمُعدَمين.

أمّا لو تكلمنا عن الجانب الغير أخلاقي فحدّث ولا حرجْ؛ عن عمليات شراء الأصوات واستئجار العملاء وسماسرة رجال الصحافة والإعلام الذين يستخدمون براعتهم الجدالية والإعلامية في الترويج للمرشح ومهاجمة خصومه، حتى صارت الأقلام والقنوات المأجورة أعظمُ مستفيد من المواسم الانتخابية في عملية ابتزازٍ حقيرة، ينجح فيها المرشح الذي يدفع أكثر.

لا ننسى أيضاً المجموع الكُلي لحجم الأموالِ التي أُنفقت في السباق الانتخابي والتي تتجاوز مئات الملايين، بل قد تصل إلى أرقام فلكية في حين أن اقتصاديات الدول في أمسّ الحاجة إليها -خاصة دول العالمِ الثالث- وهذا الهدر المالي المحموم لابُد بالطبع أن يَسترد نفسه ويُعوض خسارته في منظومة مصالح وامتيازات سرية وغير معلنة لا تتوافق مع موازين الأخلاق ولا معايير الصالح العام.

طبيعة السلطة:

من المشاهد الواضح أن ''السلطة'' في اللعبة الديمقراطية ما هي إلا مغنماً لا مغرماً، في حين يَرى العقلاء والأتقياء والفضلاء أنها مسئولية جسيمة، يُحاسِب الله تعالى عليها أشدَّ المحاسبة.

قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «مَنْ وَلِيَ مِنْ أُمور المسلمين شيئاً فَاحْتَجَبَ دُونَ خلتهم وحَاجَتِهِمْ وفَقْرِهِمُ واقَتِهِمْ، احْتَجَبَ اللَّهُ عنه يَوْمَ الْقِيَامَةِ دون خَلَّتِهِ وَحَاجَتِهِ وفَاقَتِهِ وفَقْرِهِ» (صحيح الجامع:6595)، ولذلك حذر النبي صلى الله عليه وسلم من فرط الثقة بالنفس، والسعي وراء بريق السلطة، فقال للصحابي بن سمرة: «يَا عَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنَ سَمُرَةَ، لَا تَسْأَلِ الْإِمَارَةَ، فَإِنَّكَ إِنْ أُوتِيتَهَا عَنْ مَسْأَلَةٍ وُكِلْتَ إِلَيْهَا، وَإِنْ أُوتِيتَهَا مِنْ غَيْرِ مَسْأَلَةٍ أُعِنْتَ عَلَيْهَا، وَإِذَا حَلَفْتَ عَلَى يَمِينٍ فَرَأَيْتَ غَيْرَهَا خَيْرًا مِنْهَا، فَكَفِّرْ عَنْ يَمِينِكَ، وَأْتِ الَّذِي هُوَ خَيْرٌ» (متفق عليه).

ولعظم المسئولية فَرَّ من بريق المناصب الفضلاء، وما تولوا منصباً إلا على مضضْ، وهم يستشعرون حَجم الرسالة والمسئولية التي أُنِيطَتْ بِهم، وَ ودوا لو غيرهم كفاهم هذه الأمانة العظيمة.

أما الانتهازيون فهم يلهثون وراء بريق ''الحصانة''، التي تفتح لهم الأبواب المغلقة وتيسر لهم الصفقات المشبوهة، وما خُفيَ كان أَعظم. لذلك بذلوا في السباق السياسي النفيس والغالي، وأقاموا تحالفات مشبوهة في الخفاء مع القوى الداعمة، وما كل ما يُعلم يُقال.

إن الديمقراطية أتون خادع، هلل له منظروه وأعطوه حجماً فوق حجمه وبريقاً غير بريقه، في حين أن ما يتم في دهاليزها من الفظائع يندى له الجبين.

إن الديمقراطية المعاصرة والدكتاتورية وجهان لعملة واحدة، إلا أنها دكتاتورية تعمل في الخفاء، ويروج لها الإعلام المأجور بكل قوة.

الديمقراطية تفتقر إلى أخلاقيات الإيمان الذي هو عصب العدل، وزمام الأمر، وأساس كل سلوك قويم، ولذلك اصطلت الجماهير بنار الديمقراطية وتشتت دروبها، وصدق رسول الله صلى الله عليه وسلم: «تَرَكْتُ فِيكُمْ شَيْئَيْنِ لَنْ تَضِلُّوا بَعْدَهُمَا: كِتَابَ اللَّهِ وَسُنَّتِي، وَلَنْ يَتَفَرَّقَا حَتَّى يَرِدَا عَلَيَّ الْحَوْضَ» (صححه الحاكم في المستدرك، وابن حزم، والشيخ الألباني في صحيح الجامع من حديث "أبي هريرة رضي الله عنه").

 

خالد سعد النجار

كاتب وباحث مصري متميز

  • 7
  • 0
  • 1,214

هل تود تلقي التنبيهات من موقع طريق الاسلام؟

نعم أقرر لاحقاً