الحالة الدينية في شمال مالي منطقة (آزواد) وتداعيات الثورة، الواقع والمأمول.

منذ 2013-02-05

كثير من الناس قد لا يستوعب ما يجري في شمال مالي (منطقة آزَوَاد) بل وقد لا يعرف الكثير عن المنطقة وهي منطقة تستحق الاهتمام، باعتبارها من الأقاليم الإسلامية ذات الأهمية قديمًا وحديثًا، وفي هذا المقال لا يسعنا تسليط الأضواء على كل ما يجري هنالك، لكن الذي يهمنا ها هنا لفت الانتباه إلى منطقة (آزواد) من منظور واقعها الديني -لا غير- وما يتطلبه من نظرة لمستقبل السنة ودعاتها هنالك.


كثير من الناس قد لا يستوعب ما يجري في شمال مالي (منطقة آزَوَاد) بل وقد لا يعرف الكثير عن المنطقة وهي منطقة تستحق الاهتمام، باعتبارها من الأقاليم الإسلامية ذات الأهمية قديمًا وحديثًا، وفي هذا المقال لا يسعنا تسليط الأضواء على كل ما يجري هنالك، لكن الذي يهمنا ها هنا لفت الانتباه إلى منطقة (آزواد) من منظور واقعها الديني -لا غير- وما يتطلبه من نظرة لمستقبل السنة ودعاتها هنالك.

إن هذه المنطقة بما احتوت عليها من ولايات ثلاث: (تنبكت، غاو، كيدال) وما تضم الثلاث من مكونات شعبية هي (الطوارق، العرب، السنغاي، الفلان) لم تعرف في واقعها ولا في تاريخها منذ بزوغ فجر الإسلام ديانة غير الإسلام، ولم تَنقَد لغيره -إجمالا- منذ نالت شرف الإيمان بالله وبنبيه صلى الله عليه وسلم في القرن الأول.
وإذ نتحدث عن واقعها الديني المديد فلا بد من وضع إطار زمني يكون مدار الحديث هنا، وليكن انطلاقا من زمن الاستعمار الذي يحدد بعض مؤرخي المنطقة بدايات إرهاصاته بتاريخ: 1894 م.

ـ الواقع الديني في المنطقة عهد الاستعمار:
جاء الاستعمار الفرنسي إلى المنطقة، وكان التوجه الديني الذي يأخذ بناصيتها هو (التوجه الصوفي) وكان للتغلغل الانتمائي لهذا التيار في المجتمع أثر بالغ على المنطقة بما يحمله من قيم الزهد والتقشف، وما لا يخلو منه من الخرافة، وهذا التوجه لم يحبس نفَسُه مترددًا في صدره إزاء رجة الاستعمار ومحاولاته الأولى لبسط هيمنته على المنطقة، بل أبى حسه الديني إلا أن يكون مواجها -بقدر ميسوره- للاستعمار، الأمر الذي اقتضى من بعض رجاله الصراخ بالدعوة إلى الجهاد حين وفود الاستعمار.

على أنه لم يتفق أهله على المواجهة المسلحة للمستعمر، بل كان لبعضهم رؤية فقهية لها حجمها وفاعليتها تتمثل في الابتعاد عن المجابهة لفقد كثير من الشروط، فكان ميل فئة غير قليلة من الفقهاء إلى مصالحة المستعمر، حقنا للدماء، وبحجة أن التكليف يدور مع الوسع، وقد كتبوا في ذلك رسائل بينوا فيها وجهة نظرهم ولم تزل موجودة.
وهناك فئة ثالثة من أهل العلم كانت رؤيتها (الدعوة إلى الهجرة نحو بلاد الحرمين) حيث العقيدة الصافية والأمن والطمأنينة -ويأتي الحديث عنها- ومن هنا فسيكون حديثنا باعتباره صورة أو معرِفًا لواقع ديني ما، لا يخلو من محورين أساسيين:

المحور الأول: حول التنصير:
قبل أن نبتعد ذهنيًا عن الاستعمار وأثره ومخلفاته على المنطقة، وقبل أن ندخل في الواقع الديني المنتمي للإسلام -على اختلاف توجهاته وتفاوت بيّنْها في صحة الانتماء إليه عقيدة ومنهجًا- لا بد لنا من وقفة قليلة نذكر فيها أن الاستعمار الذي رحل عن المنطقة عند استقلال جمهورية مالي عام (1960هـ) لم يرحل بكل ثقله وأذياله، بل ترك في المنطقة أطماعًا واسعة في تنصيرها، والتي لا يعرف حملَتُها مللا ولا كسلا في تبليغ دعوتهم بشتى الأساليب، كان منها:

1ـ تجربة الزج بأبناء الناس -على كره منهم- في المدارس الفرنسية، الأمر الذي تنبه شيوخ المنطقة لخطره على المستقبل الديني لأبنائهم، فأخذوا يبتعدون بهم ويختفون وراء كومات البراري وأغطية من ألفاف الأشجار، يبتهلون إلى الله أن يصرفهم ويصرف عنهم التعليم الفرنسي، ما كان له أيضا مع مرور الزمن أثر آخر في تأخر لحوقهم بالركب الثقافي سياسيًا، إذ لغة الدولة الرسمية هي: (الفرنسية) والتي تتعلم على مقاعد الدراسة التي كانوا بأبنائهم في معزل عنها.

2ـ بالإضافة إلى استغلال الجمعيات التنصيرية لسنوات عجاف من القحط والجدب، انحسر فيها النبات عن أديم منطقة (أزواد) ومن أشدها نكاية بأهلها عام (1973- 1985م) حيث نفقت الثروة الحيوانية التي كانت بغلاتها هي قوام حياة كثير من أهل المنطقة، ومن ثم زحفت على المنطقة غارة جديدة لا تقل خطرًا عن غارة الاستعمار، تتمثل في جمعيات وإرساليات تنصيرية وبعثات إغاثية، تقدم كسرة خبز وحقنة دواء كوسيلة للاتصال أولا، ثم تنتهي أخيرًا إلى محاولة الوصول إلى هدفها، بل قامت ببناء بعض الكنائس في المنطقة، إلا أنها لم يطل عمر بعضها، لما تلقته من رفض شعبي علني، أدى إلى إخفاقها الواضح -والحمد لله- في سبيل الوصول إلى أهدافها.

ومع ما منيت به هذه الدعوات التنصيرية من رفض وفشل في كثير من مخططاتها تجاه منطقة (آزواد) إلا أنها هي أيضا لم ينقطع أملها، بل تخطو خطواتها وبتعثرات متتالية، بيد أنه مع هذا العِثار المتكرر لا يأمن المطلع على جلية الأمر أن سينال هذا التعثر يومًا من الأيام قدرًا من الاسترسال نحو الأمام إن لم يوقفه عمق الإيمان وعلو صوت الحق الذي يعلو ولا يعلى، كما حالا دون تغلغله في السابق.

وإن كانت لم تفلح البعثات التنصيرية في بسط التنصير في المنطقة ولا في هيمنة التعليم الفرنسي، فقد كان من تم اختطافه أو اغتصابه من الصغار لصالح التعليم الفرنسي -سواء في الداخل أو الخارج زمن الاستعمار- نواة عادت إلى المنطقة تحمل حزمة من الأفكار (العلمانية، والليبرالية) التحررية والتي تهدف إلى اكتساح المحافظة الدينية بأي شكل تشكلت، وهي أيضا إلى تقدم نحو الأمام بعامل مزيد من الاحتكاك بالثقافة الأجنبية أكثر فأكثر، ما يستدعي التنبه لخطرها على المد السني بوجه أخص، وعلى رسالة الإسلام بوجه أعم.

المحور الثاني: حول الطوائف الإسلامية..
أولا: التوجه الصوفي:
لم يضمحل التوجه الصوفي في المنطقة بوجه عام، فهو الذي يسودها قبل الاستعمار بكاملها، ولم يختف الولاء له منهجًا بل وحتى اسمًا، ولم يتخل عنه رجاله بالكلية كمشرب سلوكي عتيق ذي منهجية سليمة في وجهة نظرهم، ولكنه بفعل وصول الدعوة السلفية مبكرًا -نِسبِيًا- إلى المنطقة وما لدعاتها من بعض التأثير آل بعض أمره إلى الدفاع -فحسب- عن بعض ثوابته -لا بالكلية- ذات ارتبطت بطابعه التاريخي المتقوقع حول ذوات الأجداد والشيوخ، فلم يوفق كثير من الدعاة ولا المدعوين إلى تحييد الأشخاص الماضين ولا الكلام عن الإرث المنهجي منفكًا عنهم، بل قد يصل الحماس ببعض الدعاة إلى النيل من بعض الرموز المقدسة عند معتنقي المنهج الصوفي، ما يتسبب في ردة فعل من الموالين لأولئك الرمز، فتنتج عن ذلك بعض التشنجات التي قد تشوش على انسيابية الدعوة السنية في بعض الأماكن..

لكن لم يسبق أن وصل هذا إلى المستوى الذي يهدد مسار الدعوة السنية، بالقدر الذي يجعلني أعتبره عقبة مقلقة في سبيل الدعوة السلفية فيما لوعني بذلك الإرث الصوفي عناية متأنية ترتكز على واقعه الحي لا على ماضيه بالأمس، ذو صار تاريخًا يصعب عند أهله تقبل المساس به -ولو عن بعد- فكأنه بقي واقفًا موقفًا دفاعيًا يختلف تأثره باختلاف طرح الطرف الثاني، وبقدر تحريه لآلية تناسب التفاهم، فهو بهذا قريب المنال فيما لو استمسك الداعية المخلص بمبادئه الثلاثة: (الحكمة، الموعظة الحسنة، الجدال بالتي هي أحسن).

ثانيا: طلائع الدعوة السلفية في المنطقة:
في هذه الفترة التي بسط فيها الاستعمار هيمنته انتهضت تلك الفئة الثالثة -أي التي هاجرت إلى الحرمين الشريفين- وقامت على ساق وقدم داعية بقولها وبفعلها إلى الهجرة، وبالفعل وصلوا إلى المملكة العربية السعودية ونالوا من هديها وصفاء عقيدتها، ويواكب هذه الرحلة طلائع وفود الحجاج الذين طال حنينهم إلى الحج؛ لبعد الشقة وبطء حركة السير، فمنهم من حجوا على متون الجمال قبل أن تتيسر الطرق المسلوكة إلى الحج -الحج على الطائرة- حتى تطورت وسائل النقل ووُجِدَ بعض السهولة في الوصول إلى هذه البلاد المقدسة، فتتالت أفواج الحجاج ورافق ذلك نمو متزايد للتوجه السلفي في المنطقة.

وبعد أن استقر المقام بأولئك المهاجرين فترة في أرض التوحيد والسنة أخذوا يعودون ويسافرون إلى بلدهم بعد أن ذهب المستعمر وتم الاستقلال، وما عادوا إلا برسالة دينية -سنية- إلا أنها تعتمد على جهود فردية في أول أمرها -ما بعد الاستعمار بقليل-.

والواقع أنه لم تنل الدعوة السلفية في المنطقة كل ما تستحقه من حفاوة وترحيب في ذلك الوقت، نظرًا لتجذر التصوف فيها، ولقلة روادها إلى المنطقة من جهة أخرى، إلا أنها في الوقت ذاته كان لها تأثيرها بالطبع، والذي كان انصباب فائدته على العوام أكثر منه بالنسبة لأهل العلم؛ إذ إن ما وصل إلى أهل العلم من إشعاعها صار مثيرًا للجدل بالنسبة إليهم، فلربما لا يصل إليهم إلا ومضات تتخلل مشادة من كلا الطرفين: (الداعية والمدعو) فكانوا -على تأهب لخوض مناظرات جدلية- كلما أبدى دعاة السلفية ما يخالف الفهم العلمي أو مؤدى نظرهم في مسائل الاختلاف بين الطرفين.

غير أن الله أراد لصوت السنة أن لا ينقطع، فبما فتح الله على السنة من الامتداد بجهود المملكة العربية السعودية في بسطها في العالم أجمع -والحمد لله- كان للمنطقة الآزوادية من ذلك حظها المشكور، حيث تخرج بعض أبنائها من الجامعات السعودية، إلى تيسير من الله اكتنف طرق الحج والعمرة، إلى بناء بعض المراكز الإسلامية في البلد، إلى تأسيس بعض المدارس، بل وأقيمت بعض الدورات وبني كثير من المساجد في المنطقة، كل ذلك ما يمكن اعتباره صحوة للتوجه السلفي السني هنالك بشكل ملحوظ ومشكور، وإن لم يتم -بعد- بلوغه كل ما تسمو إليه النفس، سواء في الطرح من جهة الدعاة، ولا في الامتداد في المنطقة وفقًا لكل المنشود والمتاح.

ثالثا: جماعة التبليغ تستضيفها المنطقة:
في الوقت الذي أخذت فيه بذرة السنة تنمو تدريجيًا وأخذ الموروث الصوفي القابع في الشعور الداخلي للمجتمع نحو ميل إلى التفاهم والتعاطي مع من استقوا المنهج الصحيح من المملكة من أبناء المنطقة، سواء من خريجي الجامعات أو ممن أقاموا في المملكة فترة ثم عادوا إلى بلدهم بهديها وصفاء عقيدتها.

في الوقت ذاته وفي حدود 1420هـ تقريبًا وصلت جماعة التبليغ إلى المنطقة، وكعادة بعض المتأثرين بها أنهم يستهدفون شريحة (غير أهل العلم) بالأولى، وما إن ألقت عصي سيرها في البلد حتى التف حولها الكثير من أبناء المنطقة، فأخذ دعاة التبليغ طريقهم إلى المساجد والأماكن العامة من أسواق وغيرها يلقون رسالتهم فينصرفون، وبمعيتهم كثير ممن صاحبهم للخروج اليومي أو الشهري أو السنوي، وقد تركت هي الأخرى بصمتها في ترسيخ وتحبيب الدين إلى أهل المنطقة وإقبال بعض أهلها عليه وفقا لمنهجهم، ونالت نسبة من النجاح تجلى في تغلغل رسالتها في بعض المناطق وتأثر كثير من عامة الناس بهم، على أن من وصل منطقتنا منهم لم يسلم منهجه من بعض المؤاخذات التي قد يكون من أسبابها ما يرجع إلى مستوى الحصيلة العلمية.

رابعا: جماعات أخرى:
من المثير للاستغراب أن هذه الجماعة -جماعة التبليغ- قد تلاقى تأثيرها في بعض أهل المنطقة مع رافد آخر يصعب تحديد هويته الدينية لمن ليس عن كثب منه، إلا أنه يرمي فيما يرمي إليه نحو أفكار (التطرف الديني) ما يثير نوعًا من الاستغراب ويدعو إلى مزيد من التأمل -وقد علمتَ منهج التبليغيين- وقد كانت هذه الجماعات منعزلة عن المجتمع الآزوادي قبل قليل وتمثل شبحًا بعيدًا عن المجتمع، ولربما تلفت بعض وسائل الأعلام إليها الانتباه نوعا ما، فيجد عنها بعض المثقفين قليلا من الثقافة، وهكذا حالها قبل أن ترفرفت راياتها وأعلامها السوداء بجانب أعلام (الحركة الوطنية لتحرير آزواد) والتي يؤكد المتحدثون باسمها عدم العلاقة بين حركتهم وبين هذه الجماعات، حيث إنهم وجدوها في الصحراء كتركة ورثها النظام السابق، ما تسبب في كثير من الاختلال الأمني وعدم الانضباط الذي ساد المنطقة قبل قيام هذه الحركة الأخيرة.

ولا ننسى هنا ونحن نتحدث عن الواقع الديني في شمال مالي (منطقة آزواد) أن للرافضة امتدادًا في منطقة غرب أفريقيا وفي الدول المجاورة -قاب قوسين أو أدنى من المنطقة- بشكل لا يخفى، فتأثيرهم وزحفهم على المنطقة بما يحملون من سموم مما يقلق الغيورين على السنة، وإن كانت المنطقة -ولله الحمد- ما زالت في عافية منهم ومن أفكارهم فضلا عن تأثيرهم المترقب فيما لو لم يتم احتواء المنطقة سنيًا.

منتهى المطاف (المأمول):
بناء على هذا الواقع الذي اقتربنا من رسم خطوطه العريضة، ولا ندعي استيعاب أبعاد ما هو بعيد عنا منه، فإننا إذ نكتب هذا المقال نلفت الانتباه إلى ضرورة ما يلي:
أولا: مزيد اهتمام أهل السنة والجماعة بالمنطقة باعتبارها إقليمًا مسلمًا يمكن احتواؤه لصالح السنة وأهلها فيما لو تعلقت الهمة بذلك وتوجهت إليه العناية.

ثانيا: تحديث آلية التعامل معه دعويًا باعتباره بؤرة لحراك من مختلف التيارات التي ستتسابق إلى السيطرة على الغطاء البشري فكريًا، وتسليط عوامل التأثير عليه، وكل بالذي عنده وحسب معطياته الثقافية وتوجهه الشخصي.
ثالثا: التنسيق الفاعل بين دعاة السنة من أهل المنطقة وبين غيرهم من العلماء وطلاب العلم أصحاب الفكر السديد والتوجه الصحيح.

رابعا: تأكيد طلبة العلم من أبناء المنطقة -أهل السنة- صلتهم بعلماء السنة المرضيين وتوثيقها في سبيل عمل إسلامي سني فاعل، حيث زاد مسيس الحاجة إلى ارتياد منابع الهدي والعقيدة الصحيحة، وتكاتف الجهود في تبليغ رسالة الدين نحو (منطقة آزواد).

خامسا: بناء على طموح أهل المنطقة الآزوادية والذي يتمثل إما في الانفصال الاستقلالي كخيار أفضل عندهم أو الحكم الذاتي أو الفدرالية، فإنه سيكون هناك سباق من التيارات الدينية إلى فرض توجه ديني يسودها تكون له سيطرته بالأولى، قد يكون في دائرة الانتماء إلى الإسلام وقد يكون خارجها، ونحن إذ نستعجل بنشر هذا المقال نأمل أن تسود السنة في بلدنا وبفهم السلف الصالح، فبذلك نطمئن على مستقبله الديني الذي أصبح معتركًا للتيارات المختلفة المشارب.

هذا والله الموفق، وصلى الله وسلم على نبينا محمد.


أحمد الحسني
 

  • 1
  • 0
  • 2,318

هل تود تلقي التنبيهات من موقع طريق الاسلام؟

نعم أقرر لاحقاً