مصاحف العراق.. مصاحف جونتنامو: أي فرق؟
تناوشني الأفكار المفزعة حول مدى تناغم طرحنا مع مبادئنا, وعن مدى
اتساق حالة الغضب والثورة أو الهدوء اللين مع حجم الفعل وتأثيره بغض
النظر عن مغبات مواقفنا على حساباتنا..
أليس رعيباً أن تكون صرخاتنا وأحياناً دمعاتنا الثخينة هي مصب نهر قد
جف مصدره وغارت عيونه, وقد نفهم أن تهتز بعض مشاعرنا لحدث ما, لكن أن
نصرخ وننفعل ونرغي ونزبد ثم يأتي قرينه فلا ننبس ببنت شفة, وتتجمد
دموعنا في مآقينا, فهذا لا نجاوز إذ نقول إنه درب من دروب
"الشيزوفرينيا" الفكرية والسلوكية التي لا تقل عند تشخيصها خطورة عن
أمراض تقود أصحابها إلى عيادات الأطباء طمعاً في اجتياز مرحلة
الاضطراب هذه..
هل القداسة قابلة للتسيس والتجزئ والاختصار والابتسار؟! هل تقبل
مواقفنا القسمة على اثنين؟! رمنا ما رمنا مواقف ثابتة, وحسابات واضحة,
ومبادئ سامقة, وقلوباً للحق دوماً خافقة, وبيارق لا تعرف حياء
العذراوات, حين تصبح الكلمة أمانة, والزعامة واجبة, فلم يرتد إلينا
بصرنا إلا وهو حسير..
"لا فرق", هذه إجابة لا تعيي حدثاً صغيراً إن نسأله عن مصحفه, إذا
دفعناه إلى مسجد بخليج جوانتنامو كان له شأن, أو أوقفناه في مسجد سني
بمدينة عراقية.. فهل بينهما في القداسة فرق؟ فإذا ما غدونا إلى أستاذ
كرسي في علم الأصول أو القانون, لزادنا "لا فرق, فالمتشابهات تأخذ نفس
الحكم"..
الأمر عينه ينسحب على المساجد هنا وهناك -باستثناء المساجد الفاضلة
بطبيعة الحال-, حيث التفريق بينها نوع من الازدواجية المقيتة.
مسجد بلال في ضاحية باريسية ألقي عليه قنبلة في الأسبوع الأخير من
أكتوبر الماضي, سرعان ما أججت نار غضب شديدة بالترافق مع إلجاء صبيين
من المهاجرين إلى محول كهرباء ذي ضغط عالٍ أثناء مطاردة الشرطة ـ التي
تتعامل بقسوة مع المهاجرين ذوي الأصول العربية ـ في مدينة أولني سوبوا
بالضاحية الباريسية, ما أدى إلى وفاتهما على الفور..
نار الغضب كما هو معروف استعرت في كل مكان, وتعاطفت معها الشعوب
العربية والزعامات الإسلامية لاسيما بعدما تكرر حادث الاعتداء على
المساجد مجدداً بعد أسبوعين بقنبلتين حارقتين ألقيتا على مسجد
بكاربنترا ومسجد ليون الكبير في يومين متتابعين..
التعاطف بدا كبيراً, فيما غُض الطرف عمداً عن 180 مسجداً ـ وفق هيئة
علماء المسلمين ـ تعرضوا لاعتداءات وتحريق في أرجاء العراق بتبريرات
طائفية واهنة قبل أيام.. وحقيق أن ليس من مصلحة أحد وضع الملح على
جروح المسلمين في العراق, لكن من المهم أن يُرى للفعاليات الإسلامية
موقف حازم وقوي يعظم حرمات الله ويعلي من قيمة المساجد في قلوب
الغاضبين لتذكير الغوغاء بأنهم قد احتملوا إثماً عظيماً..
أما مسألة نيل المصاحف بالإهانة في مساجد السنة -أو حتى افتراضياً في
الكنائس!!- فإنه جريمة بالغة الدلالة, تفوق بشاعة اعتداءات غير
المسلمين على المصاحف في جونتنامو وغيرها, وهي عنوان مأزق تجد
الفعاليات الإسلامية نفسها محشورة فيه بزاوية "الميثاق" الذي أخذه
الله عليهم أن يبينوا للناس الحق ولا يكتمونه, موضوعة بين مطرقة
الفتنة وسندان الضمير..
المعضلة هنا, أن الازدواجية قد باتت تحكم كثيراً من مواقفنا,
وحساباتنا قد غدت تفيض في طرف المعادلة صراخاً وصياحاً ويبح صوت
ضميرها في الطرف الآخر منها, لا بأس في هذا الخصوص أن يتحدث أبو بكر
الأخزوري وزير الشؤون الدينية التونسي عن المحجبة كـ"نشاز" وعن أن
"الحجاب دخيل، ونسميه بالزي الطائفي، باعتبار أنه يخرج من ترتديه عن
الوتيرة، فهو نشاز وغير مألوف، ولا نرضى بالطائفية عندنا".."إن تراجع
هذه الظاهرة واضح لأن الفكر المستنير الذي نبث كفيل باجتثاثه تدريجيا
بحول الله"!!. (صحيفة الصباح التونسية 27 ديسمبر الماضي), من دون أن
تعارضه كوكبة من رموز العلم في العالم الإسلامي, ولا أن يخرج بيان
ممهور بأسماء عشرات العلماء المسلمين محتجين على هذا السخف أو محتجين
على تعقب القوى الأمنية التونسية المسلمات المحجبات العفيفات في شوارع
تونس العام الفائت وخلع حجابهن عنوة وخلال السنوات الماضية ـ بحسب
تقرير الرابطة التونسية للدفاع عن حقوق الإنسان السنوي عن عام 2002,
ووكالة قدس برس منذ شهور ـ إحياءً لمنشور 108 البغيض لعام 1981, لا
بأس لأننا لا نرى إلا الحجاب المنزوع في المدارس الفرنسية ـ فقط ـ
والذي أقر قانونه في العاشر من فبراير 2004, فليس لفرنسا خناجر كتلك
المغمودة في ظهورنا..
ولا غرو أن نذرف الدموع على فضائح التعذيب في سجون أبي غريب ولا نسمع
أنين الأهل من سجناء الرأي والضمير والدين في سجوننا العربية, مع أن
جدرانهم ملاصقة لآذاننا الصماء اختياراً!! وبرغم أن الولايات المتحدة
دولة احتلال تخوض حرباً ضروساً مع مقاوميها, ومفهوم -لا مقبول قطعاً-
أن يكون لها أسرى, ومفهوم كذلك أن تتماهى سلوكياتها مع سلوكيات الجدود
سواء في محاكم التفتيش أم في غيرها, وخلاف ذلك ليس إلا استثناء يوقفنا
أمامه مندهشين, ولسنا نخوض حروباً إلا مع شعوبنا التي لا تملك إلا أن
تقول" حسبنا الله ونعم الوكيل"..
حسبنا الله ونعم الوكيل..
- التصنيف:
خالد محمد
منذ