الأرنب والسلحفاة

منذ 2013-02-26

أيها الأرنب الحبيب، قد عرفتَ أنك سريع الحركة جميل المحيا، ومن الذكاء أن تدرك نعم الله عليك، فإذا تعرّف العبد على نِعَمِ الخالق فعليه فيها أمران، أن يحمد الله عليها باللسان والجنان، وأن يشكر الله تعالى على نعمه بالعمل بالأركان، كما قال الله تعالى: {اعْمَلُوا آلَ دَاوُودَ شُكْرً‌ا وَقَلِيلٌ مِّنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ‌} [سبأ: 13].


يحكى أن أرنبا نظر لنفسه يومًا متأملاً حاله معجبًا، فهدته نفسه إلى معرفة جميل أحواله، فظن أنه حق له أن يفخر بها، فهو من أسرع الحيوانات فلا يكاد يجاريه في سرعته أحدٌ، كما أنه ذكي وجميل المحيا، وقد أهَّلته هذه المزايا أن يكون أهلًا لرغد العيش وستمتد به الحياة حتى يملها هو...


مشى متبخترًا في الغابة معجبًا بنفسه، فليس ثمَّ من هو أفضل منه، بل هو... الأفضل، رأى على البعد سلحفاة قد أنهكتها السنون، وعركتها الحياة، فأسرع إليها كالبرق وعيناه تومضان في إثارة... ها قد وجد بعض التسلية أخيرا!!


دار حولها دورتين في سرعة، فتوقفت ونظرت إليه وابتسمت، فقابل تبسمها بالازدراء وتمعر وجهه، ثم فتح فاه فانسكبت منه حماقة الكلمات، متنقصًا متفاخرًا...

لم تخفت ابتسامة السلحفاة، بل اتسعت في حلم وأناة وفتحت فاها فانسكبت حكمة الحياة:


- "أيها الأرنب الحبيب، قد عرفتَ أنك سريع الحركة جميل المحيا، ومن الذكاء أن تدرك نعم الله عليك، فإذا تعرّف العبد على نِعَمِ الخالق فعليه فيها أمران، أن يحمد الله عليها باللسان والجنان، وأن يشكر الله تعالى على نعمه بالعمل بالأركان، كما قال الله تعالى: {اعْمَلُوا آلَ دَاوُودَ شُكْرً‌ا وَقَلِيلٌ مِّنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ‌} [سبأ: 13]، فيستغل العبد نعم الله في طاعته ويسخرها لخدمة دينه، وما وُفِّق إليه من الحمد والشكر أعظم مما أُعْطِيَ من النعم".

ولكن أنّى لمن سقط في ذاك الفخ أن تسمع أذنيه أو يعي قلبه!! بل لابد له أن يذوق وبال أمره ويجرع كأس مرارته حتى الثمالة، فإن وُفِّق بعدها أفاق منه قلبه المخمور...


قال بصوت يهتز زهواً:
- أيتها السلحفاة البطيئة، لا يسعني إلا أن أشفق على أمثالك ممن يتشدقون بالكلمات، وأنا رجل الأفعال، فسابقيني تعرفي من الأفضل...
- وا صديقي التعس! ترى لماذا لم تسابق الغزال أو الفهود؟؟! حقًا إن البغاث بأرضنا يستنسر!
- هلمي يا حاملة الأحجار سابقيني وكفي عن الشجار، إن أحدًا من هؤلاء الذين ذكرتِ لم يمطرني بما تشدقتي به من العبر ودروس الأخلاق... موعدنا عند الشجرة العجوز في آخر الغابة.

وانطلقت ضحكاته الساخرة تجلجل أصداؤها بين ربوع الغابة.


لم تخفت ابتسامة السلحفاة الحكيمة، بل قلّبت الأمور على نواحيها، وتفكرت فيما لديها من الوسائل المعينة، فلم تجد خيرًا من عون الله لها سبيلًا، ولم ترجُ أحدًا غيره وكيلًا، وتذكرت قول النبي صلى الله عليه وسلم: «المؤمن القوي خير وأحب إلى الله من المؤمن الضعيف. وفي كل خير. احرص على ما ينفعك واستعن بالله ولا تعجز. وإن أصابك شيء فلا تقل: لو أني فعلت كان كذا وكذا. ولكن قل: قدر الله. وما شاء فعل. فإن لو تفتح عمل الشيطان» (رواه مسلم).


فقالت في نفسها: إنني قوية بإيماني بالله، ولسوف أنطلق على بركة الله مستعينة به سبحانه، فإن سبقتُ فهذا يعلِّم صاحبنا درسًا، وإلا فإنّ لي في هذه الرحلة من العبر والفوائد ما لا يحصيه إلا الله...

كيف ظننتِ أيتها السلحفاة أنك قد تسبقين هذا الأرنب؟؟! هل رأيت بعين البصيرة أن غروره سيوقعه في حماقات تعوق انتصاره؟؟ أم أن ثقتك بالله أنبأتك أن هناك حسابات أخرى للنصر؟!... قال تعالى: {وَمَا النَّصْرُ إِلا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيم} [آل عمران: 126].

تسابقا فجرى الأرنب في خفة لبرهة من الزمان ثم نظر خلفه، فوجد السلحفاة بعيدة تَجِدُّ السير في بطئها المعهود، فقارن بين حاله وحالها، وقاس المسافات وقدّر الحسابات، فلم يجد بأسًا من أن يخلد لنوم لذيذ تحت شجرة وارفة الظلال إمعانا في الإذلال، ولم يكن قد أمضى أكثر من منتصف الطريق...

لماذا أيها الأرنب قارنت بينك وبين منافستك؟ أما كان يجب عليك أن تحقق أهدافك بلا مقارنات تؤدي للفتور؟ لماذا لم تنطلق في سرعتك من غير أن تنظر للخلف حتى تصل إلى الشجرة العجوز في أخر الغابة... هدفك، ثم تنام هنالك قرير العين بعد أن تسدد رميتك؟؟

ألأن هدفك لم يكن ساميا؟؟ ألأن قلبك قد خالطه الدغل؟؟ أَقَد حطك الكبر والإعجاب من علٍ؟؟ يا صديقي إنك قد غفلت عن أعلى الأسباب في تحقيق المآرب الشرعية والدنيوية... إنّ توفيق الإله العظيم إنما هو لمن خشع قلبه وأخبت واستعان بالله، ولم يعجز فحقق الله له المراد بعد أن كان الكل يجزم أنه ذاك مستحيل... قال تعالى: {وَمَا أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ فِي الأَرْضِ وَلا فِي السَّمَاءِ وَمَا لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ} [العنكبوت: 22].

لو كنتَ يا صغيري أصبتَ التفكير لاجتهدتَ في إصابة الهدف، وتخطي كل العواقب وسَبْقِ ما حققه الأولون قبلك بغير التفاتٍ لغيرك... ولكن أنّى لمن غفل عن ذكر الله أن يُوَفَّق! قال تعالى: {يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِا?ْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ وَيُضِلُّ اللَّهُ الظَّالِمِينَ وَيَفْعَلُ اللَّهُ مَا يَشَاءُ} [إبراهيم: 27].
أهذا ما يفعله بنا الكبر والعجب؟؟!! نقارن بين أحوالنا وبين حال غيرنا، فمن وجدناه أقل شأنًا تنقصناه وفترنا، فأخلدنا إلى الأرض، ومن وجدناه أعلى كعبًا حسدناه وألجمنا الإحباط عن العمل... قال تعالى: {فَإِنَّهَا لا تَعْمَى الأَبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ} [الحج: 46].

نام الأرنب وهو يظن أن بطء السلحفاة سيُمَكِّنُهُ من اللحاق بها وقتما شاء!


أما السلحفاة فتسائلت، ما هي الإمكانيات التي وهبنيها ربي؟ قد وهبني ربي مثابرة وجد في العمل، وتذكرت قول النبي صلى الله عليه وسلم: «سددوا وقاربوا، واعلموا أنه لن يدخل أحدكم عمله الجنة، وأن أحب الأعمال أدومها إلى الله وإن قل» (رواه البخاري).
فتوكلت على الله: أي استعانت به سبحانه وشرعت في العمل، وإن «من خاف أدلج، ومن أدلج بلغ المنزل» (صححه الألباني- صحيح الترمذي)، لم تفكر في النتائج بل لم تعبأ بها، فإن المحاولة شرف، وإن العمل ولو بدا للآخرين مستحيلًا فإنه بعون الله وتوفيقه سهلًا يسيرًا، فيارب إنه: «لا سهل إلا ما جعلته سهلًا، و أنت تجعل الحزن إذا شئت سهلًا» (صححه الألباني- السلسلة الصحيحة).

وما الذي ستخسره؟! إن التجربة خبرة ولو فشلت، وستستفيد منها فهي حريصة على ما ينفعها، سترى الغابة كلها وتصل إلى الشجرة العجوز، وتشرب من الينبوع العذب بجوارها حتى لو وصلت متأخرة.
سيتهمونها بالجنون؟؟... لا بأس فإن المثَبِّطون في كل مكان دأبوا على اتهام العباقرة بالجنون...

شرعت في العمل وفي كل خطوة لا تنسى أن تستعينَ بالله وتَجِدَّ السير، فأحسنتِ التوكل مع صدق النية والإخلاص، لم تنظر خلفها ولم تهتم بمعرفة مبلغ علم الأرنب المغرور، إن الالتفات لا يفيد بل يلهي عن الطريق، شردت مع كلمات ابن القيم الساحرة: "قيل للحسن: سبقنا القوم على خيل دهم ونحن على حمر معقرة فقال إن كنت على طريقهم فما أسرع اللحاق بهم" [1].

استيقظ الأرنب وتمطى في كسل، نظر خلفه فلم ير صاحبته على مرمى البصر، وإن العيب في العين الناظرة، فتبسم في سخرية وانطلق يجري في خفة فوق العشب الرطب، فلما تراءت له الشجرة العجوز توقف في ذهول!


كانت السلحفاة تغفو في دعة وسكون وقد شربت من الماء العذب وأكلت من أطيب الثمار، واستراحت من وعثاء السفر، لم تستوحش الطريق رغم قلة السالكين، ولم تغتر رغم كثرة الهالكين[2]، ولم تتلفت عن الشمال ولا عن اليمين، رغم ما رأته في المضمار من طيب الثمار، وظلال الأشجار على جانبي السبيل، لم تتوقف مع العوائق ولا تعلقت بالعلائق، قال تعالى: {وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ} [العنكبوت: 69].

------------------------------
[1] كتاب الفوائد- ابن القيم
[2] مدارج السالكين- ابن القيم
 

المصدر: خاص بموقع طريق الإسلام
  • 31
  • 0
  • 2,193

هل تود تلقي التنبيهات من موقع طريق الاسلام؟

نعم أقرر لاحقاً