التجديد في الإسلام (1)
ياسر منير
إن العالم الذي نعيش فيه تصطرع فيه العقائد والأفكار، وتتصادم المبادئ والآراء، وقد اقتضت سنة الله في هذا الكون أن يكون الصراع بين الخير والشر صراعًا مستمرًا ما استمرت الحياة، وإن الإسلام الذي هو خير كله؛ لذلك اختاره الله دينًا للبشرية، لن يترك من قبل قوى الشر، ولا تزال شياطين الإنس والجن تواجهه بشتى الأسلحة منذ أن بُعث محمد بن عبد الله صلى الله عليه وسلم إلى يوم الناس هذا
- التصنيفات: قضايا إسلامية معاصرة -
إن الحمد لله نحمده ونستعينه، ونستغفره ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادى له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، وبعد:
فإن العالم الذي نعيش فيه تصطرع فيه العقائد والأفكار، وتتصادم المبادئ والآراء، وقد اقتضت سنة الله في هذا الكون أن يكون الصراع بين الخير والشر صراعًا مستمرًا ما استمرت الحياة، وإن الإسلام الذي هو خير كله؛ لذلك اختاره الله دينًا للبشرية، لن يترك من قبل قوى الشر، ولا تزال شياطين الإنس والجن تواجهه بشتى الأسلحة منذ أن بُعث محمد بن عبد الله صلى الله عليه وسلم إلى يوم الناس هذا.
وأخطر الأخطار التي تهدد هذا الدين ما كان داخليًا نابعًا من صفوف متبعيه، فالذي يتتبع حركة هذا الدين في التاريخ يجد مصداق ذلك، فكل أنواع الإخفاق والانهزام التي مَنِى بها أصحابه كانت أسبابها الرئيسة ترجع إلى تراخٍ في التمسك بهذه العقيدة، أو عدم وضوح في التصورات والأهداف يعتري الناس.
وكل العلامات المضيئة في مسيرته التاريخية ترجع إلى انتباه المسلمين إلى ما يملكون من رصيد مادي ومعنوي حيث يعتزون بدينهم، ويشعرون بفداحة الأخطاء التي تهددهم من خلال استهداف الأعداء دينَهم فيجتمعون على هدف موحد، ويسيرون إليه بخطًا واثقة يستهدفون كتاب ربهم وسنة نبيهم صلى الله عليه وسلم، ويستلهمون معاني القوى والاعتزاز وكراهية الظلم بشتى أشكاله من ذلك الرصيد العظيم.
وقد اقتضت حكمة الله أن يكون العلماء هم الرواد الذين يحملون النور في الظلمات الحالكة، وأن يكون علمهم هو الهادي للمسلمين حين تطبق عليهم الخطوب وتفدحهم المصائب، فيبثون بهذا العلم الثقة في النفوس المهزومة، ويبعثون الأمل الضاحك في القلوب المقهورة، ويشخصون الداء ويصفون الدواء بحكمة الطبيب الحاذق.
ومنذ أواسط القرن التاسع عشر النصراني بدأ المسلمون بالتنبه لواقعهم الذي آلوا إليه: تراجع في القوى، وتشتت وتفرق، وملوك وولاة أنهكوا شعوبهم بظلمهم وعسفهم واستبدادهم، وأماتوا فيهم عوامل الوثوب والمقاومة، حتى غدوا جهلاء فقراء، إلى جانب أمم الغرب التي استعدت عليهم، وبدأت تهددهم، وأخيرًا قضت على آخر كيان سياسي كان يتكلم باسم هذا الدين، وهو الخلافة العثمانية.
وتمكنت من أن تسيطر على بلدانهم وثرواتهم، وتجعلهم وبلدانهم غذاًء لمصانعها وبطونها،وسوقًاً لمنتجاتها، وقبل كل ذلك وضعت الخطط والبرامج من أجل تغيير عقائد هذه الشعوب، وقطع صلتها بتشريعها وقيمها وأخلاقها، وإحلال عقائد ومناهج الغرب الكافر محلها، فتقترب العقول من العقول، وتردم الهوة السحيقة التي تفصل بين قيم وقيم، وعادات وعادات، فيسلس لها قياد هذه الشعوب، ويسهل لها تحقيق مطامعها في بسط الهيمنة ورفع الحضارة الغربية المسيحية الوثنية، وتدمير المعاني الإسلامية الربانية.
ومنذ ذلك الحين إلى الآن قامت دعوات ونهض أفراد، يرفعون رايات الإصلاح ويبينون مكامن الأخطر كل حسب رأيه وقدراته ومنازعه الثقافية.
وكان دعاة الإصلاح -وما زالوا- كل له رأيه في الإسلام، فكان أن جعلته طائفة أساسًاً لعملها، وطائفة تجاهلته، وطائفة اختارت منه أشياء ورفضت واستبعدت أشياء يدفعها إلى ذلك التحكم المحض تارة، أو الانهزام أمام الأفكار الوافدة تارة أخرى، أو الغرور مرات كثيرة، على أن الأمر الذي آثار -ويثير- البلبلة في الأفكار، وخاصة أفكار الشباب هو أن أغلب رواد الإصلاح كانوا يرفعون راية الدين، ويدعون أنهم على الجادة التي ترك محمد بن عبد الله صلى الله عليه وسلم أصحابه عليها، مع أن أغلب أولئك الرواد قد شابت مسالكهم الشوائب، وخالطت منهاجهم أمور غريبة كانت نتيجة تصور غير صافٍ للمنهج الإسلامي الأصيل.
وهذه الدراسة التي أشرف بنشرها لديكم تتناول هذه القضية الخطيرة، قضية التجديد والإصلاح، وتصب في صميم تحديد المنهج الذي يجب أن ينتهجه المسلمون، حتى يخرجوا مما هم فيه من الضعف العقائدي، ويرتفعوا عن وَهْدة الذل والهوان التي صاروا إليها.
وقد طرح هذا الموضوع الحساس على بساط البحث قديمًاً وحديثًاً، وتناولته طائفتان من الكُتّاب:
1- طائفة يمكن أن نطلق عليها اسم: (هواة الكتابة)، حيث وجدوا هذاالموضوع مستطرفًاً، فتناولته إشباعًاً لهواية الكتابة عندها، لا انطلاقًاً من شعور مُلِحَ، وإحساس تفاعلي بينهم وبين الواقع.
2- طائفة من العلماء الأعلام تعرضت له تعرضًاً خفيفًاً حسب ما يقتضيه ما هم بصدده من بيان المراد بالجملة لا التفصيل، وشرح لمضمون حديث (المجدِّد) حينما يعرض في دواوين السنة، وسأحاول في هذه الدراسة العلمية استيعاب موضوع (التجديد في الإسلام) قدر التوفيق من الله تعالى.
لقد أوجد الله تبارك وتعالى الخلق على ظهر هذه البسيطة -بحكمته البالغة- ليبلوهم أيهم أحسن عملاً؟ واقتضت حكمته سبحانه أن يجعل فطرتهم الاستقامة والميل عن الشرك إلى التوحيد، فأوجد البشر أول ما أوجدهم على الحنيفية، قال تعالى: {كَانَ النَّاسُ أُمَّةً واحِدَةً} [البقرة: 213]، وقال صلى الله عليه وسلم فيما يرويه عن ربه عز وجل: «» (رواه مسلم في:51 كتاب الجنة وصفة نعيمها وأهلها، 16- باب الصفات التي يعرف بها في الدنيا أهل الجنة وأهل النار، حديث رقم 63، الرقم العام 2865، ج4 ص2197، ط: عبد الباقي، رواه أحمد في (المسند) ج4، ص 162 ضمن حديث عياض بن حمار المجاشعي رضي الله عنه).
وجعلهم سبحانه يولدون حين يولدون على فطرة الإسلام السليمة المستقيمة، كما قال صلى الله عليه وسلم فيما رواه أبو هريرة رضي الله عنه: «»، ثم يقول أبو هريرة: "واقرءوا إن شئتم: {فِطْرَتَ اللهِ الَتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللهِ ذَلِكَ الدِّينُ القَيِّمُ} [الروم:30]"، (والحديث رواه البخاري في: 23 كتاب الجنائز، 92باب ما قيل في أولاد المشركين، حديث 1385، الفتح 3/ 245- 246ورواه أيضًاً في: 65 كتاب التفسير، باب لا تبديل لخلق الله، رقم: 4775، ج8، ص12، ورواه أيضًا في 82 كتاب القدر، 3 باب: الله أعلم بما كانوا عاملين، رقم 6599، ج11، ص 93 ورواه مسلم في: 46 كتاب القدر، باب: معنى كل مولود يولد على الفطرة، رقم 2658، ج4، ص 47، ورواه أحمد في مواضع: 2/315، 346 - 347، 275).
قال الإمام البخاري رحمه الله: "والفطرة: الإسلام" (في الموضع السابق من كتاب التفسير 8/512).
ويشهد لذلك أن في بعض ألفاظ الحديث: « ».
ولأن الله تعالى أراد ابتلاء البشر وامتحانهم ليتحقق في واقع الحياة ما علمه عنهم بسابق علمه سبحانه، فقد جعلهم قابلين لسلوك كلا الطريقي: الخير أو الشر، ففي مقدورهم الاستمرار علي الفطرة الأولى، وفي مقدورهم الانحراف عنها والميل إلى طريق الضلال، وزودهم بالوسائل والمدارج التي يتمكنون باستعمالها من معرفة الحق وإدراكه (في الجملة) ويسَّر لهم من الدلائل والبينات في الآفاق وفي أنفسهم ما يقوي عنصر الخير ويمكنه.
وبعث لهم الأنبياء والرسل عليهم صلوات الله وسلامه مبشرين ومنذرين بحيث لم يعد للناس على الله تعالى حجة، كما ابتلاهم سبحانه بحكمته بالشهوات والشبهات لتكون محكًا حقيقيًا يكشف عن توجه الإنسان ومقصده، والشياطين تزكي هذه وتلكو تؤز الإنسان للشر والمنكر أزًا.
وهكذا يبدأ الصراع بين الحق والباطل:
- داخل النفس البشرية بين قوة الخير (تؤيدها الرسالات السماوية وتشهد لها الأدلة الكونية والعقلية) وقوة الشر التي تؤججها الشياطين المسلطة على ابن آدم.
- ثم في مجال الحياة البشرية (بشكل أوسع) حيث يتميز المؤمنون أتباع الرسل، عن المجرمين أتباع الشياطين، ثم تتصارع هاتان الفئتان للسيطرة على الحياة البشرية وتوجيهها وقيادتها، ولقد تعاهد الله تعالى البشرية بالمرسلين عليهم الصلاة والسلام الذين كانوا يقودون خطاهم إلى السعادة في الدنيا والآخرة، فكان منهم من يأتي بشريعةٍ إلهيةٍ جديدةٍ، ومنهم من يأتي لتجديد ما اندرس من شريعة نبي قبله، حتى ختم الله الرسالات برسالة محمد صلى الله عليه وسلم، وانقطع بموته عليه الصلاة والسلام الوحي الذي كان يتنزل من قبل على الأنبياء والمرسلين.
وليس من شك أن من طبيعة الحياة الإنسانية أن ترتد وتأسن، ويطرأ عليها بمرور الزمن ما يكدر صفائها، فلا يكاد الناس يستقيمون على الإيمان والتوحيد حتى تبدأ عوامل الانحراف تتسرب إليهم شيئًا فشيئًا تسرّب الماء الآسن إلى المشرع الروي الزلال، ولا يلبث نقاء العقيدة أن يشوبه شيء من ذرائع الشرك ووسائله وأسبابه، ثم تظهر بعد حين النتائج المخوفة من وراء تلك الذرائع والوسائل والأسباب.
ولقد كان ناس من الناس ينحرفون في أعظم الأمور وأخطرها (في قضايا الاعتقاد) حتى في حياة رسلهم عليهم الصلاة والسلام، فكيف وقد ختمت الرسالات، وأغلقت أبواب الوحي فلا يتنزل بعد؟ وكيف بما دون تلك القضايا من أمور التشريع؟
وإذا كان المنافقون والضالون يجدون من يستمع إليهم ويصغي إلى وسواسهم، رغم وجود الرسول صلى الله عليه وسلم الذي يمثل القيادة السليمة والقدوة الصالحة، ويكشف عن مُحَيا الحق حُجب الباطل فيسفر كالشمس ليس دونها سحاب، فكيف يكون الأمر إذا ضاعت السبل، وتفرقت الأهواء وكثرت الأصوات المضللة، وخفت صوت الحق، والتبست معالمه فلم يعد الناس يميزون بين الأصوات، ولا بين الألوان؟!
إن الحاجة في مثل تلك الحال تتطلب بروز قيادة إسلامية متميزة تجدد للأمة أمر دينها، وتجلي الحقائق الملتبسة، وتحيي الفرائض المعطلة، وتزيل ما علق بهذا الدين من الآراء الضالة والمفهومات المنحرفة.
وبمثل هذه القيادة التي تضطلع بمهمة الخلافة عن التبيين في تجديد الدين وإحيائه بشَّر الحديث النبوي الشريف: «» (أبو داود: كتاب الملاحم، باب ما يذكر في قرن المائة، حديث 291،ج4، ص480، ط3).
وبمثل هذه القيادة التي تضطلع بمهمة الخلافة عن التبيين في تجديد الدين وإحيائه بشَّر الحديث النبوي الشريف: «» (أبو داود: كتاب الملاحم، باب ما يذكر في قرن المائة، حديث 291،ج4، ص480، ط3).
إن هذا الحديث العظيم إحدى البشائر التي وعد الرسول صلى الله عليه وسلم فيها أمته، وإنه ليمنح المسلم المصدق بما جاء به الرسول عليه الصلاة والسلام طاقة من الأمل الأكيد بنصر الله لعباده المؤمنين، ويمنحه (فوق هذا) دفعة قوية للعمل والبذل والتضحية رجاء أن يكتب الله له حظًا من أجر المجدِّدين.
وسنقف في هذه الفترة مع بعض المعاني التي نستلهمها من الحديث:
1- إن أول ما يستوقف المتأمل قول الرسول صلى الله عليه وسلم: «»، إن هذا المبعوث لم يعد همه نفسه فحسب، بل تجاوز ذلك ليعيش «». وسواء كان المقصود أمة الدعوة على ما رآه قوم أو أمة الإجابة على ما رآه آخرون، فإن هذا المجدد تعدى نطاقه المحدد إلى الأفق الأوسع ليؤثر في مجريات الأمور والأحداث من حوله وليقود خطوات الأمة المسلمة في معركة الحياة، ومن ثم يحدث التوازن في مسيرة الحياة البشرية كلها، ويأخذ الإسلام دوره في الوجود، وهو بهذا مجدّد للأمة الإسلامية بإيقاظها، وإعادة ثقتها بدينها، وردها إلى المنهج الصحيح، وهو مجرد للبشرية كلها، البشرية المتلهفة إلى العدالة والإيمان المحتاجة إلى العقيدة أكثر من حاجتها إلى الطعام والشراب والهواء.
2- أما (البعث) المذكور أنه يكون على رأس المائة، فإن البعث هو الإثارة والإرسال، فيكون المعنى: "إن الله يقيض لهذه الأمة على رأس المائة مجددًا، أي: أنّ هذا المجدد يتصدى في رأس المائة لنفع الأنام، وينتصب لنشر الأحكام" (انظر: مقدمة فيض القدير للمناوي، ج1، ص10)، فليست ولادته ولا وفاته على رأس المائة، بل تجديده، ولذلك استغرب الإمام المناوي فهم بعض العلماء أن المبعوث يكون موته على رأس القرن، وقال: "وموته على رأس القرن أخذ لا بعث" (انظر: مقدمة فيض القدير للمناوي ج1، ص 12).
3- أما المقصود بـ(الرأس) في قوله صلى الله عليه وسلم: «»، قد قال بعضهم: يعني في أولها، وقال آخرون: بل في آخرها (انظر: عون المعبود ج4، ص 178 - 179، ط: الهندية).
4- أما قوله صلى الله عليه وسلم: « »، فيثور حوله سؤال ذو أهمية كبيرة:
- هل المقصود بذلك فرد أو رجل كما صرحت به الروايات التي رويت عن الإمام أحمد وسفيان؟ أم إن المقصود ما هو أوسع من ذلك؟ فأما لفظ (مَنْ) فمما لا يخفى أنه يطلق على المفرد وعلى الجماعة (من حيث اللفظ)، ومن حيث المراد بها في الحديث قال بعضهم: "المقصود بها فردٌ"، وحملوا (مَنْ) في هذه الرواية على لفظ (رجل)، أو (عالم) في الروايات الأخرى التي سلف لك بيان شأنها (انظر: توالي التأسيس ص 24/ب، وفيض القدير ج1، ص10، وفتح الباري ج13، ص295).
واختار هذا الرأي عدد من العلماء، ونسبه السيوطي إلى الجمهور فقال: "وكونه فردًاً هو المشهور قد نطق الحديث، والجمهور، ونسبه غيره إلى العلماء" (انظر: بذل المجهود ج17، ص203)، واختار آخرون العموم، منهم: الحافظ ابن حجر، وابن الأثير، والذهبي، والمناوي، وللحديث صلة إن شاء الله.