ليبيا وحلم شنودة
شريف عبد العزيز
فجأة ودون سابق إنذار، انفجرت الأوضاع على الحدود بين مصر وليبيا، على خلفية قيام السلطات الليبية بمنع دخول المصريين إلى البلاد، إلا بعد الحصول على تأشيرة مسبقة توضح سبب الدخول، وهذا الأمر سبب توترًا كبيرًا واتضح أن للمسألة أبعادًا مغايرة، فقد قامت أجهزة الأمن الليبية بالقبض على عشرات المصريين الأقباط، الذين دخلوا البلاد بتهمة تحريض الليبيين على التنصُّر وترك الإسلام، مما حدا بالسلطات الليبية لأنْ تقوم بهذا الإجراء الاستثنائي، وتتشدد في معاملة المصريين الوافدين.
- التصنيفات: الواقع المعاصر - أحداث عالمية وقضايا سياسية -
فجأة ودون سابق إنذار، انفجرت الأوضاع على الحدود بين البلدين الجارين؛ مصر وليبيا، على خلفية قيام السلطات الليبية بمنع دخول المصريين إلى البلاد، إلا بعد الحصول على تأشيرة مسبقة توضح سبب الدخول، وهذا الأمر سبب توترًا كبيرًا على الجانبين؛ إذ كانت العمالة المصرية تتدفق بأعداد كبيرة على الحدود الليبية ذهابًا وإيابًا بانسيابية واسعة، مما سبب متاعب ومشاكل جمة، وبالبحث والتنقيب عن سبب هذا التغير المفاجئ في الموقف الليبي، اتضح أن للمسألة أبعادًا مغايرة، فقد قامت أجهزة الأمن الليبية في أوائل شهر فبراير الماضي بالقبض على عشرات المصريين الأقباط، الذين دخلوا البلاد كما هو معتاد بلا تأشيرة تحت مسمى العمل في مجال البناء، بتهمة تحريض الليبيين على التنصُّر وترك الإسلام، وبالتحقيق في القضية اتضح وجود أطراف أخرى في مناطق طرابلس ومصراتة تعمل في نفس الأمر، مما حدا بالسلطات الليبية لأنْ تقوم بهذا الإجراء الاستثنائي، وتتشدد في معاملة المصريين الوافدين.
ومعروف للجميع أن ليبيا تشرف على غيرها من بلاد المنطقة العربية والشمال الإفريقي، بأنه لا يوجد على أراضيها ليبي يدين بغير دين الإسلام، فالليبيون كلهم مسلمون سنيون، وذلك منذ الفتح الإسلامي لليبيا على يد عمرو بن العاص رضي الله عنه سنة 21 هـ، والليبيون عندهم مناعة متينة تجاه أية محاولات لصرفهم عن دينهم، فهم الشعب الأشد اعتزازًا بدينهم، حتى أصبح الإسلام جزءًا من الهوية والقومية الليبية، ورغم وقوع ليبيا تحت أسر الاحتلال الصليبي عدة مرات، إلا إنهم ظلوا على الدوام صخرة تتحطم عليها آمال الكنائس الغربية والشرقية، واقتصر الوجود النصراني في ليبيا على الوافدين الأجانب سواء من عرب أو أجانب، أفارقة أو أوربيين، وتعتبر الجاليات المصرية والسودانية التي تدين بالمذهب الأرثوذكسي هي الأكبر في ليبيا، تليها الجالية الإيطالية التي تدين بالمذهب الكاثوليكي، ثم أعداد صغيرة من المذاهب الأخرى.
وتعتبر سنة 1971 نقطة تحول مفصلية في حياة الوجود النصراني في ليبيا، إذ اعتلى كرسي البابوية للكنيسة الأرثوذكسية المصرية البابا شنودة الثالث، الذي يعتبر بحق مجدد المذهب ومحيي آماله، وأخطر من اعتلى هذا الكرسي على مدار تاريخه الطويل، إذ كان لشنودة حلم كبير في إحياء المجد المرقصي للكنيسة الأرثوذكسية، وبناء إمبراطورية الكنيسة الأم التي تضارع كنيسة روما، وكان هذا الحلم يبدأ تحديدًا من على الأراضي الليبية، فمن الأمور الثابتة تاريخيًّا والتي لا يعرفها كثير من الناس أن القديس مرقص الذي يدَّعي أقباط مصر أنه التلميذ رقم سبعين للمسيح عليه السلام، والذي تنتسب إليه الكنيسة الأرثوذكسية، قد جاء إلى مصر لنشر النصرانية فيها قادمًا من ليبيا، لكنه سريعًا ما عاد إلى ليبيا ثانية بعدما لفظته الفرعونية الوثنية في مصر، ولعدم معرفته بلغتهم، ولمطاردة السلطات له، وليموت في ليبيا التي جاء منها..
ومن هنا رأى البابا شنودة أن وطن القديس مرقص صاحب الرسالة، لا بد أن يكون في قوة وحيوية رسالته! لذلك لم يكد يتولى شنودة زعامة الكنيسة المصرية حتى قرر إحياء مجد مرقص القديم، الذي لا يعرف إلا في الأساطير الأرثوذكسية فقط، فاللقب الكنسي الذي يحمله الأنبا شنودة، وحمله من قبله كل الباباوات الذين سبقوه، هو: (بابا الإسكندرية وبطريريك الكرازة المرقصية في مصر والمدن الخمس الغربية وشمال إفريقيا)، في الوقت الذي لا يُعرف فيه لواحد منهم ولاية أو سلطان على غير كنائس مصر، وأوهام قديمة عن مدن خمسة غربية غير معلومة الاسم ومجهولة المكان، يطلق عليها في تاريخ الكنيسة اسم (بنتا بوليس).
وبالفعل شرع البابا شنودة في هذا الحلم الكنسي، فأرسل وفدًا كنسيًّا إلى ليبيا، حيث قدموا طلبًا بإنشاء عدة كنائس، فوافقت السلطات الليبية على بناء كنيستين، واحدة في طرابلس والثانية في بنغازي، وعلى الفور صدر القرار البابوي في 12/12/1971م، بضم الكنيستين الجديدتين إلى إيبارشية (مجمع رعاية كنائس)، مناطق: (البحيرة، والتحرير، ومرسى مطروح في غرب مصر)؛ ليكونوا جميعًا تحت رعاية إيبارشية واحدة وأسقف واحد، هو الأنبا باخوميوس، والذي أصبح مسماه الوظيفي الجديد: (أسقف البحيرة، والتحرير، ومطروح والمدن الخمس الغربية)، وهو الأنبا الذي تولى تسيير شئون الكنيسة بعد هلاك شنودة، وهو الذي أشرف على اختيار البابا الجديد (تواضروس)، ووضعت خطة سريعة لتنشيط جهودهم بين رعايا الكنيسة المصرية في ليبيا، وجرى التحضير لزيارة رسمية للبابا شنودة إلى ليبيا، والتي تمت في أجواء أسطورية بالغة الحفاوة في 27/3/ 1972، أقيمت احتفالات كبيرة ليست على المستوى الكنسي، إنما على المستوى الرسمي للجمهورية الليبية، حيث استقبل الرئيس القذافي البابا شنودة بنفسه في المطار، ليتلقى منه الشكر على ما حققه للكنيسة المصرية من حلم؛ إذ كان بعيد المنال أن يكون لها في ليبيا مكان، وقد حالت قوى الاحتلال الصليبية التي تعاقبت عليها، دون أن يكون هناك وجود كنسي لمصر.
وما إن عاد شنودة من رحلته بليبيا حتى أخذ في الترتيب بكل همة ونشاط من أجل إحياء النشاط الكنسي في ليبيا، وذلك بالتنقيب في الآثار والحفريات القديمة في ليبيا، من أجل العثور على ما يعضد الأسطورة الأرثوذكسية المسماة بالمدن الخمس، ثم أرسل الأنبا شنودة وفدًا آخر إلى المكتبات ومراكز المخطوطات في إنجلترا وإيطاليا وروما، للبحث عن أية مصادر حول التراث القديم للكنيسة في ليبيا، برغم تأكيدات علماء الآثار الغربيين أن هذا التاريخ المزعوم وجوده لما يُعرف بالمدن الخمس وهمي لا أساس له، ويفتقد إلى سند علمي، وهو ما أكده الدكتور الإيطالي (بورو) عميد كلية الآداب بجامعة بنغازي، في مؤتمر التاريخ الليبي، والذي نظمته الكلية عام 1968م، حيث قال: "إن تاريخ المدن الخمس وهمي لا أساس له"، ومع ذلك أصر البابا شنودة على تمرير هذا الوهم حتى أصبح حقيقة راسخة لدى جموع الأقباط الأرثوذكس، وأصبح بمثابة الإرث الذي يجب الحفاظ عليه والبحث عن جذوره، وتأكيد السيطرة والهيمنة عليه.
الطموحات والآمال والأحلام لدى شنودة اصطدمت بعد ذلك مع التركيبة العقلية الفريدة للقذافي، ففي حين أبدى القذافي في بداية عهده تسامحًا كبيرًا مع الأقباط، وسمح لهم بحرية ممارسة الشعائر والحركة، إلا إنه بعد ذلك أخذ في التضييق عليهم، والحد من نشاطهم وحركتهم، وتبنَّى القذافي منهجًا إسلاميًّا خاصًّا به، أقرب ما يكون للشيوعية والثورية منه إلى الإسلام، وأغلق الباب أمام الدعوة الإسلامية وغيرها، واتبع سياسة الستار الحديدي مع ليبيا، وبعد أن قام القذافي بتغيير جلده مرة ثالثة، وأعاد الانفتاح على الغرب على خلفية تراجعاته الشهيرة أمام الغرب، في قضية لوكيربي، أعاد البابا شنودة محاولاته القديمة تجاه ليبيا، ففي فبراير سنة 2003م، أوفد شنودة الأنبا باخوميوس إلي ليبيا في زيارة خاطفة لبحث إمكانية تأسيس كنيسة ثالثة في مصراتة، حيث يوجد بها جالية مصرية قبطية كانت تستعمل إحدى الشقق السكانية كقاعة للصلاة، وقد رفضت السلطات الليبية الطلب آن ذاك ووعدت ببحثه لاحقًا.
واليوم وبعد أكثر من أربعين سنة من الشروع في تحقيق حلم شنودة، ومحاولة إحياء أسطورة المدن الخمس بنشر النصرانية بين أبناء الشعب الليبي، ما زال هذا الحلم مصطدمًا بصلابة الشعب الليبي وشدة إيمانه، وتمسكه بعقيدته وهويته، معتزًّا بدينه أكثر من أربعين سنة، وما زال حلم شنودة يراوح بين أقدامه، فكل الجهد والمال المبذول من أجل إعادة بلد مؤسس المذهب الأرثوذكسي لحظيرة النصرانية ذهب أدراج الرياح، ولم تسجل حالة تنصُّر واحدة في صفوف الشعب الليبي، على الرغم من ضخامة الإنفاق والجهود، وما يجري اليوم من محاولات لنشر النصرانية هناك، ما هي إلا إثبات موقف من البابا الجديد، يؤكد به أن حلم شنودة في ليبيا لم يمت، وأنه ما زال على دربه سلفه سائرًا.