الأمانة
علي الطنطاوي
جعل النبي صلى الله عليه وسلم للمنافق آيةً يُعرَف بها بين الناس، ومن آياته أنه: «إذا حدّث كذب، وإذا وعد أخلف، وإذا اؤُتمن خان» (متفق عليه). وهذه الثلاث الصدق والوفاء والأمانة أركان الحياة الخُلقية والاجتماعية، وقد تضافرت الآثار على ذم الكذب وأهله، ومدح الصدق وأهله، وبيان خطر الأمانة...
- التصنيفات: تربية النفس -
جعل النبي صلى الله عليه وسلم للمنافق آيةً يُعرَف بها بين الناس، ومن آياته أنه: «إذا حدّث كذب، وإذا وعد أخلف، وإذا اؤُتمن خان» (متفق عليه).
وهذه الثلاث الصدق والوفاء والأمانة أركان الحياة الخُلقية والاجتماعية، وقد تضافرت الآثار على ذم الكذب وأهله، ومدح الصدق وأهله، وبيان خطر الأمانة، وأنها عُرِضت {عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا} [الأحزاب: من الآية 72]، تلك هي حرية الاختيار التي خص بها الإنس والجن دون سائر المخلوقات، وتفصيل هذا الإجمال في كتاب: [فتاوى علي الطنطاوي رحمه الله]، نشرته دار المنارة في جدة، وهن كن أقوى عليها، وحملها على ضعفه الإنسان، وأن المسلم ربما ألمَّ ببعض الذنوب ولكنه لا يكذب أبداً كما جاء في الحديث.
ثم إنك مع ذلك كله تجد المُنتسبين إلى الإسلام اليوم، من أرباب الصناعات وأهل السوق أكذبَ لهجةً، وأخلفَ وعداً، وأضيع لأمانة من كثير ممن ليسوا مسلمين، حتى صار المثل يُضرب بالوعد الشرقي في خلفه وإضاعته والتأخر عنه، وصار من يريد أن يُؤكد وعداً يصف بأنه وعدٌ أوروبي!
اللهم إن هذا لمن العجب العجاب!
إن الله بين خطر الأمانة، وأنزلها هذه المنزلة، وخوَّف من حملها، لأنها جماع الأخلاق، وسلكة -السلكة: الخيط وجمعها سلك وأسلاك-، عقد الفضائل، وعمادها، فما من شُعبة من شُعب الأخلاق والخير الاجتماعي إلا إليها مردّها، وما خِصلة من خِصال الشرِّ إلا والخيانة أساسها وحقيقتها.
وليست الأمانة هي أن تحفظ الوديعة التي تُؤديها إلى أصحابها فقط، فإن هذه صورة من صورها، وشكل من أشكالها، وإن السلطان في يد الموظف أمانة، فإن وضعه في غير موضعه، أو اتخذه وسيلةً إلى جلب منفعةٍ له أو لأسرته أو لأصحابه فقد خان أمانته.
والدرجات أمانة في يد الأستاذ الممتحن يوم الامتحان، فإن أَعطى منها واحدة لغير مستحقها، أو منع واحدة من يستحقها، أو راعى في منحها شفاعةً أو صداقةً أو بُغضاً أو موجدةً فقد خان أمانته.
والقدرة على الحكم أمانة في يد القاضي، فإن زاغ عن الحق شعرة فقد خان.
والعمل أمانة في يد الأجير المستصنع، فإن قصّر في تجويده أو أفسد فيه شيئاً ولو كان الفساد خفياً لا يظهر فقد خان.
واعتقاد الناس بك الصلاح والتُّقى أمانة في يدك، فإن اتخذت هذا الاعتقاد سبباً إلى جمع المال، وعملت من لحيتك العريضة وعمامتك المنيفة شبكة لاصطياد الدنيا، أو كتمت الحق ابتغاء الحظوة عند العامة، أو الزُّلفى إلى الحاكم فهي خيانة، إلى غير ذلك من الصور والأشكال.
بل إنك إذا دققت، وتلطفت وجدت هذه الجوارح التي أعطاكها الله أمانة في يدك، فإذا نظرت بعينيك إلى حرامٍ، أو حرّكت به لسانك، أو خطوت إليه برجلك، أو مددت إليه يدك فقد خُنت أمانتك، بل إن عمرك كله أمانة لديك، فلا تُنفق ساعةً منه إلا فيما يُرضي صاحب الأمانة!
فأين المسلمون اليوم من هذا؟
لقد رأيتُ من قِلة الأمانة، عند الصُنَّاع والتُّجار والعلماء والجهلاء ومن يظنّ به المغفلون الولاية ويرونه قطب الوقت -حكاية القطب والأوتاد لا أصل لها في نقلٍ ولا عقل، ولم يُروى في ذلك إلا حديث ضعيف في: الأبدال. لا يثبت بمثله حكم وهي من بقايا الوثنية الأولى-، مالا ينتهي حديثه ولا العجب منه، وما خوّفني الناس من أعمالهم، حتى جعلني أحملُ هماً كالجبل ثُقلاً كلما عرضت لي حاجةً لا بد فيها من معاملة الناس، ولا والله لا أتألّم من اللص يتسوّر عليَّ الجدار، ويسرق الدار، كما أتألّم من الرجل يُظهر لي المودة ويُعلن التُّقى، فإذا كانت بيني وبينه معاملةً، وتمكّن مِنِّي أكلني بغير ملح، وتعرَّق عظامي!
تذهب إلى الخياط الحاذق الذي ألفته، وألفك واستمررت على معاملته عمرك، والخياط من شرور المدينة لا يُستغنى اليوم عنه، وقد انقضى زمان كان الرجل فيه يخيط لنفسه أو يخيط له أهله، وكان الثوب يتخذ فيه لمجرد الستر والدفء، ولم يبق لك منجى أن تؤم الخياط تحمل إليه الجوخ الثمين، وتسأله أن يضرب موعداً لا يُخلفه ينجز لك فيه ثوبك الذي تريده للعيد أو للزفاف أو للسفر، ولكل واحد من أولئك وقتٍ لا يتقدّم عنه ولا يتأخّر، فالعيد لا يُنسأ لك في أيامه، والزفاف إن أعلنته لا يُؤجل، فيعدك، ويؤكد الوعد، فإذا جئت في اليوم الموعود وجدته لم يمس بعد قماشك، فإذا زجرته أو أنبهته أخذك باللين، وراغ منك، وحلف لك مائة يمين غموس أنه نسي، أو مرض، أو أنه لم يعدك في هذا اليوم ولكن كان سوء تفاهم، وأنك راجع في يوم كذا فواجد ثوبك مُعدّاً، وتعود، ويعود إلى كذبه، حتى يمضي العيد أو الزفاف ولا يبقى للثوب فائدة، وربما جعله قصيراً أو ضيقاً أو مُعتلاً أو مضاعفاً أو مجوَّفاً، أو على خلاف ما استصنعه عليه ولا حيلة لك فيه، ولا سبيل إلى إصلاح ما فسد، فتلبسه مُكرهاً، أو تُلقيه في دارك حتى تأكله العثَّة والأرضَة.
وهذه الحال من إخلاف المواعيد، واختلاق الأكاذيب عامة في أرباب الصناعات في بلادنا لم ينجُ منها إلا الأقل الأقل ممن عصم ربُّك.
ولقد وقع لي أني كنتُ على جناح السفر إلى العراق، وقد أعددتُ له كل شيء، واتخذتُ له مكاناً في السيارة، ولم يبقَ إلا يوم واحد فخطر لي أن أبعث إلى الكَوَّاء بحُلَّتي الجديدة، لكيّها حتى إذا نزلتُ بغداد لبستها صالحة، وبيَّنتُ له استعجالي ونفضتُ إليه قصة حالي، ونهيتُه أشدّ النّهي عن غسلها، لأنه يُفسدها، ويُؤخرني عن غايتي، فما كان منه إلا أن غسلها، طمعاً بفضل أُجرة ينالها، فأفسدها وجعلني أُسافر، وأدعها.
وآخر من الكوّائين غسل معطفي بصابون له مثل رائحة الخنازير الوحشية، فلم أستطع لبسه وحملته إليه ووبخته، فما كان منه إلا أن أنكر أن يكون له تلك الرائحة -وإنها لتُشمّ من مسافة فرسخ- وقلتُ: شُمّها، أليس لك أنف؟ فشمها بمثل خرطوم فيل، وقال: ما بها شيء! فكدتُ أنشقّ من غيظي، وقلتُ لجماعة عنده: شمّوا بالله عليكم، فمدو أنوفهم إليها وعيونهم إليه، وقالوا بلسانٍ واحد مثل مَقالته، فاضطررتُ إلى أن أخرج، فأدفع الثوب إلى فقير، وإني لفقير إلى مثله!
واحتجتُ مرةً إلى عاملٍ يُصلح لي طائفة من المقاعد، أستقبل عليها ضيفي، وأُكرِم بها زُواري، وهي وحدها التي أخشى اللصوص عليها، لأنها خير ما في الدار، حاشا الكتب، فدلوني على رجلٍ له دكانٌ ظاهر في شارعٍ كبير، وفوقه لوحة كُتِبَ عليها اسمه، وصناعته، ووصف براعته وأمانته، فأنستُ به، وكان كهلاً مشقشق اللسان، وأخذته، فأريته المقاعد واستأجرته لإصلاحها، ودفعتُ إليه أكثر الأجرة مقدماً، وتركته ووكلتُ أخاً لي صغيراً به، وذهبتُ إلى عملي ولم أرجع إلا المساء، فوجدتُ الرجل قد بعّج بطون الكراسي، وأخرج أحشاءها وكسر عظامها وأرجلها، ولم يقدر على إعادتها سيرتها الأولى؛ لأنه جاهل بالصناعة، فهرب، وذهبتُ أُفتش عنه حتى قبضتُ عليه، وأعدتُه إلى الدار، فاجتهد جهده، فكانت غاية ما استطاعه أنه جعل من مقاعدي المريحة آلات للتعذيب، ومقاعد للأذى، ألمٌّ يشق ثوب القاعد عليها مسمار ظاهر منها، ثقبت ظهره خشبة بارزة، أو كان مجلسه على أحدّ من شوك القتاد، وقبض الأجرة كاملة غير منقوصة.
ولو شئتُ أو لو شاء القُرّاء لسردتُ ثلاثين واقعة، ما هذا الذي ذكرتُ بأشدّ منها ولا أعجب، فأين تقع الأمانة من نفوس هؤلاء الذين يدَّعون أنهم من المسلمين!؟
وكيف أصنع إذا كان هؤلاء المسلمون لا يُوثق بهم، ولا يُطمئن إليهم أَأُعامِل الفرنسي والرومي والصهيوني وأُقاطع بني ديني وَوطني؟
أما إنه لخطبٌ جسيم، فماذا تصنع المدارس ومعلموها والمساجد وواعظوها والصحف وكاتبوها، إذا لم يُعلِنوا على الخيانة حرباً لا هوادةً فيها ولا مُسالمةً حتى يكون النصر عليها؟
وكيف لعمر الحق يُكمِل لنا استقلال، أو تتم سيادة، أو نُجاري شعوب المدينة ونُسابقها، إذ لم تَسُدْ الأمانة فينا، وإذا كان الواحد منا لا يستطيع أن يطمئن إلى أخيه ولا يعتمد على أمانته؟
وإذا كُنَّا نُقلد الغربيين في الشرور فلماذا لا نُقلدهم في الصدق في المعاملة والوفاء بالوعد والاستقامة في العمل؟
أما إن من أشكال الأمانة وصورها أن القلم المتين، واللسان البليغ أمانةٌ في يد الكاتبِ والخطيب، فإذا لم يستعملاهما في إنكار المنكر، والأمر بالمعروف، والدعوة إلى الإصلاح كانا ممن خان أمانته، وأضاعها، وفرَّط فيها، فلينظر لنفسه كل كاتبٍ وشاعرٍ وصحفي وخطيب!