الديمقراطيّة لا تعني العدالة بالضرورة
ملفات متنوعة
- التصنيفات: أحداث عالمية وقضايا سياسية -
من الحجج المبتذلة التي يعتمدها أنصار المشروع الأمريكي في دعواهم
بالدمقرطة قولهم بأن الإنسان حالياً يعيش عصر انتصار العلم و سطوة
التكنولوجيا التي جعلت من العالم قرية أو قُلْ بيتاً لا يحتمل
الانعزال و العيش في الماضي.
شخصياً.. لو كنت من أمثال هؤلاء لاعتمدت تكتيكاً أكثر نجاعة، ولقلت:
إن بلداننا تعيش أضعف مراحل وجودها، وهي محل طمع لأجل الثروات التي لم
تستطع توظيفها في سبيل النهضة بساكنيها، وبالتالي فإنه يحسن بها أن
تسارع بركوب القطار الأمريكي رغبة قبل أن تضطرها العولمة (الأمركة)
إلى ذلك بوساطة وسائل لن تكون في أحسن الأحوال بأفضل من وسائل استعملت
في مناطق أخرى لسنا بحاجة إلى ذكرها.
لا يختلف اثنان في أن العالم العربي يشهد، و هو عصب العالم الإسلامي،
موجة تحوّلات ديموقراطية كبيرة تتضح أجل صورها في مظاهر الانتخابات
البرلمانية والمحلية في كثير من دوله، من لبنان إلى فلسطين، ومن مصر
إلى السعودية، وهذه الحالة حتى وإن كانت من علامات التقدم الذي طالما
انتظرته النخب العربية، إلا أنها لأسباب كثيرة، لا تدعو إلى سرعة
الاطمئنان على مستقبل المنطقة بشكل عام، وليست بالضرورة تمثل تجسيداً
لحلم جميل ظل يراود النخب التي تناضل لأجل مظهر سياسي تعددي،
وانتخابات لا تفرز في كل مرة صعوداً ساحقاً للإسلاميين مثلما كانت
عليه الحال في انتخابات الجزائر الملغاة عام 1991، والتي كانت بحق
الانتخابات الحرة الوحيدة في كل العالم العربي حتى الساعة، وهذا
بشهادة الغربيين أنفسهم .
قبل أن نخوض في تفاصيل هذا لا بد من أن نتفق أساساً أن النموذج
الأمريكي من الديموقراطية ليس بالضرورة هدفاً في حد ذاته زيادة على أن
الديموقراطية، التي قال عنها عرابها ونستون تشرشل ذات مرة: "إنها في
غياب الطرق الأخرى، أسوأ طريقة للحكم".. ومن هنا فلا يمكننا التسليم
الابتدائي بتنبؤات فرانسيس فوكوياما صاحب "نهاية التاريخ"، علماً بأنه
بدأ هو نفسه يتراجع عنها؛ إذ إن أمريكا في الحقيقة لم تقم، بدعوى
عولمة الحرية، سوى بتعميم الجريمة والعودة بالعالم إلى الوراء من خلال
إعادة مصطلحات على شاكلة "الاستعمار" من أدراج التاريخ بسبب أطماع
شركات عملاقة، هي من يحرك السياسة العالمية في الحقيقة بعيداً عن آراء
الناخبين، ودونما حاجة لأخذ انطباعاتهم.
ولنا أن نتساءل: هل الديمقراطية تعني العدالة حقاً؟ شخصياً لا أرى
ذلك، وأعرف أن الكثيرين سوف ينكرون عليّ هذا، ولكنني أعتذر منهم
وأسألهم من جديد: ما رأيكم في أنظمة القضاء الأمريكي؟ الإجابة بكل
تأكيد أنه يمثل النموذج الأرقى لاستقلالية القضاء، وهذا -لعمري- أمر
صحيح في بعض حيثياته، ولكنه لا يصمد أمام حقيقة أخرى تخفى على
الكثيرين، ملخصها أن هذه العدالة بإمكانها فعلاً أن تقتص من أي مجرم
يقتل شخصاً في أي مكان من الأرض، ولكنها في المقابل تقف عاجزة أمام
أولئك الذين يقتلون الألوف المؤلفة من الناس كمُلاَّك شركات صناعة
التبغ على سبيل المثال، والكل يدرك أن هذه المادة تفتك سنوياً بحياة
عدة ملايين من البشر، فماذا صنع القضاء مع هؤلاء المقيمين في الولايات
المتحدة؟ إنه يقف عاجزاً، وكل ما يتطلبه الأمر من هؤلاء الشطار قليل
من الحيطة الدعائية هناك مع حرية كاملة للأيادي هنا، وفي البلدان
المغلوبة على أمرها.
الأمر لا يقتصر على صناع التبغ فحسب، ماذا بخصوص شركات صناعة الأسلحة
والاتجار بها؟ من سمع بأن أحد باروناتها كان قد عوقب يوماً لأن الحرب
الفلانية أوقعت الألوف من الضحايا؟ بل حتى أرباب الصناعات الطبية لا
يملكون أي فكرة عن العدالة وحقوق الإنسان التي تصمّ آذاننا
مؤخراً.
إن مخابر البحث عن الأدوية حالياً لا تبحث في موضوع الأوبئة التي تقتل
ملايين الناس سنوياً في المناطق الإستوائية؛ لأن أغلب هؤلاء المساكين
لا يملكون القدرة على شراء هذه الإبداعات "العلمية" فلماذا يخسر هؤلاء
التجار أموالهم إذاً؟ الأجل أن نقول: إنهم مدافعون شرسون عن حقوق
الإنسان؟
إذا أردنا أن نعرف حقيقة جهود الدمقرطة الرسمية الواقعة حالياً في
البلاد العربية فالأمر يستدعي منا أن نقتفي أثر التغييرات التي تحدث
في بلداننا التي يمكننا وصفها بالشمولية، وملاحظة أن هذه التغييرات
العميقة في مظاهرها العامة لا تختلف كثيراً عن التحوّلات التي عرفتها
أوروبا الشرقية بين عامي 89-1991، وهذا يعني من النظرة الأولى أنها
ستؤدي حتما لنفس النتائج التي حدثت هناك خلال السنوات القليلة القادمة
لا محالة، ولكن هذا لن يكون إلا في مقابل وجود رغبة فعلية في التغيير،
وليس لكونه مجرد حالة استجابة لشروط ظرفية ربما لن تطول لفترة كافية
بتحقيق ذلك.
على مر العقود الأخيرة، شهدنا كثيراً من العلامات الواعدة على الرغم
من أنها لم تحدث تغيرات جوهرية، ولكنها كانت ستصل إلى مزيد من التحسن
والتطور لو أنها لم تراوح مكانها؛ فمختلف مظاهر تحرير العمل السياسي
لم تنتج في حقيقتها تحوّلاً حقيقياً وسياسات الخصخصة لم تؤدِ في
الغالب سوى لمزيد من السطوة والنفوذ لأصحاب الرساميل، وأغلبهم من
السياسيين في ذات الوقت، بدل أن تعطي الانطباع الحقيقي بالتحوّل نحو
اقتصاد السوق في مقابل تقوي كثير من الحركات الراديكالية في كثير من
البلدان العربية كنتيجة حتمية لسياسات الإخفاق المخطط، والمراوحة التي
اتسمت بها وتيرة الإصلاح زيادة على أنها كانت ردة الفعل الطبيعية التي
قابلت المعالجة البوليسية التي اعتمدتها الأنظمة في سبيل الحفاظ على
الاستقرار المطلوب.
إن الخصخصة الجائرة في أغلب الحالات بالإضافة إلى أن الممارسات
التقليدية من أساليب الولاء القبلي والمحسوبية لم تتراجع لحساب قيم
المواطنة والوطنية لأجل النهوض بالحياة السياسية، وإخراجها من مأزق
أزمنة الاستفادة من صراعات أقطاب الحرب الباردة جعلت وتيرة الإصلاح
بطيئة قد تبلغ سرعة الصفر في حالات الصحو.
في العقدين الأخيرين -تحديداً- و على الرغم من أن أبناء الملوك
والسياسيين النافذين في بلداننا كانوا من الجيل الذي يُفترض أنه
متنور، بما أنهم كانوا قد تعلموا في الغرب ونالوا حظاً غير هيّن من
التعليم الحديث، يمكننا الجزم بأن نقله و تطبيقه كان كفيلاً بتحديث
أداء مؤسسات بلداننا، إلا أن الواقع يثبت أنهم -مع ذلك- لا يملكون أي
رغبة في إحداث تغييرات ذهنية في نمطية عمل أجهزة الدولة، ويمكننا
ملاحظة ذلك في سوريا والمغرب والأردن، وهي بلدان يحكمها اليوم شباب
ذوو قدر كبير من الثقافة، إلا أنهم لم يقدروا حتى الآن على جعل هذه
التحوّلات حقيقة معيشة بالرغم من أن أحدثهم صار الأمر إليه قبل خمس
سنوات كاملة.
في مقابل هذا، لم تنجح الأحزاب ولا تنظيمات المجتمع المدني في تحقيق
أي تقدم؛ فهي ما زالت تعاني عزلة اجتماعية؛ إذ إن عملية حشد الطاقات و
عقد التحالفات اللازمة للنهوض بمثل هذا الأمر يتطلب كمًّا معتبراً من
الرصيد المجتمعي و المصداقية الفعلية لدى الرأي العام و هذه الصفات لا
تملكها في الغالب غير تلك الأحزاب ذات الخلفيات الإسلامية، حتى وإن
كانت معتدلة و هنا مكمن الإشكال؛ إذ مازلت النظم السياسية تتوجس خيفة
من هذه الحركات، هذا زيادة على الرفض الغربي لأي شراكة مع هؤلاء مما
جعل الجميع يدفع فاتورة الانحسار لصالح الجهات الراديكالية مع اختلاف
بسيط في مظاهرها و مرجعياتها.
كل هذه الظروف مجتمعة إضافة إلى الضغوطات الأمريكية العلنية في
السنوات الأخيرة جعلت الأنظمة العربية تحث الخطا على طريق الإصلاح و
تغيير المظاهر العامة أو ربما تحسينها؛ إذ لا يعني الأمر مجرّد
التنميق، وهو لا ينفي وجود نيات طيبة فعلية لدى العديد من النخب
الحاكمة خصوصاً وأن عملية انصهار حزب البعث بالشكل المريع الذي نعرفه
ستظل عنصر استشهاد معياري حتى لا يقع المحظور؛ فلا بد من أن يتم
التعجيل باعتماد صيغ الحكم الراشد و كل المصطلحات السياسية
الحديثة.
ما زالت طريق العدالة التي ننشدها و التي لا تعني الديموقراطية
الأمريكية بشكل أو بآخر مستعصية لحد الساعة فقراءتنا لمسرح السياسة
العربية الحالية يعطي لنا الانطباع بأن المخاوف "المشروعة" في سبيل
هذا التغيير تتمفصل على ثلاثة مستويات، أولها: درجة الإصلاحات المرغوب
في تحقيقها، و ثانيها: حدود المطالب الجماهيرية، وآخرها و أهمها الرضا
الأمريكي، و هذا يعني الحد الأدنى الذي سوف يقبل به الأمريكان، ولكن
الدروس المستقاة من التحوّلات الأوروبية الشرقية، و جهات أخرى في غير
العالم الغربي لا تعطي سوى خلاصة واحدة مفادها أن العدالة لن تتحقق من
قبل أنظمة شمولية من خلال مراسم تنفيذية، بل إن هذا لن يتحقق من غير
حركات معارضة جادة و وعي جماهيري قاعدي حاثّ على إسراع الإصلاح و
تطويره، وهذا لا يعني أننا نقول بأن تكثيف الضغوط سيكون معبراً
حقيقياً للعدالة؛ لأن المنطقة لم تعد بحاجة لمزيد من التلاعبات التي
ليست في صالح أي طرف.
الواقع العربي الحالي يظهر لنا بوضوح أن المنطقة لا تشتمل على حركات
سياسية حقيقية تملك رصيداً انتخابياً يمكن الاعتماد عليه، و هذا مرده
في تقديري بالأساس إلى درجة الوعي الجماهيري، و تكثف الرأي العام حول
القضايا الفرعية، و سرعة صعود و أفول نجوم المعارضة الحقة بسبب قلة
الخبرة حيناً و تواطؤها مع النظم القائمة حيناً و سيرها في الموكب
الأمريكي غير المرغوب فيه أحياناً كثيرة.
في مقدور الأنظمة من خلال وسائلها المتطورة أن تضفي على مظاهرها بعض
ديباجات الممارسة التشاركية الحقيقية، يزيدها رونقاً حملات تطهير
مبرمج لجهات انتهت صلاحيتها مشفوعة ببعض مقاطع من خطابات رسمية تكثر
من الإشارة إلى ضرورة تحسين وضعية حقوق الإنسان، و لا بأس من حملات
شحذ التعاطف من خلال استنكار محاولات فرض أنماط حياة بعيدة عن
أعرافنا، و هذا لن يؤدي في أحسن الأحوال إلا إلى مزيد من التأزم .
وإننا نعيش الظروف المواتية التي سوف تجعل من هذه الحالة منطلقاً
حقيقياً نحو الإصلاح الذي ترومه كل الفئات المتضررة فعلاً من ليل
الاستبداد الطويل؟ فهل تقبل الأنظمة هذا التحدي، و تفتح حواراً يعيد
للأمة توازنها، و يضع طاقاتها على سكة البناء الحضاري؟! الإجابة ليست
معي؛ لأنها في أدراج مغلقة حتى الساعة.