أثر مكبرات الصوت على سنن الأذان
ومن خصائص هذه الأمة: الأذان للصلوات الخمس، فالأذان من أظهر الشعائر الإسلامية لهذه الأمة، وهو العلامة المفرقة بين دار الإسلام والكفر، وشعار للإسلام وأهله حيث ينادى به في كل يوم خمس مرات. وقد جد في هذا العصر الأذان عبر مكبرات الصوت والتي لها أثر على جملة من سنن الأذان المشروعة في الأذان مما يستدعي البحث والنظر في هذا الأثر وأحكامه.
المقدمة
الحمد لله رب العالمين، رب الأولين والآخرين، رفع قدر أهل العلم والإيمان، وجعل علامة أعظم شعائر الإيمان: الأذان، وأشهد أن لا إله إلا الله عظيم الشأن، وحده لا شريك له، وأشهد أن محمد عبده ورسوله المبعوث عامة إلى الإنس والجان، أرسله للإيمان منادياً، وإلى الجنة داعياً، ففتح القلوب والبلدان فرفع الله ذكره، قال الله تعالى: {وَرَفَعْنَا لَكَ ذِكْرَك} [الانشراح: 4]، ومن رفع ذكره: أنه إذا ذكر الله ذكر معه، قال الشاعر:
وضم الإله اسم النبي إلى اسمه *** إذا قال في الخمس المؤذن أشهد
[البيت من أبيات لحسان بن ثابت رضي الله عنه يمدح النبي صلى الله عليه وسلم، انظر: ديوان حسان بن ثابت الأنصاري، (47)].
اللهم صل على محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، أما بعد:
فإن الله سبحانه وتعالى فضل أمة محمد صلى الله عليه وسلم على سائر الأمم، قال الله تعالى: {كُنْتُم خَيرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ} [آل عمران: من الآية 110]، فاختار الله لها من الشرائع أكملها، ومن الأخلاق أزكاها.
ومن خصائص هذه الأمة: الأذان للصلوات الخمس، فالأذان من أظهر الشعائر الإسلامية لهذه الأمة، وهو العلامة المفرقة بين دار الإسلام والكفر، وشعار للإسلام وأهله حيث ينادى به في كل يوم خمس مرات.
وقد جد في هذا العصر الأذان عبر مكبرات الصوت والتي لها أثر على جملة من سنن الأذان المشروعة في الأذان مما يستدعي البحث والنظر في هذا الأثر وأحكامه، وذلك من خلال المطالب الآتية:
المطلب الأول: سنن متعلقة بصفة الأذان.
المطلب الثاني: سنة متعلقة بالمؤذن.
المطلب الثالث: سنة متعلقة بما يؤذن له.
المطلب الأول: سنن متعلقة بصفة الأذان.
المسألة الأولى: كون الأذان على علو.
اتفق الفقهاء على أنه يستحب أن يكون الأذان من فوق مكان عال كالمنارة وسطح المسجد ونحوهما [انظر: بدائع الصنائع، (1/248)، وحاشية ابن عابدين، (2/48)، والشرح الكبير للدردير، (1/312)، ومواهب الجليل، (1/439)، وروضة الطالبين، (93)، والمجموع، (3/114)، مغني المحتاج، (1/212) وشرح المنتهى، (1/267)، والمغني (2/83)].
واستدلوا بما يأتي:
1- حديث عروة بن الزبير رضي الله عنه عن امرأة من بني النجار قالت: وكان بيتي أطول بيت حول المسجد فكان بلال رضي الله عنه يؤذن عليه الفجر، فيأتي بسحر فيجلس على البيت ينظر إلى الفجر، فإذا رآه تمطى، ثم قال: اللهم إني أحمدك، أستعينك على قريش أن يقيموا دينك، قالت: ثم يؤذن.. [أخرجه: أبو داود في كتب الصلاة، باب الأذان فوق المنارة، (1/254/519)، والبيهقي في السنن الكبرى، (2/198)، وحسنه ابن حجر في الفتح (2/122)].
وجه الدلالة: أن طلب العلو ظاهر من فعل بلال رضي الله عنه حيث يرقى على بيت الأنصارية.
2- ما جاء في بعض روايات حديث عبدالله بن زيد رضي الله عنه للأذان: قال: "رأيت في المنام كأن رجلاً قام وعليه بردان أخضران على جذم حائط، فأذن.." [أخرجه أبوداود في الصلاة، باب كيف الأذان، (1/246/506)، وابن أبي شيبة في المصنف، (1/185)، والطحاوي في شرح معاني الآثار، (1/134) وابن خزيمة (1/197)، والدارقطني في السنن، (1/249)، والبيهقي في السنن الكبرى (2/193)، وصححه الألباني في صحيح سنن أبي داود (1/151)].
وجه الدلالة: أنه رآه يؤذن وهو مرتفع على جذم حائط.
3- ما جاء في حديث ابن عمر رضي الله عنهما: أن الرسول صلى الله عليه وسلم قال: «إن بلالاً يؤذن بليل، فكلوا واشربوا حتى يؤذن ابن أم مكتوم» قال: "ولم يكن بينهما إلا أن ينزل هذا ويرقى هذا" [أخرجه البخاري في الأذان، باب الأذان بعد الفجر، (1/127)، ومسلم في الصيام، باب بيان أن الدخول في الصوم يحصل بطلوع الفجر، (7/203/2533) مع شرح النووي].
وجه الدلالة: في قوله: "يرقي هذا وينزل هذا" حيث يدل على أنه في مكان عال.
4- ما روي عن أبي برزة الأسلمي رضي الله عنه قال: "من السنة الأذان في المنارة، والإقامة في المسجد" [أخرجه: البيهقي في الكبرى، (2/198)، وقال: "هذا حديث منكر، لم يروه غير خالد بن عمر، وهو ضعيف منكر الحديث"، وأخرجه ابن أبي شيبة في المصنف من كلام التابعي: عبدالله بن شقيق رحمه الله ( 1/203)].
وجه الدلالة: أنه صريح في الدلالة على المراد.
5- ولأن المقصود من الأذان: تبليغ الناس به، وإعلامهم بالوقت، والأذان من المكان العالي أبلغ في ذلك [انظر: مغني المحتاج، (1/212)، وشرح منتهى الإرادات، (1/267)].
أثر مكبرات الصوت على هذه السنة:
يقصد بهذا الأثر: هل المؤذن الذي يؤذن بواسطة المكبر يترك الارتفاع أو لا؟
فأقول:
المقصد من الارتفاع: أن يبلغ الصوت مسافات بعيدة، وهذه الوسيلة يقوم بها المكبر أتم قيام؛ لذا فإنه في هذه الحالة اجتمعت وسيلتان، تؤديان نفس المقصود، ولا يمكن الجمع بينهما إلا بنوع مشقة، فنرجح بينهما، ومن قواعد الترجيح بين الوسائل: أن الوسيلة القوية في الوصول إلى المقصود مقدمة على غيرها، ويشهد لهذا النوع من الترجيح قول النبي صلى الله عليه وسلم: «ارموا واركبوا، ولأن ترموا أحب إلي من أن تركبوا» [أخرجه: أبوداود في الجهاد، باب في الرمي، (3/22/2513)، والترمذي في فضائل الجهاد، باب ما جاء في فضل الرمي في سبيل الله عز وجل، (285/1637)، وابن ماجة في الجهاد، باب في الرمي في سبيل الله، (307)، وأحمد، (28/532/17300)، والحاكم، (2/104)، والبيهقي، (10/13)، والدارمي، (2/269)، وابن أبي شيبة، (4/229)، وعبدالرزاق، (11/461)، قال محققو المسند: "حسن بمجموع طرقه وشواهده"]، فوسيلة الرماية أفضل من وسيلة الركوب؛ لما في الرماية من شدة النكاية وقوة التأثير في العدو، قال الإمام ابن تيمية: "وكلما قويت الوسيلة في الأداء كان أجرها أعظم من أجر ما نقص عنها" [انظر: مجموع الفتاوى، (29/414)]، وبناء على ذلك فلا يرتفع اكتفاء بالمكبر، وذلك لما يأتي:
1- لأن المكبر أقوى في إيصال الصوت للناس من الارتفاع.
2- ولأن استخدام المكبر خال مما قد يترتب على الارتفاع من مفاسد كالنظر في البيوت والاطلاع على العورات، وقد قيل:
ليتني في المؤذنين نهاراً *** فيشيرون أو يشار إليهم
إنهم يبصرون من في السطوح *** حبذا كل ذات دل مليح
[انظر: الكامل في اللغة والأدب، (2/990)، الأغاني، (20/217)].
3- ويشهد لهذا أيضاً: أن الفقهاء لم ينصوا على شيء معين، بل كل ما كان عالٍ فهو مقصود، لذا بلال رضي الله عنه كان يرقى على بيت الأنصارية، ثم لما بنيت المنارات في عهد معاوية رضي الله عنه استخدمت.
وبعدم الارتفاع في حال الأذان بواسطة المكبر أفتى شيخنا العلامة: عبدالله الجبرين [انظر: المفيد في تقريب أحكام الأذان، (24)] رحمه الله، وألمح إليه الشيخ محمد بن عثيمين رحمه الله [انظر: الشرح الممتع، (2/68)]
والله أعلم.
المسألة الثانية: الالتفات في الحيعلتين.
المقصود بالحيعلتين: (حي على الصلاة، حي على الفلاح).
اتفق الفقهاء رحمهم الله على أنه يسن للمؤذن أن يلتفت في الحيعلتين يميناً وشمالاً [انظر: حاشية ابن عابدين، (2/53)، وفتح القدير، (1/213)، ومواهب الجليل، (1/441)، وروضة الطالبين، (91)، والمجموع، (3/115)، ومغني المحتاج، (1/212)، وشرح ?لمنتهى، (1/268)، والمغني، (2/84)] واختلفوا في صفته [وليس هذا محل بسطه، وانظر للاستزادة: فتح القدير، (1/244)، والمجموع، (3/115)، والمغني، (2/85)].
ودليل هذه السنة ما يأتي:
1- حديث أبي جحيفة رضي الله عنه وفيه: "و أذن بلال فجعلت أتتبع فاه ههنا وههنا، يقول يميناً وشمالاً: حي على الصلاة، حي على الفلاح" [أخرجه: البخاري في الأذان، باب هل يتبع المؤذن فاه ههنا وههنا، وهل يلتفت في الأذان، (1/129)، ومسلم في الصلاة، باب سترة المصلي، (4/442/1119) مع شرح النووي].
2- ولأبي داود رحمه الله: "رأيت بلالاً خرج إلى الأبطح، فلما بلغ (حي على الصلاة حي على الفلاح) لوى عنقه يميناً وشمالاً ولم يستدر" [أخرجه أبوداود في الصلاة، باب هل المؤذن يستدير في أذانه، (1/254/520)].
وجه الدلالة: ظاهر من الحديثين، حيث صرح فيهما بالالتفات.
3- ولأن الأذان مناجاة ومناداة، ففي حال المناجاة يستقبل القبلة، وعند المناداة يستقبل من ينادي؛ لأنه يخاطبهم بذلك فيعمهم الخطاب، ليكون أبلغ في الإعلام، كما في الصلاة فعندما يناجي يستقبل القبلة، وعندما يريد السلام يحول وجهه؛ لأنه يخاطب الناس [انظر: فتح القدير، (1/213)، ومغني المحتاج، (1/212)، والإنصاف، (3/77)].
أثر مكبرات الصوت:
يقصد بهذا الأثر: هل يترك المؤذن الذي يؤذن بواسطة المكبر الالتفات في الحيعلتين أو لا؟
فأقول:
المكبرات من الصناعات الحديثة التي لم يمض على استخدامها في الحرمين الشريفين أكثر من سبعين سنة، فهي نازلة، ومعلوم أن الالتفات يقصد به تبليغ الصوت، ومخاطبة الناس، وهذا يتحقق بواسطة المكبر، وربما إذا التفت اختل الصوت وقوته، وعندما ننظر لتقرير حكم هذه المسألة ينبغي النظر إلى أمرين:
1- أن المقصد الأعظم من الأذان هو: إعلام الناس بدخول وقت الصلاة، كما سبق تقريره.
2- وأن المقصود من الالتفات هو: تبليغ هذا النداء إلى الآخرين، ومواجهتهم به.
وإذا نظرنا إلى استخدام المكبر نجد أننا بين مصلحة ومفسدة، فالمصلحة هي: تبليغ الناس الأذان، والمفسدة تحصل عند الالتفات حيث يضعف الصوت، فماذا نقدم؟!
قبل البت في هذه المسألة ينبغي تحرير صورة المسألة، فأقول:
1- إذا كان المكبر ذا حساسية عالية وقوة التقاط، أو كان اللاقط يسهل تعليقه على بدن المؤذن، وكان الالتفات لا يضعف الصوت أو يجعله غير متوازن: فإن الالتفات باق على السنية، وهذه المسألة تخرج عن النزاع، والله أعلم.
2- إذا كان الالتفات يخل بالصوت أو يجعله على غير مستوى واحد، فهذه المسألة هي محل النظر والاجتهاد، فأقول مستعيناً بالله وسائله السداد والتوفيق:
إن المقصد الأعظم من الأذان هو: تبليغ الناس للصوت، وهذا مقصد مستنبط من نصوص الشريع?، منها:
أ - ما ورد في قصة الأذان [ما ثبت أن المسلمين لما قدموا المدينة كانوا يجتمعون فيتحينون الصلاة وليس ينادي بها أحد، فتكلموا يوماً في ذلك، فقال بعضهم: اتخذوا ناقوساً مثل ناقوس اليهود و النصارى، وقال بعضهم: اتخذوا قرناً مثل قرن اليهود، قال الراوي: فقال عمر رضي الله عنه: ألا تبعثون رجلاً ينادي بالصلاة؟ ، فقال الرسول صلى الله عليه وسلم: "يا بلال، قم فناد بالصلاة "أخرجه البخاري في الأذان، باب بدء الأذان، (1/124)، ومسلم في الصلاة، باب بدء الأذان، (4/297/835) مع شرح النووي..].
ب - قوله صلى الله عليه وسلم: "فإنه أندى صوتاً منك" [أخرجه أبو داود، في الصلاة، باب كيف الأذان، (1/241/499)، والترمذي في أبواب الصلاة، باب ما جاء في بدء الأذان، (51/189)، وابن ماجة، في الأذان ،باب بدء الأذان، (86/706)، قال الترمذي: "حسن صحيح"].
ج- اختيار النبي صلى الله عليه وسلم لأبي محذورة رضي الله عنه [انظر: سنن الدارقطني، (1/443/910)].
د- قوله صلى الله عليه وسلم: "وارفع صوتك بالنداء" [أخرجه البخاري، في الأذان، باب رفع الصوت بالنداء، (1/125)].
فالذي يظهر لي والله أعلم: أن المؤذن في المكبر لا يلتفت في الحيعلتين؛ وذلك لما يأتي:
1- إن هذه الوسيلة - الالتفات - تخل بمقصود الأذان الذي هو: الإعلام، ومن المتقرر: أن العبرة بحصول المقصد، ولا يلتفت إلى الوسيلة؛ لأنها غير مقصودة بنفسها، وفي هذا يقول الإمام الشاطبي رحمه الله:"و قد تقرر أن الوسائل من حيث هي وسائل غير مقصودة بنفسها، وإنما هي تبعٌ للمقاصد، بحيث لو سقطت المقاصد سقطت الوسائل، وبحيث لو توصل إلى المقاصد بدونها لم يتوصل بها" [الموافقات، (2/212)، وانظر: الفروق، (2/33)]، وهذه القاعدة ما لم يدل الدليل الصحيح على التكليف بالوسيلة مع انتفاء المقصود، ولو أريد تطبيق هذه القاعدة على هذا الفرع لقيل: إن الالتفات وسيلة لمقصد هو: تبليغ الصوت، ويمكن أداء هذا المقصد بغير هذه الوسيلة، ولم يدل دليل معين على التخصيص بهذه الوسيلة، ويمكن توضيح هذه القاعدة بما قاله ابن القيم رحمه الله في مسقطات الختان، حيث يقول: "أحدهما: أن يولد الرجل ولا قلفة له، فهذا مستغن عن الختان إذ لم يخلق له ما يجب ختانه، وهذا متفق عليه، لكن قال بعض المتأخرين: يستحب إمرار الموسى على موضع الختان، لأنه ما يقدر عليه من المأمور به، قد قال صلى الله عليه وسلم: «دعوني ما تركتكم، فإنما أهلك من كان قبلكم سؤالهم واختلافهم على أنبيائهم، فإذا نهيتكم عن شيء فاجتنبوه، وإذا أمرتكم بأمر فأتوا منه ما استطعتم» [أخرجه البخاري، في كتاب: الاعتصام بالكتاب والسنة، باب: الاقتداء بسنن الرسول صلى الله عليه وسل?، (9/94)، ومسلم، في كتاب: الحج، باب: فرض الحج مرة في العمر، (9/105/3244) مع شرح النووي]، وقد كان الواجب أمرين: مباشرة الحديدة والقطع، فإذا سقط القطع فلا أقل من استحباب مباشرة الحديد، والصواب: أن هذا مكروه لا يتقرب إلى الله به، ولا يتعبد بمثله، وتنزه عنه الشريعة؛ لأنه عبث لا فائدة فيه، وإمرار الموسى غير مقصود، بل هو وسيلة إلى فعل المقصود، فإذا سقط المقصود لم يبق للوسيلة معنى، ونظير هذا ما قاله بعضهم إن الذي لم يخلق على رأسه شعر يستحب له في النسك أن يمر الموسى على رأسه، ونظير قول المتأخرين من أصحاب أحمد وغيره: إن الذي لا يحسن القراءة ولا الذكر أو الأخرس يحرك لسانه حركة مجردة، قال شيخنا [يعني: شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله، جمعنا الله به في فردوسه الأعلى ووالدينا ومشايختنا]: ولو قيل: إن الصلاة تبطل بذلك كان أقرب؛ لأنه عبث ينافي الخشوع، وزيادة عمل غير مشروع" [تحفة المودود، (171)].
2- ثم إن الحاجة داعية إلى مثل ذلك، إذ كيف يبلغ الصوت من هو بعيد من المسجد نسبياً، لاسيما في ظل العصر الراهن؛ حيث الحواجز الإسمنتية والمكيفات، ولربما لم يحصل للشخص انتباه إلا في الحيعلتين، وحينها يكون الصوت خافتاً.
3- ويمكن أيضاً أن تقاس مسألتنا على:
- الافتراش في الصلاة، فإنه سنة، مع ذلك إذا ترتب عليه تضييق فإنه لا يفعل [انظر: الدرر المبتكرات، (1/270)].
- وترك صلاة ركعتي الطواف خلف المقام لأجل المشقة [انظر: الشرح الممتع، ( 7/302) طبعة دار آسام].
فهذه السنن تركت لأجل (المصلحة).
4- ويقال أيضاً:
اجتمع في هذا العمل مصلحتان: إعلام الناس بالأذان، وتطبيق سنة النبي صلى الله عليه وسلم، ويترتب على تطبيقهما معاً: الإخلال بالإعلام، وإذا تركت سنة النبي صلى الله عليه وسلم حصل تمام الإعلام، فهنا نوازن بين المصلحتين، وعند اجتماع المصالح فإن القاعدة تنص على: أنه ترتكب أعظم المفسدتين وتفوت أدناهما [انظر: منظومة القواعد الفقهية للسعدي، وشرحها: مجموعة الفوائد البهية، صالح الأسمري، (54)، وشرحها: روضة الفوائد، د.مصطفى مخدوم، (36)]، ومن المعلوم أن: مصلحة تبليغ الناس أعظم؛ لأن مجالها ونفعها متعدي، وهي تقتضي التعاون على البر والتقوى، بخلاف الاتباع فهو خاص بالمؤذن، إلى جانب أنه وقع في ظروف ومناسبات لا يعزل عنها في النظر إلى تأصيل الحكم الشرعي.
5- ويقال أيضاً:
يترتب على هذا العمل مفسدتان، ومن المعلوم: أن الضرر الأشد يزال بالضرر الأخف، وإذا تعارض مفسدتان روعي أعظمهما ضرراً بارتكاب أخفهما [انظر: الأشباه والنظائر، ابن السبكي، (1/47)، والسيوطي، (1/127)، وابن نجيم، (89)، إيضاح المسالك، الونشريسي، (86)، تقرير القواعد، ابن رجب، (2/463)، شرح القواعد الفقهية، الزرقا، (201)، القواعد، الحصني، (1/346)، والقواعد، المقري، (2/456)، قواعد الأحكام، العز، (1/79)، مجلة الأحكام مع شرح علي حيدر، (1/37)، المدخل الفقهي العام، الزرقا، (2/995)، المنثور، الزركشي، (1/348)، موسوعة القواعد الفقهية، الغزي، (1/229-231)]، ونطبق هذه القاعدة على موضوعنا:
فالمفسدتان:
أ- الإخلال بالإبلاغ الذي هو مقصد الأذان.
ب- ترك الالتفات.
و الضرر الأشد هو الإخلال بالإبلاغ الذي هو مقصود الأذان، والضرر الأخف هو: ترك الالتفات، فيرتكب الضرر الأخف الذي هو ترك الالتفات، والله أعلم.
5- ثم: الحكم يدور مع علته وجوداً وعدماً [انظر: شرح الكوكب المنير، (4/97)، وشرح مختصر الروضة، (3/315)]، فالالتفات لقصد التبليغ وهذا القصد انتفى بوجود المكبر، بل إنه إذا التفت عاد على الأصل بالإبطال؛ حيث يختل الإعلام.
6- ثم كون الصوت على مستوى غير ثابت أمر مكروه [و قد ألمح ابن قدامة رحمه الله إلى ذلك، انظر: المغني، (2/82)].
وهذا الاختيار هو اختيار:
● اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء، برئاسة الشيخ عبدالعزيز بن باز [انظر: فتاوى اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء، (6/58)].
● واختيار الشيخ محمد بن إبراهيم رحمه الله [انظر: فتاوى الشيخ محمد بن ابراهيم، (2/123)].
● والشيخ محمد بن عثيمين رحمه الله [انظر: الشرح الممتع، (2/72)].
● والشيخ عبد الله الجبرين سلمه الله [انظر: المفيد في تقريب أحكام الأذان، (24)].
وقد منع من ترك الالتفات حال الأذان في المكبر الشيخ محمد ناصر الدين الألباني رحمه الله [انظر: الأجوبة النافعة، (19)]، بحجة: أن الالتفات غير معقول المعني؛ إذ يحتمل إبلاغ الناس وغير ذلك.
ويمكن أن يجاب عن ذلك بأن الالتفات الحكمة منه واضحة، ثم مقصد الأذان الأكبر: الإعلام، وهو يؤيد ما ذكر والله أعلم.
وهنا تنبيه لطيف:
أن الترجيح بين الوسائل المشروعة مجال يتسع فيه الاجتهاد، وميدان يقبل تعدد الرأي، ولا ينبغي أن تضيق صدورنا ذرعاً به، مادامت أن المسألة لا تخرج عن الاجتهاد، وفي هذا يقول ابن عاشور رحمه الله: "وهذا مجال يتسع فيه مصداق نظر الشريعة إلى المصالح، وعصمتها من الخطأ والتفريط، ولم أر من نبه على الالتفات إليه، وأحسب أن عظماء المجتهدين لم يغفلوا عن اعتباره." [مقاصد الشريعة، (148)].
المسألة الثالثة: القيام حال الأذان.
اتفق الفقهاء على أن من سنن الأذان: أن يؤذن المؤذن ويقيم قائماً إذا أذن لجماعة [انظر: البحر الرائق (1/458)، وبدائع الصنائع، (1/253)، وشرح الخرشي، (1/232)، والشرح الكبير للدردير، (1/312)، والمجموع، (3/114)، ومغني المحتاج، (1/212)، وشرح المنتهى، (1/266)، والمقنع، (1/201)، والمغني، (2/82)]، وحكي الإجماع على ذلك، قال ابن المنذر رحمه الله : "و أجمعوا على أن من السنة أن يؤذن المؤذن قائماً، وانفرد أبو ثور، فقال: يؤذن جالساً من غير علة" [انظر: الإجماع لابن المنذر، (38)].
واستدلوا لذلك بما يأتي:
1- بقوله عليه الصلاة والسلام: "يا بلال، قم فناد بالصلاة " [أخرجه البخاري في الأذان، باب بدء الأذان، (1/124)، ومسلم في الصلاة، باب بدء الأذان، (4/297/835) مع شرح النووي].
2- وبما جاء في بعض روايات حديث عبدالله بن زيد رضي الله عنه وفيه: "رأيت في المنام كأن رجلاً قام وعليه بردان أخضران على جذم حائط فأذن.." [أخرجه أبوداود في الصلاة، باب كيف الأذان، (1/246/506)، وابن أبي شيبة في المصنف، (1/185)، والطحاوي في شرح معاني الآثار، (1/134) وابن خزيمة (1/197)، والدارقطني في السنن، (1/249)، والبيهقي في السنن الكبرى (2/193)، وصححه الألباني في صحيح سنن أبي داود (1/151)].
ووجه الدلالة من الحديثين: ظاهر، حيث أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر بلالاً رضي الله عنه بالقيام.
3- وبما روي عن وائل بن حجر رضي الله عنه أنه قال: "حق وسنة مسنونة ألا يؤذن إلا وهو طاهر، ولا يؤذن إلا وهو قائم" [أخرجه: البيهقي في السنن الكبرى، (2/148)، قال ابن حجر رحمه الله في التلخيص (1/337): "وإسناده حسن، إلا أن فيه انقطاعاً"].
ووجه الدلالة من هذا الحديث ظاهر.
4- ولأن القيام فعل مؤذني رسول الله صلى الله عليه وسلم، حيث كانوا يؤذنون قياماً [انظر: شرح المنتهى، (1/266)، والمغني، (2/82)]. لغيره، منها: حديث عبدالرحمن بن أبي صعصعة أن أبا سعيد الخدري رضي الله عنه قال له: "إني أراك تحب الغنم والبادية، فإذا كنت في غنمك أو باديتك، فأذن بالصلاة، وارفع صوتك بالنداء، فإنه لا يسمع مدى صوت المؤذن شيء إلا شهد له يوم القيامة "، قال أبو سعيد رضي الله عنه: "سمعته من رسول الله صلى الله عليه وسلم" [أخرجه البخاري، في الأذان، باب رفع الصوت بالنداء، 1/125].
5- ولأن القيام أبلغ في الإعلام بالأذان [انظر: البحر الرائق، (1/253)، وشرح الخرشي، (1/232)، ومواهب الجليل، (1/441)، ومغني المحتاج، (1/212)، وكشاف القناع، ( 1/281)]، وقد جاءت الأحاديث في فضل إسماع المؤذن لغيره، منها: حديث عبدالرحمن بن أبي صعصعة أن أبا سعيد الخدري رضي الله عنه قال له: "إني أراك تحب الغنم والبادية، فإذا كنت في غنمك أو باديتك، فأذن بالصلاة ،وارفع صوتك بالنداء، فإنه لا يسمع مدى صوت المؤذن شيء إلا شهد له يوم القيامة"، قال أبو سعيد رضي الله عنه: "سمعته من رسول الله صلى الله عليه وسلم [أخرجه البخاري، في الأذان، باب رفع الصوت بالنداء، (1/125)].
أثر مكبرات الصوت على هذه السنة:
يقصد بهذا الأثر: هل يؤذن المؤذن الذي يؤذن بواسطة المكبر وهو جالس؛ لأن الصوت يبلغ الن?س من خلال المكبر، أو لا؟ فأقول: الذي يظهر لي والله أعلم: أن سنة القيام لا تزال باقية، ولو استخدم المكبر؛ للأمور الآتية:
1- إن علة القيام ليست محصورة في الإبلاغ، بل انضم إلى ذلك مقصد آخر وهو: إظهار الاحترام والتكريم.
2- وصوت القائم أبلغ وأرفع من القاعد، ومعلوم أنه حال قيامه سيزيد الصوت قوة، لأن القيام مؤثر في ذات الصوت، ومعلوم أن المقصد الأكبر: إبلاغ الصوت للناس، وزيادة من سيشهد له، كما جاء في الحديث السابق.
3- ولأن القيام وسيلة لإبلاغ الصوت، والمكبر وسيلة لذلك، وإذا أمكن الجمع بين الوسيلتين -القيام والمكبر- كان أبلغ في تحقيق المقصود وتكثيره، وذلك أمر مشروع لأمرين:
أ- أن مباشرة الوسائل المشروعة كافة أدعى في حصول المقصود.
ب- أن الأصل في الوسائل الشرعية: الإعمال [انظر: قواعد الوسائل، (161)].
المسألة الرابعة: جعل الأصبعين في الأذنين.
اتفق الفقهاء على أنه يستحب للمؤذن أن يضع إصبعيه في أذنيه حال الأذان [انظر: بدائع الصنائع، (1/252)، وفتح القدير، (1/213)، مواهب الجليل، (1/441)، وروضة الطالبين، (93)، والمجموع، (3/117)، ومغني المحتاج، (1/213)، وشرح المنتهى، (1/267)، والمقنع، (1/103)، والمغني، (2/81)]، إلا أنه يوجد رأي لبعض المالكية بأنه جائز؛ وذلك لعدم وجوده في مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم [انظر: الذخيرة، (2/49)، ومواهب الجليل، (1/441)]، ولكن رأي الجمهور أرجح، ومن حفظ حجة على من لم يحفظ.
واستدل الجمهور لذلك بأدلة منها:
1- حديث أبي جحيفة رضي الله عنه وفيه: "رأيت بلالاً يؤذن ويدور، ويتبع فاه ههنا وههنا، وإصبعاه في أذنيه" [أخرجه: الإمام أحمد في المسند، (31/52/18759)، والترمذي في أبواب الصلاة، باب ما جاء في إدخال الإصبع في الأذن عند الأذان، (52/197)، وابن ماجة، في الأذان والسنة فيه، باب السنة في الأذان، (87/711)، والبيهقي في الكبرى، (2/147)، قال الترمذي: "حسن صحيح"، وصححه الألباني في صحيح سنن الترمذي، (1/126)، وقال محققو المسند: "صحيح رجاله ثقات، رجال الشيخين.. إلا أن في قوله (يدور) خلافاً"].
2- حديث سعد القرظ رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمر بلالاً أن يجعل إصبعه في أذنيه، وقال: «إنه أرفع لصوتك» [أخرجه: ابن ماجة في الأذان والسنة فيه، باب: السنة في الأذان، (87/710)، والحاكم ،(4/769)، والبيهقي في الكبرى، (2/147)، قال ابن حجر رحمه الله في فتح الباري، (2/137): "في إسناده ضعف "، وقال البوصيري رحمه الله في مصباح الزجاجة (1/252): "هذا إسناد ضعيف، لضعف أولاد سعد القرظ"].
3- ولأنه أجمعُ للصوت؛ لأن الصوت يبدأ من مخارج النفس، فإذا سَدّ أذنيه اجتمع النفس في الفم، فخرج ال?وت عاليا، فيكون أبلغ في الإسماع [انظر: فتح القدير، (1/213)، ومغني المحتاج، (1/213)، والمبدع، (1/223)].
4- وليستدل به من لا يسمع [انظر: البحر الرائق، (2/453)، والمجموع، (3/117)، والمبدع، (1/223)].
أثر مكبرات الصوت على هذه السنة:
يقصد بهذا الأثر: هل يترك المؤذن الذي يؤذن بواسطة المكبر وضع الأصبعين في الأذنين اكتفاء بالمكبر؛ لأن المكبر يبلغ الصوت، وهذا مقصد وضع الإصبعين، أو لا؟
فأقول: المؤذن يسن له وضع الإصبعين في أذنيه -و إن أذن في المكبر- لما يلي:
1- لأن وضع الأصبعين في الأذنين لا يسلم أن المقصد منه: زيادة مدى الصوت فقط، بل قد ذكر بعض العلماء - كما سبق - أنه لحكمة أخرى وهي: أن يستدل به من لا يسمع، ويبصره البعيد.
2- ثم إن سلم حصر الحكمة في زيادة مدى الصوت فيسن؛ لأنه أبلغ في رفع الصوت، ووصوله إلى الآخرين، وبهما يتحقق مقصد الأذان، واتباع الهدي النبوي، ويكون الصوت عالياً، ولا شك أنه انضم إلى ذلك المكبر، والشارع يهدف إلى جلب المصالح وتكثيرها، ودرء المفاسد وتقليلها [انظر: مجموع فتاوى شيخ الإسلام، (1/265)، والموافقات، (2/520) و(3/415)].
3- ولأنه أيضاً أمكن الجمع بين الوسيلتين، وإذا أمكن الجمع بين الوسيلتين كان أبلغ في تحقيق المقصود وتكثيره، وذلك أمر مشروع لأمرين:
أ- أن مباشرة الوسائل المشروعة كافة أدعى في حصول المقصود.
ب- أن الأصل في الوسائل الشرعية: الإعمال [انظر: قواعد الوسائل، (161)].
المسألة الخامسة: رفع الوجه حال الأذان.
رفع الوجه حال الأذان من مسنوناته عند الحنابلة [انظر: اختيارات شيخ الإسلام، (38)، والروض المربع، (1/442)، وشرح منتهى الإرادات، (1/267)]، ولم أر لغيرهم ذكر لهذه المسألة.
واستدل لهذا الفعل بما يأتي:
1- لأن الأذان فيه حقيقة التوحيد، فيستحب فعل ذلك [انظر: اختيارات شيخ الإسلام، ( 38)، والروض المربع، (1/442)].
2- القياس على الوضوء، حيث من يفرغ من الوضوء يسن له أن يرفع بصره قبل ذكر الدعاء، وقد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "من توضأ فأحسن الوضوء، ثم رفع نظره إلى السماء، فقال: أشهد أن لا إله إلا الله، وأن محمداً رسول الله، فتحت له أبواب الجنة الثمانية، يدخل من أيها شاء" [أخرجه: الإمام أحمد في مسنده: (29/592/17363)، وأبو داود في: كتاب: الطهارة، باب: ما يقول الرجل إذا توضأ، (1/90/170)، وابن السني، رقم (31)، والبزار، رقم (242)، كلهم من طريق: أبي عقيل عن ابن عم له عن عقبة بن عامر عن عمر به، قال ابن حجر رحمه الله في نتائج الأفكار، (1/240): "هذا حديث حسن من هذا الوجه، ولولا الرجل المبهم لكان على شرط البخاري؛ لأنه أخرج لجميع رواته، من المقرئ فصاعداً إلا المبهم، ولم أقف على اسمه". قال الشوكاني رحمه ال?ه في النيل ( 1/269): "ورواية أحمد وأبي داود في إسنادها رجل مجهول"، وقال الألباني رحمه الله في إرواء الغليل (1/135): "وهذه الزيادة يعني رفع البصر منكرة؛ لأنه تفرد بها ابن عم أبي عقيل، وهو مجهول"، قال محققو المسند: "حديث صحيح دون قوله: "ثم رفع نظره إلى السماء" وهذا إسناد ضعيف، لجهالة ابن عم زهرة بن معبد" ولم يأت لرفع البصر متابع أو شاهد فيما وقفت عليه، ومن المتقرر أن الإبهام في الحديث مما يضعفه، قال ابن حجر رحمه في نزهة النظر (136): "و لا يقبل حديث المبهم ما لم يسم؛ لأن شرط قول الخبر عدالة راويه، ومن أبهم اسمه لا تعرف عينه، فكيف تعرف عدالته"]، والجامع بين رفع الوجه في الأذان وفي الوضوء أن فيهما إعلان بحقيقة التوحيد، وإفراد الله بالعبادة [انظر: اختيارات شيخ الإسلام، ( 38)].
و يمكن أن يجاب عن ذلك بما يأتي:
1- بأن كون الأذان إعلان بحقيقة التوحيد لا يلزم منه رفع الوجه.
2- ولأن الأصل في العبادات التوقيف والحظر [انظر: مجموع فتاوى شيخ الإسلام، (29/17)]، ولا يوجد دليل صحيح صريح يفيد ذلك.
3- وينازع القياس بعدم ثبوت دليل الأصل؛ إذ فيه رجل مبهم، ومن شرط صحة الأصل في القياس أن يكون حكم الأصل متفقاً عليه [انظر: الإحكام، الآمدي، (3/382)، والتمهيد، أبي الخطاب، (3/442)، وروضة الناظر، (3/877)].
وبناء على ذلك فالراجح والله أعلم عدم رفع الرأس حال الأذان.
وبناء على ذلك لا ترد مسألة الأثر.
المسألة السادسة: الترسل في الأذان وجزمه.
أولاً: تعريف الترسل:
الترسل في اللغة هو: التأني والتمهل [انظر: لسان العرب، (6/152)، مادة ( رسل )].
وفي الاصطلاح هو: التمهل والتؤدة في تحقيق ألفاظ الأذان من غير عجلة، ويكون بسكتة بين كل جملتين، من غير تمطيط، ولا مد مفرط، والجزم منه [انظر: بدائع الصنائع، (1/249)، وفتح القدير، (1/213)، والشرح الكبير للدردير، (1/308)، ومواهب الجليل، (1/437)، والمجموع، (3/118)، ومغني المحتاج، (1/211)، وشرح المنتهى، (1/265)، والمغني، (2/60)].
ثانياً: حكم الترسل:
اتفق الفقهاء على أن الترسل سنة من سنن الأذان [انظر: المراجع السابقة].
واستدلوا بما يأتي:
1- حديث جابر رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لبلال: «يا بلال إذا أذنت فترسل في أذانك، وإذا أقمت فاحدر» [أخرجه الترمذي في أبواب الصلاة، باب: ما جاء في الترسل في الأذان، (152/195)، والبيهقي في السنن الكبرى، (2/202)، والحاكم، (1/402)، قال الترمذي: "حديث جابر هذا لا نعرفه إلا من هذا الوجه من حديث عبدالمنعم، وهو إسناد مجهول"، وقال الحاكم: "هذا حديث ليس في إسناده مطعون غير عمرو بن قائد، والباقون: شيوخ البصرة، وهذه سنة غريبة لا أعرف لها إسناداً غير هذا، ولم يخرجاه" وضعفه البيهقي، وانظر: التلخيص، (1/329)].
وجه الدلالة: أن هذا أمر صريح من النبي صلى الله عليه وسلم بالترسل.
2- حديث علي رضي الله عنه قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يأمرنا أن نرتل الأذان، ونحذف الإقامة" [أخرجه الدارقطني في السنن، (1/445/915)، والطبراني في الأوسط، (5026) بلفظ: "كان يأمر بلالاً". قال ابن حجر في التلخيص (1/330): "و فيه عمر بن شمر، وهو متروك "، وقال النووي في المجموع (3/118): "إسناده ضعيف"].
وجه الدلالة:
أن ترتيل الأذان بمعنى الترسل فيكون أمراً به.
3- وما روي أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال لمؤذن بيت المقدس: "إذا أذنت فترسل، وإذا أقمت فاحذم" [أخرجه: الدارقطني في السنن، (1/445/916)، والبيهقي في السنن، (2/203)].
وجه الدلالة:
أن هذا صريح في الأمر بالترسل.
4- ولأن الأذان لإعلام الغائبين فكان الترسل فيه أبلغ في الإعلام [انظر: بدائع الصنائع، (1/249)، والمجموع، (3/117)، والمغني، (2/60)]؛ لأنه إذا مد صوته وتمهل سرى في الآفاق، ومن ثم يصل إلى أكبر عدد من الناس.
5- وللتفريق بين الأذان والإقامة [انظر: المغني، (2/60)].
6- ولأنه هو المتوارث عن السلف [انظر: فتح القدير، (1/213)].
أثر مكبرات الصوت على هذه السنة:
يقصد بهذا الأثر: هل يترك المؤذن الذي يؤذن بواسطة المكبر الترسل، بناء على أنه لأجل أن يصل لمن هو في مكان بعيد؟
فأقول:
لا يترك المؤذن الذي يؤذن بواسطة المكبر الترسل، وذلك للأمور الآتية:
1- لأن الترسل لا يسلم أن المقصد منه: زيادة مدى الصوت فقط، بل قد ذكر بعض العلماء - كما سبق - أنه لحكمة أخرى وهي: التفريق بين الأذان والإقامة.
2- ثم إن سلم حصر الحكمة في زيادة مدى الصوت فيسن؛ لأنه أبلغ في رفع الصوت، ووصوله إلى الآخرين، وبهما يتحقق مقصد الأذان، واتباع الهدي النبوي، ويكون الصوت عالياً، ولا شك أنه انضم إلى ذلك المكبر، والشارع يهدف إلى جلب المصالح وتكثيرها، ودرء المفاسد وتقليلها [انظر: مجموع فتاوى شيخ الإسلام، (1/265)، والموافقات، (2/520) و(3/415)].
3- ولأن الأذان مع الترسل وسيلة لإبلاغ الغير الصوت، وكذلك الأذان في المكبر فأمكن الجمع بين الوسيلتين وإذا أمكن الجمع بين الوسيلتين كان أبلغ في تحقيق المقصود وتكثيره، وذلك أمر مشروع لأمرين:
أ- أن مباشرة الوسائل المشروعة كافة أدعى في حصول المقصود.
ب- أن الأصل في الوسائل الشرعية: الإعمال [انظر: قواعد الوسائل، (161)].
4- ولأن أداء كلمات التوحيد بصوت جميل، وبتمهل، وبلا عجلة أدل على التعظيم والاحترام، ولذا خطابات الملوك والرؤساء ونحوهم تلقى بصوت هاد? وبلا عجلة، ولله المثل الأعلى.
5- وفيه تحقيق لمصلحة تتعلق بالمؤذن، وهي: الراحة وعدم سرعة الأنفاس، والشارع تهدف إلى تحصيل المصالح وتحقيقها.
و الله أعلم..
المطلب الثاني: سنة متعلقة بالمؤذن.
المسألة الأولى: أن يكون صيتاً.
أولاً: المراد بالصيت:
المراد بالصيت: شديد الصوت، وعاليه [انظر: لسان العرب، (13/10) مادة (صوت)، والمطلع، (48)].
ثانياً: حكم كون المؤذن صيتاً:
اتفق الفقهاء على أنه يستحب أن يختار للأذان المؤذن الصيت، صاحب الصوت العالي المستحسن [انظر: بدائع الصنائع، (1/248)، والشرح الكبير، (1/311)، ومواهب الجليل، (1/437)، والمجموع، (3/119)، ومغني المحتاج، (1/214)، والمبدع، (1/214)، وشرح المنتهى، (1/262)].
واستدلوا لذلك بما يأتي:
1- ما ورد في حديث عبدالله بن زيد رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال له: «فقم مع بلال فألق عليه ما رأيت فليؤذن، فإنه أندى صوتاً منك» [أخرجه أبو داود، في الصلاة، باب كيف الأذان، (1/241/499)، والترمذي في أبواب الصلاة، باب ما جاء في بدء الأذان، (51/189)، وابن ماجة، في الأذان، باب بدء الأذان، (86/706)، قال الترمذي: "حسن صحيح"]، والمراد بأندى: أعلى وأرفع وأبعد، وقيل: أحسن وأعذب [انظر: الصحاح، (6/2505)، النهاية، (5/36)].
وجه الدلالة: أن معنى قوله: «أندى» عالي الصوت ومرتفعه، وهو الصيت.
2- أن النبي صلى الله عليه وسلم اختار أبا محذورة رضي الله عنه للأذان؛ لكونه صيتاً [انظر: مغني المحتاج، (1/214)، والمغني، (2/70)]، ويشهد لذلك: أن أبا محذورة رضي الله عنه قال: "كنت غلاماً صيتاً" [انظر: سنن الدارقطني، (1/443/910)].
3- ولأن المقصود من الأذان الإعلام، وإذا كان المؤذن صيتاً كان أبلغ في الإسماع [انظر: مواهب الجليل، (1/437)، ومغني المحتاج، (1/214)، وشرح المنتهى، (1/263)].
أثر مكبرات الصوت على هذه السنة:
يقصد بهذا الأثر: مع استخدام مكبرات الصوت هل يسن أن يكون صيتاً أولا؛ نظراً لأن المكبر سيقوي الصوت ويرفعه في الآفاق؟
فأقول: الذي يظهر لي والله أعلم:
بقاء سنية كون المؤذن صيتاً، وذلك للأمور الآتية:
1- أنه إذا اجتمع قوة الصوت والمكبر: أدى إلى ارتفاع الصوت، وبثه في الأفق، وبهما يتحقق مقصد الأذان، واتباع الهدي النبوي، ويكون الصوت عالياً، والشارع يهدف إلى جلب المصالح وتكثيرها، ودرء المفاسد وتقليلها [انظر: مجموع فتاوى شيخ الإسلام، (1/265)، والموافقات، (2/520) و(3/415)].
2- ولأنه كما سبق أيضاً أمكن الجمع بين الوسيلتين وإذا أمكن الجمع بين الوسيلتين كان أبلغ في تحقيق المقصود وتكثيره، ?ذلك أمر مشروع لأمرين:
أ- أن مباشرة الوسائل المشروعة كافة أدعى في حصول المقصود.
ب- أن الأصل في الوسائل الشرعية: الإعمال [انظر: قواعد الوسائل، (161)].
3- ولأن المكبر ربما تعطل أثناء الأذان أو انقطع الكهرباء، فيكون الصوت فيه قوة.
المطلب الثالث: سنة متعلقة بما يؤذن له.
المسألة الأولى: الأذان بعد أداء الجماعة.
هذه المسألة لا تخلو من حالتين:
الحالة الأولى: أن تكون الصلاة فائتة:
أولاً: صورة المسألة:
إذا فات فرد أو جماعة الصلاة حتى خرج الوقت فهل يشرع الأذان حينئذ؟
ثانياً: حكم المسألة:
الفرع الأول: إذا كانت الصلاة واحدة.
اختلف الفقهاء رحمهم الله في ذلك على أقوال:
القول الأول:
يستحب أن يؤذن للفائتة، وهو مذهب الحنفية [انظر: بدائع الصنائع، (1/256)، وفتح القدير، (1/217)]، ورأي لبعض المالكية [انظر: مواهب الجليل، (1/422)]، وقول الإمام الشافعي رحمه الله في القديم [انظر: مغني المحتاج، (1/209) والمهذب، (3/91)]، وهو مذهب الحنابلة [انظر: شرح المنتهى، (1/260)، والمغني، (2/74)].
القول الثاني:
لا يؤذن لها، وهو مذهب المالكية [انظر: شرح الخرشي، (1/228)، والشرح الكبير، (1/306)، الفواكه الدواني، (1/200)]، وقول الإمام الشافعي رحمه الله في الجديد [انظر: مغني المحتاج، (1/209)، والمهذب، (3/91)]، ورواية عند الحنابلة [انظر: الإنصاف، (3/98)].
القول الثالث:
لا يؤذن إلا إذا أمل اجتماع الناس، وهو رأي لبعض المالكية [انظر: مواهب الجليل، (1/422)]، وبعض الشافعية [انظر: المهذب، (3/91)].
الأدلة:
استدل أصحاب القول الأول بأدلة، منها:
1- ما جاء أن النبي صلى الله عليه وسلم نام والصحابة رضي الله عنهم ناموا حتى طلع حاجب الشمس، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «يا بلال، قم فأذن بالصلاة» [أخرجه البخاري في مواقيت الصلاة، باب الأذان بعد ذهاب الوقت، واللفظ له، (1/122)، ومسلم في المساجد ومواضع الصلاة، باب قضاء الفائتة واستحباب تعجيل قضائها، (5/190/1560) مع شرح النووي].
وجه الدلالة ظاهر، حيث أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر بلالاً رضي الله عنه بالأذان للصلاة الفائتة.
2- ولأن الأذان من سنن الصلاة المفروضة، فاستوى حال الوقت وبعده [انظر: المغني، (2/76)].
أدلة القول الثاني:
1- ما جاء في قصة يوم الخندق، وفيها: "فدعا رسول الله صلى الله عليه وسلم بلالاً فأقام، فصلى الظهر وأحسن كما كان يصليها في وقتها، ثم أقام للعصر.." [أخرجه الإمام أحمد (18/45/11465)، والنسائي في الأذان، باب الأذان للفائتة من الصلوات، (89/661)، والبيهقي، (1/402)، والدارمي، (1/272)، وابن خزيمة، (966)، وال?افعي في الأم (1/89)، والطحاوي في شرح معاني الآثار، (1/321)، وصححه ابن خزيمة، قال الشوكاني في نيل الأوطار (1/491): "رجال إسناده رجال الصحيح"، وقال محققو المسند: "إسناده صحيح، على شرط مسلم"].
وجه الدلالة: أن النبي صلى الله عليه وسلم لما فاتته الصلاة يوم الخندق لم يؤذن لها، بل أقام فقط، مما يدل على أن الصلاة الفائتة لا يؤذن لها.
ويمكن أن يجاب بأن الحديث فيه إجمال، بينته الروايات الأخرى، وفيها: "فأمر بلالاً فأذن ثم أقام" [أخرجه: الإمام أحمد (6/17/3555)، والترمذي في أبواب الصلاة، باب ما جاء في الرجل تفوته الصلاة بأيتهن يبدأ، (49/179)، والبيهقي، (1/403)، وابن أبي شيبة، (2/70)، قال الترمذي: "حديث عبدالله ليس بإسناده بأس، إلا أنا أبا عبيدة لم يسمع من عبدالله"، قال محققو المسند: "حسن لغيره، وهو إسناد ضعيف، لانقطاعه، أبو عبيدة بن عبدالله لم يسمع من أبيه، وبقية رجاله ثقات رجال الشيخين"].
2- واستدلوا أيضاً: بحديث أبي هريرة رضي الله عنه وفيه: "فدعا بالماء فتوضأ، ثم صلى سجدتين، ثم افتتح الصلاة فصلى الغداة" [سبق تخريجه].
وجه الدلالة: أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يؤذن للغداة، ولو كان مستحباً لفعله.
و أجيب عنه:
أ - لا يلزم من ترك الأذان أنه لم يؤذن، بل لعله أذن، ولم ينقله الراوي أو لم يعلم به.
ب- ولعله ترك الأذان لبيان جواز الترك، وإشارة إلى أنه ليس بواجب متحتم لاسيما في السفر [انظر: شرح النووي على مسلم، (5/183)].
3- ولأن الأذان إعلام بطلب الحضور، وعند فواتها هم حضور فلا حاجة [انظر: فتح القدير، (1/217)].
4- ولأن الأذان للإعلام بالوقت، وقد فات [انظر: المغني، (2/76)].
5- ولأن فيه إلباساً للسامعين [انظر: المبدع، (1/327)].
ويمكن أن يجاب عن ذلك بأن هذه علل إنما يلتفت إليها إذا عدم النص.
أدلة القول الثالث:
الأذان شرع للإعلام وجمع الناس، فإذا لم يؤمل الجمع فلا يشرع الأذان؛ لأنه لا وجه له، أما إذا أمل الجمع كان له وجه فيشرع [انظر: المهذب، (3/91)، المغني، (2/72)].
ويمكن أن يجاب عن ذلك بأن في الأذان مصالح أخر، غير الإعلام، مثل: إظهار التوحيد والبراءة من الشرك وأهله، والشهادة لمحمد صلى الله عليه وسلم بالرسالة، ولا يسمع صوت المؤذن أحد إلا وشهد له كما سبق [راجع مبحث أن يكون المؤذن صيتا]، وما ذكروه هو المقصد الأساس من الأذان.
الترجيح: الذي يظهر والله أعلم أنه يؤذن للفائتة، وذلك لقوة ما ذكروا من استدلال، وما أورد على الأقوال الأخرى من مناقشة، لكن ينبغي عدم رفعه رفعاً يلبس على الناس ويشككهم في الصلاة.
أثر مكبرات الصوت على هذه السنة:
يقصد بهذا الأثر: هل يؤذن من فاتته الصلاة في المكبر أم لا.
فأقول:
الذي يظهر والله أعلم أنه لا يستخدم المكبر في الأذان للفائتة، بل يؤذن لها بدون ذلك؛ وذلك لما يأتي:
أن استخدامه يؤدي إلى التلبيس على الناس في دخول وقت الصلاة، وتشكيكهم في وقت صلاتهم، وذلك يؤدي إلى مفسدة أكبر من تلك المصلحة، ومن المتقرر: أن درء المفاسد أولى من جلب المصالح [انظر: الأشباه والنظائر، ابن السبكي، (1/105)، والسيوطي، (1/217)، وابن نجيم، (90)، ترتيب اللآلئ، (2/691)، شرح القواعد الفقهية، الزرقا، (205)، قواعد الفقه، المجددي، (80)، مجلة الأحكام مع شرحها لعلي حيدر، (1/37)، المدخل الفقهي العام، (2/996)، الوجيز، (265)]، ومقصود الأذان يحصل بدون استخدام هذه الوسيلة، وكذلك الأجر المترتب عليه، والأذان في الأصل إنما كان لأجل: دعوة الناس للصلاة، وحثهم لذا استحب رفعه، وفي الغالب: أنه في الأذان للفائتة: العدد يكون قليلاً، والله أعلم.
الفرع الثاني: إذا كانت الصلوات متعددة.
اختلف الفقهاء القائلين باستحباب الأذان للفائتة في الأذان لها إذا كانت متعددة، هل يكتفي بالأذان لأولى أو يؤذن لكل فريضة، ويمكن عرض أبرز الأقوال في ضوء النقاط الآتية:
القول الأول:
يؤذن للأولى فقط، وهو رأي لبعض الحنفية [انظر: فتح القدير، (1/217)]، وبعض المالكية [انظر: مواهب الجليل، (1/422)]، وهو المعتمد عند الشافعية [انظر: الحاوي، (2/75)، المهذب مع المجموع، (3/91)]، والحنابلة [انظر: الإنصاف، (3/98)، المغني، (2/75)].
القول الثاني:
يؤذن لهما [انظر: البحر الرائق، (1/455)، بدائع الصنائع، (1/256)].
الأدلة:
أدلة القول الأول:
استدل أصحاب القول الأول بأدلة منها:
1- ما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم في يوم الخندق، وفيه: "أن المشركين شغلوا رسول الله صلى الله عليه وسلم عن أربع صلوات يوم الخندق، حتى ذهب من الليل ما شاء الله، فأمر النبي صلى الله عليه وسلم بلالاً فأذن، ثم أقام فصلى العصر، ثم أقام فصلى المغرب، ثم أقام فصلى العشاء "[أخرجه الإمام أحمد (18/45/11465)، والنسائي في الأذان، باب الأذان للفائتة من الصلوات، (89/661)، والبيهقي، (1/402)، والدارمي، (1/272)، وابن خزيمة، (966)، والشافعي في الأم (1/89)، والطحاوي في شرح معاني الآثار، (1/321)، وصححه ابن خزيمة، قال الشوكاني في نيل الأوطار (1/491): "رجال إسناده رجال الصحيح"، وقال محققو المسند: "إسناده صحيح، على شرط مسلم"].
وجه الدلالة: أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يؤذن لبقية الصلوات الفوائت اكتفاء بالأولى.
2- و استدلوا أيضا ً: بأن وقتهما واحد فيقوم الأذان الأول مقام البقية [انظر: فتح القدير، (1/217)، المغني، (2/77)، والمهذب مع المجموع (3/911)].
3- القياس على الصلاة المجموعة حيث يؤذن للأولى فقط.
أدلة القول الثاني:
استدل أصحاب القول الثاني بأدلة منها:
1- ما روي عن ابن مسعود رضي الله عنه أنه حين شغله الكفار يوم الأحزاب عن أربع صلوات قضاهن، فأمر بلالاً أن يؤذن ويقيم لكل واحدة منهن [انظر: بدائع الصنائع، (1/256)، وفتح القدير، (1/217)، والمبسوط، (1/136)].
و يمكن أن يناقش:
أ- بأن الحديث لم يرو هكذا، بل روي كما ذكره أصحاب القول الأول.
ب- ثم هو مرسل.
2- واستدلوا أيضاً: بأن القضاء يحكي الأداء [انظر: المراجع السابقة].
و يناقش بأن المقصد من تخصيص كل صلاة بأذان هو: إعلام الناس بدخول وقت الصلاة، وهذا غير موجود حينما تفوت إذ أن وقت الفوائت حين ذكرها.
الترجيح: لعل الأقرب والله أعلم أنه لا يؤذن إلا للأولى، وذلك لقوة أدلة القول الأول، وضعف أدلة القول الثاني بما أورد عليها من مناقشة.
أثر مكبرات الصوت على هذه السنة: تأخذ نفس الأثر السابق الذي ذكر في الفرع الأول.
الحالة الثانية: الأذان في مسجد سبقت فيه الجماعة.
أولاً: صورة المسألة: إذا قيمت الصلاة في مسجد، ثم حضرت جماعة أخرى لم يصلوا، فهل يؤذنون أو لا؟
ثانياً: حكم المسألة. اختلف العلماء رحمهم الله في ذلك على أقوال، يمكن عرضها في ضوء النقاط الآتية:
القول الأول:
أ- إن كان المسجد له أهل معلوم، وصلى فيه غير أهله بأذان وإقامة فلا يكره الأذان مرة أخرى فيه.
ب- وإن كان له أهل معلوم، وصلوا فيه، أو صلى بعضهم بأذان كره لغير أهله، أو لبقية أهله الأذان.
ج- إن كان ليس له أهل، كأن يكون على طريق فلا يكره.
وهذا مذهب الحنفية [انظر: بدائع الصنائع، (1/256)، حاشية ابن عابدين، (2/49)].
القول الثاني:
يكره الأذان، والحالة هذه، وهو قول المالكية [انظر: الشرح الكبير للدردير، (1/306)، ومواهب الجليل، (1/422)].
القول الثالث:
يسن لهم الأذان، ولكن الأولى: عدم رفع الصوت به؛ لخوف اللبس، سواء كان المسجد مطروقاً أو غير مطروق، وهذا مذهب الشافعية [انظر: المجموع، (3/93)، ومغني المحتاج، (1/209)].
القول الرابع: حب الإخفات به؛ لئلا يغتر الناس، وهذا مذهب الحنابلة [انظر: المغني، (2/79)].
الأدلة:
أدلة القول الأول:
استدل الحنفية على قولهم بما يأتي:
أ- الأذان لنداء أهل الحي، فإذا لم يحضروا كلهم أذن؛ لأنهم المقصودون.
ب- وإن صلى أهل الحي أو بعضهم فقد خوطبوا بالنداء ولا حاجة إلى الإعادة.
ج- ولأن الأذان للإعلام فيستحب الأذان للمسجد على الطريق حتى يسمع به البعيد [انظر: بدائع الصنائع، (1/256)].
ويمكن أن يجاب عن ذلك بأن أهل الحي وإن كانوا مقصودين إلا أن في الأذان مصالح أخر، كالأجر المترتب للمؤذن، حيث لا يسمع صوته شيء إلا شهد له [أخرجه البخاري، في الأذان، باب رفع الصوت بالنداء، (1/125)]، وكذلك: الأجر المترتب على الترديد مع المؤذن وغير ذلك.
أدلة القول الثاني:
واستدل المالكية على قولهم بما يأتي:
1- ما روي عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه أنه صلى بعلقمة والأسود رحمهما الله بغير أذان ولا إقامة، وقال: "يجزئنا أذان الحي وإقامتهم" [أخرجه ابن أبي شيبة، (1/200)، والبيهقي في السنن الكبرى، (2/167)، وهو في صحيح مسلم بلفظ: "فلم يأمرنا بأذان ولا إقامة" صحيح مسلم بشرح النووي، (5/15)].
2- ولأن الأذان قد ألقي، وهم مأمورون بإجابته، وقد أجابوه [انظر: المغني، (2/76)، والوسيط، (2/48)].
و يمكن أن يجاب عن ذلك:
1- بأن فعل عبدالله بن مسعود رضي الله عنه محمول على بيان الجواز.
2- وأما التعليل المذكور فلا يسلم حصره في ذلك، إذ أن الإجابة قد تمت وانقضت بإجابة الجماعة الأولى.
أدلة القول الثالث:
استدل الشافعية على قولهم بما يأتي:
1- فعل أنس رضي الله عنه حيث أذن وأقام لما جاء لمسجد صلي فيه [أخرجه البخاري معلقاً بصيغة الجزم، في الأذان، باب: فضل صلاة الجماعة، (1/131)، ووصله عبدالرزاق في مصنفه، (2/291)، وابن أبي شيبة، (1/200 ) والبيهقي (2/1169)، وقال ابن حجر في الفتح (2/154): "ووصله أبو يعلى في مسنده"].
2- أن الدعوة الأولى قد تمت بالإجابة، فاستحب النداء للثانية [انظر: الوسيط، (2/48)].
أدلة القول الرابع: الجمع بين أدلة القول الثاني والثالث.
الترجيح:
الذي يظهر والله أعلم أن القول الثالث هو الأقرب ويتأيد بما ورد في فضل الأذان، والحث عليه، والله أعلم.
أثر مكبرات الصوت على هذه السنة:
يقصد بهذا الأثر:من جاء لمسجد سبقت فيه جماعة وأراد الصلاة فهل يؤذن بالمكبر أم لا؟
فأقول:
الذي يظهر والله أعلم أنه لا يؤذن فيه، بل يؤذن لها بدون ذلك؛ وكما سبق: أن استخدامه يؤدي إلى التلبيس على الناس في دخول وقت الصلاة، وتشكيكهم في وقت صلاتهم، وذلك يؤدي إلى مفسدة أكبر من تلك المصلحة، ومن المتقرر: أن درء المفاسد أولى من جلب المصالح [انظر: الأشباه والنظائر، ابن السبكي، (1/105)، السيوطي، (1/217)، وابن نجيم، (90)، ترتيب اللآلئ، (2/691)، شرح القواعد الفقهية، الزرقا، (205)، قواعد الفقه، المجددي، (80)، مجلة الأحكام مع شرحها لعلي حيدر، (1/37)، المدخل الفقهي العام، (2/996)، الوجيز، (265)]، ومقصود الأذان يحصل بدون استخدام هذه الوسيلة، وكذلك الأجر المترتب عليه، والأذان في الأصل إنما كان لأجل: دعوة الناس للصلاة، وحثهم لذا استحب رفعه، وفي الغالب: أنه في الأذان للفائتة يكون العدد قليلاً، والله أعلم.
الخاتمة:
الحمد لله الذي يسر وأعان على إتمام هذا البحث، ويمكن أن ألخص أبرز النتائج في النقاط الآتية:
- أن استخدام مكبرات الصوت في الأذان جائز؛ وذلك لأن الوسائل لها أحكام المقاصد، والأصل في الأشياء الإباحة، ووجود الحاجة الماسة لها، والشريعة جاءت بجلب المصالح وتكثيرها ودرء المفاسد وتقليلها، ولعدم المحظور الشرعي.
- أن المؤذن الذي يؤذن بواسطة المكبر لا يطلب الارتفاع والعلو؛ وذلك لأن بعض المفاسد قد تترتب على العلو من الاطلاع على البيوت والعورات والافتتان بمن فيها، ومقصد الأذان يتحقق بواسطة المكبر.
- أن المؤذن الذي يؤذن بواسطة المكبر لا يلتفت في الحيعلتين؛ وذلك لأن الحكم يدور مع علته وجوداً وعدماً، ولأنه يرتكب أعظم المصلحتين وتفوت أدناهما، ولأنه إذا تعارض مفسدتان روعي أعظمهما ضرراً بارتكاب أخفهما، ولأن الضرر الأشد يزال بالأخف.
- أن المؤذن الذي يؤذن بواسطة المكبر يسن له القيام حال الأذان؛ وذلك لأنه أبلغ في تحقيق مقصد الأذان، ولأنه إذا اجتمعت وسيلتان في تحقيق مقصود شرعي وأمكن الجمع بينهما جمع.
- أن المؤذن الذي يؤذن بواسطة المكبر يسن له جعل الإصبعين في الأذنين؛ وذلك لأنه أبلغ في تحقيق مقصد الأذان.
- أن المؤذن الذي يؤذن بواسطة المكبر لا يرفع وجهه حال الأذان؛ لعدم ثبوته.
- أن المؤذن الذي يؤذن بواسطة المكبر يسن له أن يترسل في الأذان؛ وذلك لأن العبادات الشرعية ينبغي أداؤها على وجه التعظيم، ولأن في الترسل إراحة للمؤذن، والشريعة تهدف إلى جلب المصالح وتكثيرها.
- أن المؤذن الذي يؤذن بواسطة المكبر يسن أن يكون صيتاً؛ وذلك لأنه أبلغ في تحقيق مقصد الأذان.
- أن المؤذن الذي يؤذن بواسطة المكبر لا يؤذن فيه بعد أداء الجماعة، سواء كانت فائتة أم لا؛ وذلك درء المفاسد أولى من جلب المصالح.
وإن كان من توصية فإني اقترح بحث موضوع: الأحكام الفقهية المتعلقة بمكبرات الصوت، لأنها غير محصورة في الأذان فحسب، بل تدخل في أبواب متعددة.
الشيخ: عبد الحميد المشعل
- التصنيف:
- المصدر: