ليس نهاية المطاف

منذ 2013-04-08

إننا أصبحنا بين ظاهرتين غريبتين لا تخلوان من تكلف تأباه الشريعة، إحداهما الإصرار على إصلاح الأنظمة الجاهلية من قنواتها الداخلية لا غير مع اعتبار التفكير في غير ذلك غلواً أو انحرافاً مرفوضاً، وأما الظاهرة الأخرى فهي الإصرار على رفض أي مكسب مشروع ينعم به الإسلام والمسلمون....


قال الحق جل وعلا : {رَبَّنَا إِنَّنَا سَمِعْنَا مُنَادِيًا يُنَادِي لِلْإِيمَانِ أَنْ آمِنُوا بِرَبِّكُمْ فَآمَنَّا رَبَّنَا فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَكَفِّرْ عَنَّا سَيِّئَاتِنَا وَتَوَفَّنَا مَعَ الْأَبْرَارِ. رَبَّنَا وَآتِنَا مَا وَعَدْتَنَا عَلَى رُسُلِكَ وَلَا تُخْزِنَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّكَ لَا تُخْلِفُ الْمِيعَادَ. فَاسْتَجَابَ لَهُمْ رَبُّهُمْ أَنِّي لَا أُضِيعُ عَمَلَ عَامِلٍ مِنْكُمْ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ فَالَّذِينَ هَاجَرُوا وَأُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَأُوذُوا فِي سَبِيلِي وَقَاتَلُوا وَقُتِلُوا لَأُكَفِّرَنَّ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَلَأُدْخِلَنَّهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ ثَوَابًا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَاللَّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الثَّوَابِ} [آل عمران :193- 195]، هذا هو الطريق كله بذل وعطاء وصبر وتضحية، لأن الجزاء يستحق كل ذلك، ألا إن سلعة الله غالية، ألا إن سلعة الله الجنة.

وليس معنى ذلك رفض أي نصر للإسلام والمسلمين يأتي سهلاً إذا لم يقتض من المسلمين الانزلاق في طرق الانحراف والذلة والضلال، ولكن لا يعني أيضاً أن يصبح التطلع أو البحث عن فرص النصر السهل نهاية المطاف، كلا إن طريق الرسل في إقامة دين الله في الأرض معلوم، وهو الذي يجب أن يرتبط به المسلم أصالة ودواماً، مع اقتطاف أي ثمرات عابرة في الطريق، ودفع ما استطعنا من ضرر، وتقليل ما استطعنا من شر.

إننا أصبحنا بين ظاهرتين غريبتين لا تخلوان من تكلف تأباه الشريعة، إحداهما الإصرار على إصلاح الأنظمة الجاهلية من قنواتها الداخلية لا غير مع اعتبار التفكير في غير ذلك غلواً أو انحرافاً مرفوضاً، ومن ثم حين ينسد الإصلاح من هذا الطريق فليس للناس إلا الإحباط والانكسار والتهيؤ لعقود جديدة من الاستضعاف دون التعلق بلحظة فارقة أو فرصة سانحة، وربما صار حالنا في عبارة مختصرة أن ننتظر من أبي جهل ونلحّ عليه أن يمكننا من إقامة الدين، بل أن يمكننا من إسقاطه وعقوبته وأن هذا هو الطريق الوحيد، فإن استجاب لنا وإلا قعدنا نندب حظنا، ونؤكد إصرارنا على التزام الأدب وعدم تعدي الحدود مع أبي جهل، باعتبار أن هذا مقتضى تربيتنا الإسلامية، وتعاليم شريعتنا السمحة!

وأما الظاهرة الأخرى فهي الإصرار على رفض أي مكسب مشروع ينعم به الإسلام والمسلمون، يأتي من خلال قنوات الأنظمة الداخلية، دون أن نعني أنفسنا بالبحث في أي ضوابط أو محاذير يتوقف عليها الرفض أو القبول، وقوفاً على ما علم عنه صلى الله عليه وسلم أنه بدأ دعوته بتقرير ألوهية الله وحده وإخلاص العبادة له، ولم يبدأها دعوة قومية ولا أخلاقية ولا اجتماعية، حتى إذا ما استتب له الأمر فرض على الناس الخضوع للإسلام، ثم التوسّع والتكلف في معاني ومدلولات ذلك.

وفصل الخطاب في ذلك الارتباط بالفقه الإسلامي الموروث عن سلفنا وعلمائنا بأحكامه الشرعية وقواعده الفقهية، ولا ننسخه برؤانا واستنباطاتنا الفكرية المتباينة، فالمسيرة النبوية للدعوة في مكة مع دلالاتها وأسرارها الكثيرة لا تنهي العمل مثلاً بالقواعد المتفق عليها كـ(دفع الضرر الأشد بالضرر الأخف)، والرسول صلى الله عليه وسلم الذي قامت دعوته منذ أول يوم على تقرير ألوهية الله دون سواه في وضوح تام في بيئة تستنكر ذلك وترفضه تماماً هو الذي رضي في صلح الحديبية بكتابة: (باسمك اللهم) ومحو: (بسم الله الرحمن الرحيم) وبكتابة: (محمد بن عبد الله) ومحو: (محمد رسول الله) وهو الذي ترضى عن النجاشي وأمر بالصلاة عليه لما مات مع كونه لم يقم شيئا من الدين في مملكته، -غير أنه كان حامياً للمسلمين فيها- لكونه اتقى الله ما استطاع، و{لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا} [البقرة:286].

وفي المقابل نقول لمن يقفون عند هذه الأحكام الاستثنائية أو التي عمل بها المسلمون في مراحل معينة، ويعمل بها فيما يماثلها: إياكم أن تجعلوها نهاية المطاف، فإن الأحكام الاستثنائية لا ينبغي أن تنسيكم الأحكام الأصلية، والأحكام المرحلية، لا يجوز أن تنسخ الأحكام النهائية، ومحاولتكم اقتطاف بعض الثمرات من خلال أنظمة وقوانين الجاهلية سواء نجحتم في ذلك أو لا ليس نهاية المطاف.

{وَكَأَيِّنْ مِنْ نَبِيٍّ قَاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ فَمَا وَهَنُوا لِمَا أَصَابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَمَا ضَعُفُوا وَمَا اسْتَكَانُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ . وَمَا كَانَ قَوْلَهُمْ إِلَّا أَنْ قَالُوا رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَإِسْرَافَنَا فِي أَمْرِنَا وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ . فَآتَاهُمُ اللَّهُ ثَوَابَ الدُّنْيَا وَحُسْنَ ثَوَابِ الْآخِرَةِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ} [آل عمران:146- 148]. {رَبَّنَا لَا تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا وَهَبْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ . رَبَّنَا إِنَّكَ جَامِعُ النَّاسِ لِيَوْمٍ لَا رَيْبَ فِيهِ إِنَّ اللَّهَ لَا يُخْلِفُ الْمِيعَادَ} [آل عمران:8، 9].
وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
 

المصدر: مجلة البيان
  • 0
  • 0
  • 2,206

هل تود تلقي التنبيهات من موقع طريق الاسلام؟

نعم أقرر لاحقاً