الوقف على النفس
هل يصح أن يقوم الإنسان بالوقف على نفسه مدة حياته؟ ويتسائل البعض هل هذا النوع من الأوقاف جائز، وما هو دليله.
- التصنيفات: موضوعات متنوعة -
الوقف: هو تحبيس الأصل وتسبيل المنفعة. وهو عقد له مكانة عظيمة في الشرع.
والوقف من أعمال البر التي غفل عنها الكثير، رغم ما أعده الله فيه من الأجر العظيم.
ومن الصوارف عن هذا العمل العظيم، هو ما يحصل في نفوس الكثير من الشح وحب المال، ولذا فإن كثيرًا من الناس قد غفل عن نوع من الوقف ألا وهو أن يقوم الشخص بالوقف على النفس، فلو علم كثير من الناس بذلك لتدافعوا إلى هذا العمل، فهل يصح أن يقوم الإنسان بالوقف على نفسه مدة حياته؟ ويتسائل البعض هل هذا النوع من الأوقاف جائز، وما هو دليله.
هذه المسألة اختلف فيها الفقهاء على قولين:
القول الأول: أن الوقف على النفس جائز، والوقف صحيح:
وهذا قول الإمام أبو حنيفة، وأبو يوسف وإحدى الروايتين عن محمد (1)، وقولٌ عند بعض الشافعية (2)، والقول الراجح عن الإمام أحمد وقول طائفة من أصحاب أحمد (3) وهو اختيار شيخ الإسلام وتلميذه ابن القيم (4).
القول الثاني: وهم من منع من الوقف على النفس وقالوا: يبطل به الوقف.
وهذا القول هو مذهب الشافعية، واستثنوا بعض المسائل، كما لو وقف على طلبة العلم وكان منهم، أو على الفقراء فافتقر، أو على أولاد أبيه وذكر صفة نفسه فهنا يصح (5)، والمنع من الوقف هو رأي جمهور المالكية (6) والحنابلة (7).
أدلة الأقوال:
أولاً: أدلة الرأي الأول: وهم القائلون بأن الوقف على النفس جائز.
الدليل الأول:
استدلوا بقول النبي صلى الله عليه وسلم للرجل الذي قال: عندي دينار. فقال له: «تصدق به على نفسك» (8)، قالوا: إن المقصود من الوقف التقرب إلى الله، والصرف على النفس فيه قربة إليه سبحانه.
جاء في فتح القدير: (وَإِذَا جَعَلَ الْوَاقِفُ غَلَّةَ الْوَقْفِ لِنَفْسِهِ أَوْ جَعَلَ الْوِلَايَةَ إلَيْهِ جَازَ عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ) (9).
الدليل الثاني:
استدلوا بمَا رُوِيَ عن النَّبِيَّ عليه الصلاة والسلام أنه كَانَ يَأْكُلُ مِنْ صَدَقَتِهِ (10).
قالوا: والمراد منها صدقته الموقوفة، ولا يحل الأكل منها إلا بالشرط، فدل ذلك على صحته (11)، كما قالوا: ولأن الإجماع على أن الواقف إذا لم يشرط لنفسه الأكل منها لا يحل له أن يأكل منها، وإنما الخلاف فيما إذا شرطه (12).
الدليل الثالث:
استدلوا بقول النبي صلى الله عليه وسلم: «من يشتري بئر رومه فيجعل فيها دلوه مع دلاء المسلمين» (13).
وجه الدلالة:
قالوا: فيه دليل على أنه يجوز للواقف أن يجعل لنفسه نصيبًا من الوقف ويؤيد ذلك جعل عمر لمن ولي وقفه أن يأكل منه بالمعروف وظاهر ذلك عدم الفرق بين أن يكون هو الناظر أو غيره.
قالوا: ويستنبط من ذلك صحة الوقف على النفس (14).
الدليل الرابع:
استدلوا بقول النبي عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: «نفقة الرجل على نفسه صدقة» (15).
قالوا: إن في الصرف إلى نفسه قربة وهو مقصوده (16).
وقالوا إن معنى هذا الحديث قد روي من طرق كثيرة من ذلك.
ما روي: «مَا أطعمت نفسك فهو لك صدقة»، وفي لفظ آخر: «أَيُّمَا رجل كسب مالا حلالا فأطعمه نفسه أو كساها فمن دونه مِنْ خلق الله - تعالى -فإن له زكاة» (17).
وَفِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ عَنْ جَابِرٍ أنه عليه الصلاة والسلام قال لجابر«: ابدأ بنفسك فتصدق عليها، فإن فضل شيء فلأهلك» (18).
الدليل الخامس:
قالوا إن الوقف إزالة الملك إلى الله تعالى على وجه القربة، فإذا شرط البعض أو الكل لنفسه، فَقَدْ جعل مَا صار مملوكاً لله تعالى لنفسه ولم يجعل ملك نفسه لنفسه، وهذا جائز (19).
الدليل السادس:
قالوا: ولأنه لما جاز أن يشترط لنفسه من الوقف شيئا جاز أن يختص به كله أيام حياته كالوصية (20).
الدليل السابع:
قالوا: إنه كما يصح أنه يقف وقفاً وينتفع به كجملة المسلمين كما يصح أن يشترط غلته، فكذلك يصح أن يختص نفسه بهذا الوقف (21).
الدليل الثامن:
قالوا أن هناك فرق بين استحقاق الشيء وقفًا واستحقاقه ملكًا (22).
ثانياً: أدلة الرأي الثاني: وهم القائلون بأن الوقف على النفس غير جائز، ويبطل به الوقف.
الدليل الأول:
قالوا: إنه يتعذر تمليك الإنسان ملكه لنفسه؛ لأنه حاصل، وتحصيل الحاصل محال (23).
يرد عليهم: بأن الواقف هنا لم يملّك نفسه من نفسه، وإنما أوقفه لله جل وعلا، فهو قد جعل ما صار ملكاً لله تعالى لنفسه، ألا ترى لو أنه أوقف دارًا لطلاب العلم وكان منهم، فهل يصح انتفاعه به، فإذا جاز هناك فيجوز هنا.
الدليل الثاني:
قالوا: ولأن الوقف إخراج للمال المملوك عن ملكيته لله سبحانه وتعالى، خاصة إذا كان على وجوه البر، فإذا أوقف على نفسه فإنه في هذه الحالة لم يصنع شيئًاً.
الدليل الثالث:
قال بعضهم: إنه يمتنع كون الإنسان معطيًا من نفسه لنفسه ولهذا لا يصح أن يبيع نفسه ولا يهب نفسه ولا يؤجر ماله من نفسه فكذا لا يصح وقفه على نفسه (24).
الدليل الرابع:
وهو قريب من دليلهم الثاني.
قالوا: أَنَّ الوقف تبرع على وجه التمليك، فإن اشترط البعض أو الكل لِنَفْسِهِ فإن ذلك يبطله؛ لأن التمليك من نفسه لا يتحقق (25).
وبعد عرض ما سبق من أدلة الفريقين فالرأي الراجح في المسألة وبعد عرض ما سبق، يترجح القول الأول وهو جواز الوقف على النفس وهو المعمول به.
ولأنه لما جاز أن يشترط لنفسه من الوقف شيئًا جاز أن يختص به كله أيام حياته، وكذلك كما أنه ينتفع بالوقف مع جملة المسلمين، لدخوله ففي صفة الموقوف عليهم فكذلك يجوز له أن يوقف على نفسه.
كما أن في الأخذ بهذا القول ترغيب بالوقف، فإنه إذا علم الواقف أنه يمكنه أن يوقف شيئاً من ماله ويستفيد من ريعه في حياته فإن هذا يكون ترغيباً له فيه.
وهذا القول كما سبق هو قول الإمام أبو حنيفة، وبعض الشافعية، والقول الراجح عن الإمام أحمد، وهو اختيار شيخ الإسلام وتلميذه ابن القيم.
--------------
(1) انظر حاشية ابن عابدين 4/384، و فتح القدير 14/114.
(2) مغني المحتاج 2/308، روضة الطالبين 5/315.
(3) ينظر الإنصاف 7/15، و كشاف القناع 4/274، والفروع 7/335، و شرح منتهى الإرادات 2/402، و مطالب أولي النهى 4/285.
(4) ينظر الفتاوى الكبرى 5/225، وإعلام الموقعين 3/373.
(5) مغني المحتاج 2/308، حاشية البجيرمي 3/203، حاشية الجمل 7/384، روضة الطالبين 5/315، وانظر أيضا نيل الاوطار6/92.
(6) انظر في ذلك التاج والاكليل 6/25، حاشية الدسوقي 4/80، حاشية الصاوي 6/158. 159، شرح مختصر خليل 7/84، مواهب الجليل 7/636، 637.
(7) انظر الانصاف 7/15، والفروع 7/335، والكافي2/250، والمبدع 5/241، وشرح منتهى الارادات 2/402، وكشاف القناع 4/274، ومطالب أولي النهى 4/285.
(8) رواه احمد في المسند 2/353 برقم 7413، و النسائي في السنن الكبرى 2/34 برقم 2314، وأبو داود في سننه 2/59 برقم 1693، وحسنه الألباني (انظر صحيح سنن أبي داود 4/191، صحيح وضعيف النسائي 6/179، إرواء الغليل 1/172).
(9) فتح القدير 14/114.
(10) انظر نصب الراية 3/479، والدراية في تخريج أحاديث الهداية 2/146، وفِي مُصَنَّفِ ابْنِ أَبِي شَيْبَةَ: حَدَّثَنَا ابْنُ عُيَيْنَةَ عَنْ ابْنِ طَاوُسٍ عَنْ أَبِيهِ (( قَالَ: أَلَمْ تَرَ أَنَّ حُجْرًا الْمَدْرِيَّ أَخْبَرَنِي قَالَ: إنَّ فِي صَدَقَةِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَأْكُلُ مِنْهَا أَهْلُهَا بِالْمَعْرُوفِ غَيْرِ الْمُنْكَرِ))، انظر مصنف بن أبي شيبة 6/253 برقم 21335 وبرقم 37267.
(11) انظر فتح القدير 14/114.
(12) فتح القدير 14/117.
(13) حديث بئر رومة صحيح، انظر البخاري 8/439 وغيره.
(14) راجع في ذلك نيل الأوطار 6/92.
(15) أخرجه البخاري في الجامع الصحيح 4/1472 برقم 3784 وغيره.
(16) لنظر فتح القدير 14/115.
(17) انظر واحمد في المسند 4/177، والنسائي في السنن الكبرى 5/376، و الحديث بهذا اللفظ صححه الألباني في السلسة الصحيحة 1/814 وصحيح الترغيب والترهيب2/201، وصحيح الادب المفرد1/37.
(18) انظر صحيح مسلم 3/78.
(19) انظر فتح القدير 14/114.
(20) انظر المغني 6/215، و الكافي 2/250.
(21) أنظر المغني 6/215، و المبدع 5/241.
(22) انظر مغني المحتاج 2/380.
(23) انظر في ذلك مغني المحتاج 2/308 و الكافي 2/250 المبدع 5/241.
(24) ذكره ابن القيم في إعلام الموقعين 3/373.
(25) انظر فتح القدير 14/114، وانظر في ذلك أيضاً حاشية الدسوقي 4/80، و حاشية الصاوي 9/158، ومواهب الجليل 7/637.
صلاح بن خميس الغامدي