أين الإنسان؟!
فليعلم من باع أخلاقه مقابل دراهم معدودة أن الذي حقق له أحلامه هو الله تعالى فينبغي له الشكر على تلك المنة، والشكر لا يكون باللسان فقط بل لابد من ترجمته ترجمة عملية بمواقف التصدي للنفس وتوبيخها عندما يجد حب المال قد يسيطر عليها ويدمر قيمتها، فما قيمة النجاح إذا لم يكن ممزوجاً بالعطاء والإحسان؟!
- التصنيفات: تزكية النفس - محاسن الأخلاق -
تتجدّد أحلامنا في الدنيا بين الحين والآخر وقد يصل البعض لتحقيق بعض طموحاته، فتحصل سعادته بتحقيق الحلم الذي دوماً ما تمناه.
وتوجد صور ونماذج مختلفة قد حقّقت أهدافاً ونجاحاً في مجالاتها، لكنها بمجرد الوصول لذلك النجاح نجد البعض منهم يتأثّر تأثيراً سلبياً تدريجياً بعد ذلك النجاح خاصة عندما يكون نجاحه سبباً في الرزق والمال الوفير.
فلا أدري هل غيرهم بريق تلك الأموال وألقها فأنستهم وأغفلتهم عن جوهر أمنياتهم من مهنتهم التي ثابروا وكافحوا من أجل الوصول إليها، أم أنهم قاسوا في بداية طفولتهم وحياتهم نوعاً من الفقر والحرمان فبعد أن دخلت عليهم الدنيا بمفاتيحها جعلتهم يخافون على كل كسب يحصلون عليه فيتخلون تدريجياً عن مبادئهم ويحطمون إنسانيتهم مقابل الحصول على أكبر قدر من تلك الأموال التي بدأت تنهمر عليهم من وراء ذلك النجاح ولنُعطي أمثلةً من مشاهد حقيقية.
نعلم أن مهنة الطبيب من أهم المهن التي تبدو فيها معاني الإنسانية والأخلاق، وذلك قد يكون واضحاً في معالجة الطبيب المرضى من الأطفال والشيوخ والشباب فيشعر بالسعادة عندما تقف صرخات وآهات هؤلاء المرضى وتتبدل بالهدوء والسكينة أحوالهم.. ما أجمل تلك الأحاسيس إذا كانت هي الهدف الرئيس الأول لتلك المهنة!
لكن للأسف تجد بعض الأطباء بعد بداية التخرج يقومون بتقليل قيمة "الكشف"، ثم بعد أن يعرفه الناس ويصبح طبيباً مشهوراً ويبدأ في الصعود تتغير نظرته للمال فتصير نظرة عجيبة خالية من المعاني الإنسانية والأخلاقية، وكلما زاد نجاحه وتكدس المرضي بعيادته تبدأ المرحلة الثانية وهي مرحلة الاستنزاف وإرهاق المرضى وذويهم من زيادة دفع التكاليف العلاجية..!
فالمريض الذي معه المال الكثير هو الذي يستطيع الدخول عنده، أما من عنده أكثر فذلك هو الكشف المستعجل، الذي يكسر طابور المرضى فبأمواله يصير في أول الطابور بعد أن كان هو آخر الطابور، أما المريض المسكين الذي عجز عن تجهيز ذلك المبلغ فلا كشف ولارعاية، وقد يتركونه في الأروقة تعلو صرخاته ولايجد مُجيباً... ولا حول ولا قوة إلا بالله!
قد تتحجج تلك النوعية منهم أن الذي دفعهم لذلك كثرة الضغوط ومطالب الحياة.. لكن الحياة كيف تكون عندما نفتقد إنسانيتنا، أخلاقنا ومبادئنا، نحن لا نرغب في الطبيب الكفء الناجح فقط لكننا نرغب ونريد أكثر "الطبيب الإنسان" الذي يتقي الله، ويقدم مبادئه وخلقه على كسبه الزائل الفاني.
وكذلك في مجال المهندسين، فبعض المعماريين رغم تفوقهم ونجاحهم ينسون دورهم الإنساني في إعطاء المبنى الذي تعهّد به حقه في العناية الكافية بل يتركه لبعض المقاولين دون متابعة..
فيترك من يختلس من مواد البناء ومن يُعلي في البناء دون دعامات كافية ثم يمتلئ المبنى بالأرواح وسرعان ما يتهدم فوق رؤوسهم، المهم عنده ما يكسبه من مال، وما حصله من مكانه، ولا مبالاة بالمفقودين. إنه مشهد بائس خسيس، نربأ بأبنائنا أبناء أمتنا الإسلامية أن يُقلِّدوه أو يتشبهوا به، إننا لا نريد المهندس الناجح الماهر فقط؛ لكننا نريد المهندس الإنسان التقي، الذي يحب لغيره ما يحبه لنفس.
وهكذا المعلم الذي كان دوره من أهم أدوار تربية النشء وإعداد الأجيال والرجال ليصبحوا درعاً للأمة..
فالمرض يظهر بمجرد شهرتهم ونجاحهم واغترارهم ببريق المال المنصب عليهم من استنزاف أهالي الطلاب، حيث يقصِّرون تقصيراً كبيراً في دورهم التعليمي في المدرسة بهدف جلب الطلاب إلى دروسهم الخصوصية، فإما درس خاص مفرد باهظ التكاليف، أو يجمعون الأعداد المتكدسة من الطلبة في حجرة واحدة فيتم الشرح جملة واحدة، بغير مبالاة بمن تفهّم وبمن لم يتفهّم، بل صار في بلادنا شرح المعلم عن طريق الميكروفون أو شاشة العرض، ومن تأخّر عن دفع المال في موعده طرد طرداً مهيناً، ومن استطاع أن يُضاعف الدفع استطاع أن يُكرّر الدرس ليتفهمه فخرجت لنا أجيال ترى معلمها عبداً للدرهم والدينار، خالياً من المبادىء والقِيّم الإيمانية، نعم قد صار معلماً ماهراً.. لكن أين المعلم الإنسان؟! الذي يجعل عمله لله سبحانه، فيرجو منه نشر الفضيلة ورفعة الأجيال.
حتى المهنيين تجد الكثير منهم لايتقن عمله، وعند استدعائه لإصلاح أي تلف من أجهزة أو أثاث أو غيره لابد أن تتواجد معه وتلازمه حتى يتقن ما تريد منه، وربما أعطاك أكثر من ميعاد لإتمامه وأخلفه، وربما ترك لك العيب بغير إصلاح، أو ربما عاد العيب فور خروجه!! إنما لهفتهم فتكون على المال، فيبدو الجشع في الطلب، وتبدو المغالات في الأثمان، مع ضعف الصنعة وقلة الإتقان، نَسِيَ هؤلاء حديث رسولهم صلى الله عليه وسلم: «إن الله يحب إذا عمل أحدكم عملا فليتقنه» (أخرجه أبو يعلى والطبراني، وقد صحّحه الألباني في الصحيحة).
إننا نخشى من كثرة ما نراه من تغيرات حولنا أن تنقرض المعاني الإنسانية الإيمانية التي أمر بها الإسلام العظيم، إذ لم يترك تلك الثغرات والمثالب حتى تحدث في ضوابط تلافيها، فقد جعل الرحمة مبدأ، والقناعة مبدأ، والشفقة مبدأ، وحب نفع الناس مبدأ، والرفق بالمرضى مبدأ، وأمر بكل ذلك كنوع من الأخلاق الإسلامية التي ما هي إلا مبادئ وقواعد منظمة للسلوك الإنساني.
إن تلك المعاني التي نبحث عنها والتي هي متبلورة في خلق الإسلام وسلوكه قد طُبِّقت أحسن تطبيق من كثيرين يفهمون معنى القِيَم، ويراقبون ربهم من فوقهم في كل وقت.
إن جمعاً عبقرياً قد تم في أخلاق الإسلام يُسمّى الإحسان، قد كتبه الله على كل شىء، يجعل المتخلق به يتصف بالرحمة والإتقان والشفقة والقناعة والرضا والحرص على نفع الآخر وخدمته وغير ذلك من الأخلاق، كله في سلوك واحد مشترك.
إنها صورة وليدة من إنسانية الإسلام ذاته الذي علّمنا الإحسان في كل شىء حتى مع الذبيحة حين نذبحها وأعطى لنا بعض الضوابط عند ذبحها بأن نحدّ الشفرة ونريح الذبيحة.
وحتى بين الدائن والمدين عندما يصعب على صاحب الدين السداد فنظرة إلى ميسرة..
وعبر المواقف المذهلة الأخرى في الإخاء بين المؤمنين بعد الهجرة إذ آخى النبي صلى الله عليه وسلم بينهم وبين أهل المدينة فظهرت حين ذاك أخلاق مشهودة من رعاية معاني الرحمة والعطاء الإنساني الإيماني الرحيب..
وانظر إلى رعاية الجار بالجار حينما أمره الإسلام إذا صنع مرقاً أن يُكثِر ذلك المرق حتى يعطي لجاره جزءاً منه لأن رائحة المرق تفوح عند طهيه فتصل إلى أطفالهم، هل يوجد لإسلامنا مثيل؟! فعَنْ جَابِرٍ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِذَا طَبَخَ أَحَدُكُمْ قِدْرًا فَلْيُكْثِرْ مَرَقَهَا، ثُمَّ لَيُنَاوِلْ جَارَهُ مِنْهَا» (أخرجه أحمد).
فليعلم من باع أخلاقه مقابل دراهم معدودة أن الذي حقق له أحلامه هو الله تعالى فينبغي له الشكر على تلك المنة، والشكر لا يكون باللسان فقط بل لابد من ترجمته ترجمة عملية بمواقف التصدي للنفس وتوبيخها عندما يجد حب المال قد يسيطر عليها ويدمر قيمتها، فما قيمة النجاح إذا لم يكن ممزوجاً بالعطاء والإحسان؟!
أميمة الجابر