توبة فتاة كانت لا تصلي
إن الناس في هذه الحياة كلهم بلا استثناء يطلبون السعادة وينشدونها، لكن البعض منهم من يسلك الطريق فيجدها، ومنهم من يضل الطريق فلا يوفق إليها، وهذا يحتاج إلى من يدله إلى سلوك هذه الطريق ليجد السعادة فيها.
إن الناس في هذه الحياة كلهم بلا استثناء يطلبون السعادة وينشدونها، لكن البعض منهم من يسلك الطريق فيجدها، ومنهم من يضل الطريق فلا يوفق إليها، وهذا يحتاج إلى من يدله إلى سلوك هذه الطريق ليجد السعادة فيها.
فإلى كل من يطلب السعادة أقول: إن السعادة الحقيقية هي في طاعة الله تبارك وتعالى، والمحافظة على أوامره تعالى، قال الله تبارك وتعالى: {مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِّن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُم بِأَحْسَنِ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ} [النحل: 97]، وإن الذي يعيش في هذه الحياة بعيداً عن طاعة الله تبارك وتعالى، يتمتع في الشهوات فهو في شقاء وتعاسة، قال الله تبارك وتعالى: {وَمَنْ أَعْرَضَ عَن ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى} [طه: 124]، ولأخذ العبرة من قصص بعض التائبين، نذكر قصة فتاة كانت غارقة في الشهوات، أعرضت عن عبادة الله وتكاسلت عن الصلاة، رغم تذكير أختها لها بالله تبارك وتعالى ونصحها لها، ثم شاء الله تبارك وتعالى لها الهداية لتجد السعادة والراحة والطمأنينة في حياة الطاعة والالتزام.
وبدون مقدمات أترككم مع صاحبة القصة تروي قصتها بنفسها فتقول:
"بدت أختي شاحبة الوجه، نحيلة الجسم، لكنها كعادتها تقرأ القرآن الكريم، تبحث عن أختها تجدها في مصلاها، راكعة، ساجدة، رافعه يديها إلى السماء، هكذا حالها صباحاً ومساءً، وفي جوف الليل لا تفتر، ولا تمل، تقول عن نفسها: كنت أحرص على قراءة المجلات الفنية، والكتب ذات الطابع القصصي، أُشاهد الفيديو، والتلفاز بكثرة لدرجة أنني عُرفت به، ومَنْ أكثر من شيء عُرف به، لا أؤدي واجباتي كاملة، ولست منضبطة في صلواتي، بعد ثلاث ساعات متواصلة -تقول الفتاة- أغلقت التلفاز، وها هو الآذان يرتفع من المسجد المجاور، عدت إلى فراشي، فإذا بأختي تناديني من مصلاها، قلت: نعم ماذا تريدين يا نورا؟!
قالت لي بنبرة حادة: لا تنامي قبل أن تصلي الفجر.
قلت: أوووه، باقي ساعة على صلاة الفجر، والذي سمعتيه كان الآذان الأول.
نادتني بنبرة حنونة: هكذا هي حتى قبل أن يصيبها المرض الخبيث، وتسقط طريحة الفراش..
قالت: تعالي بجانبي يا هناء، وكنت لا أستطيع إطلاقاً رد طلبها، كم تشعر بصفائها وصدقها.
قلت لها: ماذا تريدين؟ قالت: اجلسي. قلت: ها قد جلست، ماذا لديك؟
فقرأت بصوت عذب رخيم: أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: {كُلُّ نَفْسٍ ذَآئِقَةُ الْمَوْتِ وَإِنَّمَا تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَمَن زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ وَما الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلاَّ مَتَاعُ الْغُرُورِ} [آل عمران: 185]، سكتت برهة، ثم سألتني: ألم تؤمني بالموت؟! قلت: بلى، ولكن الله غفور رحيم.
قالت: ألم تؤمني بأنك ستحاسبين على كل صغيرة وكبيرة؟! قلت: بلى، ولكن الله غفور رحيم، والعمر طويل.
قالت: ألا تخافين أخية من الموت بغتة؟! أليست هند أصغر منك وقد توفيت في حادث سيارة، وفلانة، وفلانة..
أخية الموت لا يعرف عمراً، وليس له مقياس، أجمع أهل العلم على أنَّ الموت ليس له سبب معين، ولا وقت معين، يأتي {بَغْتَةً وَهُمْ لاَ يَشْعُرُونَ} [الشعراء: 202].
أجبتها: إني أخاف من الظلام، ولقد أخفتيني من الموت، كيف أنام الآن؟! كنت أظن أنك ستقولين أنك وافقت على السفر معنا في هذه الإجازة، فقالت بصوت متحشرج اهتزَّ له قلبي: لعلي هذه السنة أسافر سفراً بعيداً، أسافر إلى مكان آخر! ربما يا هناء.. سكتت ثم قالت: الأعمار بيد الله، وأخذنا نبكي سوياً، تفكرت في مرضها الخبيث، وأنَّ الأطباء أخبروا أبي سراً أنَّ المرض ربما لن يمهلها طويلاً، ولكن من أخبرها بذلك، أم أنها تتوقع هذا الشيء.
قالت لي: ما لك تفكرين، هل تعتقدين أنني أقول هذا لأنني مريضه! كلا، ربما أكون أطول عمراً من الأصحاء، فرُبَّ صحيح مات بغير علة ورُبَّ سقيم عاش حيناً من الدهر، وأنت! وأنت إلى متى ستعيشين؟! ربما عشرين سنه، ربما أكثر، ثم ماذا؟! لا فرق بيننا، الكل سيرحل، وسنغادر هذه الدنيا، إما إلى جنة، أو إلى نار، ألم تسمعي قول الواحد القهار: {فَمَن زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ} [آل عمران: 185]، تصبحين على خير، هرولت مسرعة وصوتها يطرق أذني: هداك الله، لا تنسي الصلاة..
في الثامنة صباحاً أسمع طرقاً على الباب، هذا ليس موعد استيقاظي! أسمع صوت بكاء، وأصوات، يا إلهي ماذا جرى؟! قالوا لي: لقد تردت حالة نورا، وذهب بها أبي إلى المستشفى، قلت: إنا لله وإنا إليه راجعون لا سفر هذه السنة، مكتوب علينا البقاء هذه السنة في بيتنا بعد انتظار طويل! في الواحدة ظهراً هاتفنا أبي من المستشفى قائلاً: تستطيعون زيارتها الآن هيا بسرعة، انطلقنا إلى المستشفى، وأمي تدعو لها، إنها بنت صالحة، مطيعة لم أرها تضيع وقتها أبداً، دخلنا المستشفى، مناظر عجيبة، هذا يتأوه، وهذا يتألم، وهذا يصيح، وثالث لا تدري.. هل هو من أهل الدنيا أم من أهل الآخرة؟!
لا يعرف قيمة الصحة إلا من فقدها! صعدنا درجات السلم، كانت في غرفة العناية المركزة، أخبرتنا الممرضة أنها في تحسن بعد الغيبوبة التي حصلت لها، لم يسمحوا إلا بدخول شخص واحد فقط، دخلت أمي، ووقفت أنظر من نافذة الغرفة الصغيرة، وأنا أرى عينيها وهي تنظر إلى أمي واقفة بجوارها، خرجت أمي، لم تستطع إخفاء دموعها، سمحوا لي بالدخول والسلام عليها على أن لا أمكث طويلاً فحالتها لا تسمح، دخلت، قلت: كيف حالك يا نورا؟! لقد كنت بخير مساء البارحة، ماذا جرى لك؟!
أجابتني بعد أن ضغطت على يدي: وأنا الآن ولله الحمد بخير، قلت: الحمد لله، لكن يدك باردة!
وكنت جالسة على حافة السرير، ولامست يدي ساقها، فأبعدت يدي.. قلت لها: آسفة إذ ضايقتك..
قالت: كلا ولكني تفكرت في قوله تعالى: {وَالْتَفَّتِ السَّاقُ بِالسَّاقِ . إِلَى رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ الْمَسَاقُ} [القيامة: 29-30]، قالت: عليك يا هناء بالدعاء لي، فربما أستقبل عن قريب أول أيام الآخر.
سفري بعيد وزادي لن يبلغني *** وقوتي ضعفت والموت يطلبني
ولي بقايا ذنوب لست أعلمها *** الله يعلمها في السر والعلن
سقطت دمعه من عيني بعد أن سمعت ما قالت وبكيت، لم أعي أين أنا، استمرت عيناي في البكاء، أصبح أبي خائفاً علي أكثر من نورا، لم يتعودوا مني هذا البكاء والانطواء في غرفتي، مع غروب شمس ذلك اليوم الحزين ساد صمت طويل في بيتنا، دخلت علي ابنة خالتي، ثم ابنة عمتي أحداث سريعة متتالية، كثر القادمون، اختلطت الأصوات، شيء واحد عرفته، نورا ماتت، نورا ماتت! لم أعد أميز من جاء، ولا أعرف ماذا قالوا يالله، أين أنا؟! وماذا يجري؟!
عجزت حتى عن البكاء، أخبروني فيما بعد أن أبي أخذ بيدي لوداع أختي الوداع الأخير، وأني قبّلتها، ثم لم أعد أتذكر إلا شيئاً واحداً، حين نظرت إليها ممدده على فراش الموت، تذكرت قولها وهي تقرأ قوله تعالى: {وَالْتَفَّتِ السَّاقُ بِالسَّاقِ} عرفت عندها الحقيقة! عرفت عندها الحقيقة، {إِلَى رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ الْمَسَاقُ}، في تلك الليلة ذهبت إلى مصلاها المظلم، وجلست فيه، تذكرت من قاسمتني رحم أمي، فنحن توأمين، تذكرت، من شاركتني همومي، تذكرت من نفَّست عني كربتي، تذكرت تلك التي كانت تدعو لي بالهداية، كم ذرفت من الدموع في ليالٍ طويلة وهي تحدثني عن الموت، والحساب، والله المستعان" [1].
ثم ندمت على تفريطها في الصلاة، وبكت كثيراً على أيامها التي أضاعتها، وفرطت فيها، ويمكن لنا أن نقف في هذه القصة على جملة فوائد فمنها:
الفائدة الأولى:
أخذ العبرة: هي أن هذه القصص التي تذكر ليس الغرض منها مجرد العرض والتفكه بتلك الحكايات، ولكن الغرض الكبير هو كما قال الله تبارك وتعالى: {لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِّأُوْلِي الأَلْبَابِ} [يوسف: 111]، أي: عبرة وعضة لأهل العقول والبصائر، وأخذ العبرة من هذه القصة بأن الإنسان قد يعيش في غفلة وهو لا يشعر بذلك، فيحتاج إلى من يذكره بالله العظيم، يخوفه بعقاب الله، ويمكن للمحتسبة أن تسلك ما سلكته هذه المرأة الصالحة بنصح أقاربها، وممن تخالطهم، يمكن لها إن كانت مدرسة أن تحتسب في المدرسة بتذكير الطالبات بالله تبارك وتعالى، وتُرغبهم في طاعته، وتخوفهم من عذابه، وتحتسب على كل منكر رأته بحكمة وبصيرة وأسلوب حسن.
الفائدة الثانية:
التذكير بالموت: وذلك أخذاً من قولها: ألا تخافين أخية من الموت بغتة؟! أليست هند أصغر منك وقد توفيت في حادث سيارة، وفلانة، وفلانة، أخية الموت لا يعرف عمراً، فبتذكير الإنسان مصيره الذي ينتظره الذي أخبر الله تبارك وتعالى عنه في القرآن، وأنه مصير كل كائن فقال: {كُلُّ نَفْسٍ ذَآئِقَةُ الْمَوْتِ وَإِنَّمَا تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَمَن زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ وَما الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلاَّ مَتَاعُ الْغُرُورِ} [آل عمران: 185]، فما قيمة الدنيا وهي فانية، وهي دار الغرور، دار اللهو واللعب، وإن الحياة الحقيقية هي في الآخرة حين يزحزح العبد من النار ويدخل الجنة.
الفائدة الثالثة:
أهمية الصلاة: الصلاة هي الركن الثاني من أركان الإسلام وهي الصلة بين العبد وربه تبارك وتعالى، هي الفرقان بين أهل الإيمان وأهل الكفر، هي أول ما يحاسب عليها العبد يوم القيامة، فعلى كل مسلم ومسلمة رأى من يقصر في أمرها ويتهاون بها أن يزجره وينهاه ويخوفه بعذاب مولاه، فإن عذابه شديد، قال رب العزة والجلال: {إِنَّ بَطْشَ رَبِّكَ لَشَدِيدٌ} [البروج: 12]، وقال: {وَكَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ الْقُرَى وَهِيَ ظَالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ} [هود: 102].
فلا تغتر أو تغتري بالصحة والعافية التي وهبكم ربكم جل وعلا، فتتمادوا في الطغيان، فإن أحدكم لا يدري متى سيأتيه مصيره الذي يتمنى أن يرد إلى هذه الحياة ليزداد فيها من الطاعات.
الفائدة الرابعة:
أن الله تبارك وتعالى يوفق ويثبت من كان من أهل الاستقامة عند الموت: وذلك أن الله تبارك وتعالى وفق هذه الأخت التي كانت عابدة لله جل وعلا عند الممات.
الفائدة الخامسة:
التحلي بالرفق واللين: وذلك لأن الرفق لا يكون في شيء إلا زانة ولا ينزع من شيء إلا شانه، الكلمة إذا كانت طيبة وبأسلوب حسن فإن أثرها على نفس المدعو عظيم، وقبولها أدعى، فما أحوج الدعاة -ذكوراً وإناثاً- إلى قول الكلمة الطيبة وخفض الجناح للمدعو حتى يكون سريع الإجابة.
أسأل الله تبارك وتعالى أن يوفقنا والدعاة والمصلحين لكل خير وفلاح، وأن يرزقنا وإياهم الأسلوب الحسن في الدعوة إلى الله، وأن يهدينا ويهدي بنا، وأن يهدي ضال المسلمين ويتوب عليهم، والحمد لله رب العالمين.
_____________
[1] انظر كتيب بعنوان الزمن القادم، للشيخ عبد الملك القاسم.
محمد بن عبد الله العبدلي
- التصنيف:
- المصدر: