صفات معلم حلق المساجد

منذ 2013-05-23

وميدان الحِكمة واسع فسيح، ولكنَّنا نُشير إلى أهمِّ حقائق الحكمة التي ينبغي تحقُّقها في تصرُّفاته وسلوكه، فمن الحِكمة بُعْد النظر، واتِّزان المواقف، وضبْط النفس، فلا يجمح به الهوى، ولا يستفزُّه الغضب، ولا يخرج عن العدل والإنصاف، والدفع بالتي هي أحسن، والحِلم وحِفظ اللسان...

 

تمهيد:
أشار القرآن الكريم إلى دور المعلِّمين من الأنبياء وأتْباعهم، وإلى أنَّ وظيفتهم الأساسية دراسة العلم الإلهي وتعليمه، وذلك في قوله تعالى: {مَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُؤْتِيَهُ اللَّهُ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ ثُمَّ يَقُولَ لِلنَّاسِ كُونُوا عِبَادًا لِي مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلَكِنْ كُونُوا رَبَّانِيِّينَ بِمَا كُنْتُمْ تُعَلِّمُونَ الْكِتَابَ وَبِمَا كُنْتُمْ تَدْرُسُونَ} [آل عمران:79].

وأشار جلّ جلاله إلى أنَّ من أهمِّ وظائف الرسول صلَّى الله عليه وسلَّم تعليم الناس الكتابَ والحِكمة، وتزكية الناس؛ أي: تنمية نفوسهم وتطهيرها بقوله تعالى: {رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} [البقرة:129].

وقد بلَغ من شرف مهنة التعليم أنْ جعَلها الله من جملة المهمَّات التي كلَّف بها رسوله صلَّى الله عليه وسلَّم قال تعالى: {لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ} [آل عمران:164].

ومهنة التعليم من أفضل القُربات وأشرف الأعمال؛ فقد روى الترمذي بإسناد صحيح عن أبي أُمامة رضي الله عنه: «إنَّ الله وملائكته، وأهل السموات والأرَضِين، حتى النملة في جُحْرها، وحتى الحوت، ليصلون على معلِّم الناس الخيرَ»؛ أي إنَّ المعلم حين يكون مشغولاً بمهمَّته الجليلة، تكون الكائنات المبرَّأة من الذنوب مشغولة بالاستغفار والدعاء له.

وظائف المعلِّم:
من خلال ما سبَق يتَّضح لنا أنَّ للمعلم وظائفَ أهمها:

التزكية؛ أي: التنمية والتطهير والسمو بالنفس إلى بارئها، وإبعادها عن الشرِّ، والمحافظة على فِطرتها.

التعليم؛ أي: نقْل المعلومات والعقائد إلى عقول المؤمنين وقلوبهم؛ ليطبِّقوها في سلوكهم وحياتهم.

صفات المعلِّم وشروطه:

الصفة الأولى:

أن يكون هدفُه وسلوكه وتفكيره ربَّانيًّا؛ كما مرَّ في الآية: {وَلَكِنْ كُونُوا رَبَّانِيِّينَ} [آل عمران:79]؛ أي: تنتسبون إلى الربِّ جل جلالُه بطاعتكم إيَّاه، وعبوديَّتكم له، واتِّباعكم لشريعته، ومعرفتكم لصفاته، وإذا كان المعلِّم ربَّانيًّا، استهدَف من كلِّ أعماله التعليميَّة ودروسه أن يجعلَ طلاَّبه أيضًا ربَّانيِّين، يرون آثار عَظَمة الله، ويستدلون عليها في كلِّ ما يدرسون، ويخشعون لله، ويشعرون بإجلاله وعَظَمته عند كلِّ عبرة، وعند كلِّ نظرة في الكون.


الصفة الثانية:

أن يكون مخلصًا، وهذا تمام صفة الربَّانيَّة وكمالها؛ أي: لا يقصد بعمله هذا وَسَعة علْمه واطِّلاعه إلاَّ مَرْضاة الله، والوصول إلى الحق، وإحقاق الحقِّ؛ أي: نشْره في عقول الناشئين وجعْلهم أتباعًا له، فإذا زال الإخلاص حلَّ محلَّه التحاسُد بين المعلمين، فيُصبح كلٌّ منهم متعصِّبًا لرايته وطريقته، ويسود الغرور والأثرة عوضًا عن التواضُع للحقِّ وعن الإيثار، إيثار الحقِّ عن الهوى، ولا يكتفي المعلِّم بأن يُلقي درْسه دون أن يؤدِّي الغرض المطلوب، فالإخلاص معناه أن ينبعثَ الهدف من أعماق النفس عن قناعة، وأن يَصبر المعلِّم على تحقيقه وبلوغه، وأن يقصد بتعليمه وجْه الله تعالى لا يريد ممن علَّمه جزاءً ولا شكورًا، بل يشعر بمنَّة الله عليه أن سخَّره لخدمة العلم وأهله؛ {وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ وَكَانَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ عَظِيمًا} [النساء:113].


الصفة الثالثة:

طهارة الظاهر والباطن، ومراقبة الله في السرِّ والعلن: فعلى المعلِّم أنْ يلتزمَ بمحاسن الأخلاق الظاهرة والباطنة، فهي التي تقوِّي علاقاته بطلاَّبه وزُملائه ورُؤسائه.

ومن الأخلاق السيِّئة التي يجب على المعلِّم أن يتطهَّر منها:
1- الكبر.
2- الرِّياء.
3- العجب.
4- حب السمعة والطمع.
5- التنافس الدنيوي.
6- المباهاة بالدنيويات.
7- التزيُّن للناس "المُرَاءاة".
8- المداهنة.
9- حب المدح بما لَم يفعل.
10- العصبية لغير الله.
11- الرهبة والرغبة لغير الله من أجْل مال أو غيره.
12- الغيبة والنميمة.
13- نقل الحديث.
14- الكذب.
15- الفُحش في القول، واحتقار الآخرين.
16- العمى عن عيوب النفس.
17- الغفلة عن الله واليوم الآخر.

لذلك يجب على المعلِّم الإكثار من ذِكر الله، وتلاوة القرآن الكريم، وأداء النوافل، وتذكُّر الموت واليوم الآخر وما فيه من أهوال، ويشعر دائمًا أنَّ الله مطَّلع عليه، ويعلم ما في نفسه، ويُحصي عليه أعماله وأقوالَه، وغير ذلك مما يجعل المعلم يستحيي من الله ويخشاه، ويراقبه في السرِّ والعَلن، فالخشية ضابط داخلي فعَّال، يجعل المعلم قائمًا برسالته على أفضْل وجْهٍ دون رقيب أو موجِّه.

الصفة الرابعة:

الشعور بمسؤوليَّة العلم أمام الله عزَّ وجلَّ لحديث: «لن تزول قَدَما عبدٍ يوم القيامة، حتى يُسأل عن أربع»، وفيه: «وعن عِلْمه ماذا عَمِل به؟»، وهذه المسؤوليَّة ذات جوانب عدة، منها:

1- مسؤوليَّته عن صيانته وحِفظه حتى يبقى.

2- عن تعميقه وتحقيقه حتى يرْقَى.

3- عن العمل به حتى يُثمر.

4- عن تعليمه لِمَن يَطلبه حتى يزكو.

5- عن بثِّه ونشْره حتى يعمَّ نفعه.

6- عن إعداد مَن يَرِثه ويحمله؛ حتى يدوم باتِّصال حلقاته.

الصفة الخامسة:

أن يكون قدوة حسنة لطلاَّبه: فمِن أعْظم وأهم آداب المعلم أن يكون صادقًا فيما يدعو إليه طلاَّبه، فيعمل بعلْمه، ويأْتمر بما يأمر به، ذلك لأنه قدوة الطلاب، فعليه أن يستشعرَ ذلك دائمًا، وأن يحسَّ طلابه أنه قُدوة حَسَنة لهم في كلِّ قول أو عمل، أو حركة أو تصرُّف، أمَّا إذا خالَف عمله ما يدعو إليه، فإنَّ طلابه يشعرون بعدم عزْمه على تحقيق ما يقول، أو بعدم إيمانه بما يقول، أو بعدم جِدِّيَّة أقواله، وقد ندَّد الله بِمَن لَم يعمل بعلْمه بقوله سبحانه وتعالى: {أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ وَأَنْتُمْ تَتْلُونَ الْكِتَابَ أَفَلَا تَعْقِلُونَ} [البقرة:44]، وقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لَا تَفْعَلُونَ . كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لَا تَفْعَلُونَ}  [الصف:2-3].

وحكى الله عن شعيب  عليه السلام قوله: {وَمَا أُرِيدُ أَنْ أُخَالِفَكُمْ إِلَى مَا أَنْهَاكُمْ عَنْهُ} [هود:88].

وضرَب الله أسوأ الأمثال لِمَن لا يعمل بعلْمه ولا ينتفع به، فقال: {مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْرَاةَ ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوهَا كَمَثَلِ الْحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَارًا بِئْسَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِ اللَّهِ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ} [الجمعة:5].

وفي الحديث الذي مرَّ آنفًا: «لن تزول قَدَما عبدٍ يوم القيامة، حتى يُسأل عن أربع»، وفيه: «وعن علْمه ماذا عَمِل به؟»، وكذلك الذي يُلْقى في نار جهنَّم، فتَنْدَلق أقتاب بطْنِه -أي أمعاؤه- فيدور بها كما يدور الحمار حول الرَّحى، واجتماع أهل النار حوله، وسؤالهم له، وجوابه عليهم، يدل على خُطورة موقف الذي لا يعمل بعلْمه، وقديمًا قال الشاعر:

 

وَغَيْرُ تَقِيٍّ يَأْمُرُ النَّاسَ بِالتُّقَى *** طَبِيبٌ يُدَاوِي النَّاسَ وَهْوَ سَقِيمُ

 

وقال بعض السلف: "العلم يهتف بالعمل، فإنْ أجابَه وإلاَّ ارْتَحل"، فبركة العلم وثَمرته العمل به، ولن يكون الانتفاع منه بغير ذلك.

الصفة السادسة:

أن يكون متحلِّيًا بالحِكمة في شخصيَّته وسلوكه، وتصرُّفاته ومواقفه، والحِكمة من مهام البعثة المحمدية؛ قال تعالى: {وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ} [البقرة:129].

وهي خير ما يؤتي عباده من الفضْل والتوفيق؛ قال تعالى: {يُؤْتِي الْحِكْمَةَ مَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْرًا كَثِيرًا} [البقرة:269].

وميدان الحِكمة واسع فسيح، ولكنَّنا نُشير إلى أهمِّ حقائق الحكمة التي ينبغي تحقُّقها في تصرُّفاته وسلوكه، فمن الحِكمة بُعْد النظر، واتِّزان المواقف، وضبْط النفس، فلا يجمح به الهوى، ولا يستفزُّه الغضب، ولا يخرج عن العدل والإنصاف، والدفع بالتي هي أحسن، والحِلم وحِفظ اللسان.

ومِن الحِكمة التربية بالحال والسلوك قبل المقال، والاستغناء بالإشارة عن العبارة، وبالتلميح عن التصريح، ما أمكن ذلك. ومن الحكمة إيثار الأرْفق والأيسر ما لَم يكن إثمًا، والتغاضي ما أمكن ذلك بلا تفريط. ومن الحِكمة مراعاة الضَّعف البشري، وتقدير تقلُّبات النفس بين القوَّة والضَّعف، والصحة النفسيَّة والمرض، والمطالبة بالقدر الوسط الذي يناسب الأكثريَّة والواقعيَّة، وعدم الجنوح إلى مثاليَّة غير معقولة. ومن الحكمة أن يعتمدَ المعلِّم الأسلوبَ غير المباشر في التربية والتوجيه، فيما يناسب ذلك. ومن الحكمة ربْط التعليم بالواقع، فكلما رُبِط بالواقع، تفاعَلت به النفس، وحُفِظ.

ومُجمل القول أنَّ العمل التربوي والجهاد التعليمي ليس الواحد منهما مجرَّد أوامر ونواهٍ، تصدرها جهة إلى جهة، كالأوامر العسكرية، لا خيار للجهة المتلقية عن الطاعة والانقياد، والالتزام والتنفيذ، إنه عمل يعتمد أولاً على غرْس المفاهيم والإقناع بها، والترغيب في التزامها، وبيان عاقبة ترْكها أو مُخالفتها، إنه بكلمة موجزة عمل يعتمد في نجاحه على قُدرة المعلم المربي على فتْح القلوب بإذن الله تعالى.

الصفة السابعة:

أن يكون واعيًا للمؤثرات والاتجاهات المحلية والعالميَّة، وما تتْركه في نفوس الجيل من أثرٍ على مُعتقداتهم، وأساليب تفكيرهم، فاهمًا لمشكلات الحياة، وعلاج الإسلام لها، مَرِنًا كيِّسًا، يستمع كلَّ اعتراضات الطلاب واستفساراتهم وشكوكهم، فيتتبَّع أسبابها، ويعالجها بحكمة ورَوِيَّة، والمعلم لا يَكفيه أن يعرف الخير فيدعو إليه، بل لا بدَّ له أن يطَّلع على ما بيَّته دُعاة الشرِّ والكفر من الكيْد لهذه الأُمَّة المؤمنة والعاملين على تحقيق أهداف الدعوة الإسلاميَّة؛ لأنه يتعامل مع نفوس معرَّضة للتأثُّر بالفِتن والأهواء، والتيارات السائدة في هذا العصر، وهي تيَّارات غير مؤمنة.

الصفة الثامنة:

المتابعة والتوجيه المستمر، والصبر والدَّأب، وعدم الملل والسآمة: إذ إنَّ التربية عمليَّة مستمرَّة متجدِّدة؛ لأنَّ النفس البشريَّة دائمة البشريَّة، دائمة التقلُّب، متعدِّدة المطالب، متشعِّبة الاتجاهات، فالتوجيه يحتاج إلى متابعة، والحالة الجديدة تحتاج إلى توجيه جديد، والتوجيه الجديد يحتاج إلى متابعة، ثم إن المعاني القديمة في التوجيه تحتاجُ إلى تذكيرٍ، وإعادة بحث وتأكيدٍ، وكلُّ عاقل يُدرك ذلك من نفسه، وقد قال تعالى: {وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرَى تَنْفَعُ الْمُؤْمِنِينَ} [الذاريات:55].

ومَن لَم يَفقه هذه الطبيعة في النفس البشريَّة، تُسارع إليه الملالة، ثم السأم، فالقنوط من التربية والإصلاح، ثم يتحوَّل عمله كحال الموظف بلا رُوح عنده، ولا تأثير لكلامه، ومن هنا جاء التوجيه القرآني: {وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلَاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا} [طه:132].

الصفة التاسعة:

عُلو الهِمَّة، حيث يفكِّر أفضل مما يفكِّر سواه، ويُدرك من أحوال مجتمعه ما لا يُدركه أواسط من الناس، وقد يكون طَلْق النفس، يحبُّ الطيِّبات من الحياة والرزق في غير تكلُّف، ويكون نشيطًا، دائمَ النمو نحو الأحسن في مجالَي العلم والعمل، يقتدي بأئمة المسلمين في عُلوِّ هِمَّتهم، واستغلالهم الدقيق للزمن (الوقت).

الصفة العاشرة: الفعالية الاجتماعيَّة، حيث يسعى في مصلحة الآخرين، ويشعر بمسؤوليَّة نحوهم، وليس أضر على المسلم من البُعد عن حركة الناس، فقد قال الرسول صلَّى الله عليه وسلَّم فيما أوْرَده البخاري في الأدب المفرد: «المؤمن الذي يُخالط الناس ويَصبر على أذاهم، خيرٌ من الذي لا يُخالط الناس ولا يَصبر على أذاهم»؛ كما روى أيضًا في الأدب المفرد وغيره عن أبي ذَرٍّ رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم: «تبسُّمك في وجْه أخيك صدقة لك، وأمْرك بالمعروف ونَهْيك عن المنكر صدقة لك، وإرشادك الرجل في أرض الضلالة لك صدقة، وبَصَرُك للرجل الرديء البصر لك صدقة، وإماطتك الحجرَ والشوكة والعَظْم من الطريق لك صدقة، وإفراغك من دَلْوك في دَلْو أخيك لك صدقة»؛ كما روى ابن أبي الدنيا بإسناد حسنٍ أن رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم قال: «أفضل الأعمال أن تُدْخل على أخيك المؤمن سرورًا، أو تقضي عنه دينًا، أو تُطعمه خُبزًا».

لذلك فعلى المعلِّم أن يُشارك في حياة الناس، وأنْ يسعى في قضاء حوائجهم، وأن يشارك طلاَّبه في بعض أكلْهم وشُربهم ولَعِبهم.

الصفة الحادية عشرة:

أن يُجيد طُرق التدريس، وأساليب التشويق والترغيب، والإقناع والتفهيم، وتوصيل المعلومات، وأساليب الترغيب والتشويق تتمثَّل في:
1- أن يرحِّب بالطلاب عند إقبالهم عليه.


2- أن يُظهر لهم البِشر وطلاقة الوجْه، ويُحسن إليهم بعلْمه وماله وجَاهه.

3- أن يتفقَّدهم ويسأل عمَّن غاب منهم، وأن يتعرَّف على ظروفهم النفسيَّة والاجتماعيَّة، وما يواجههم من عقبات ومشكلات، ومساعدتهم في حلِّها وتذليلها، وهذا يحتاج منه إلى فَراسة ودِقَّة ملاحظة وفِطنة ونَباهة، يلاحظ حركات الطلاب ويَرصد مواقفهم، ويَنتبه لتَكرار بعض المواقف والتصرُّفات منهم، فتَهمُّه ويسعى إلى اكتشاف أسبابها، ومعرفة ما وراءها، ويرى ذلك جزءًا من مسؤوليَّته ومهمَّته، فلا تكون علاقته معهم رسميَّة شكليَّة، جافَّة في كثيرٍ من الأحيان، ويقوم بأعمال رتيبة، ثم ينصرف ولَم يفكِّر يومًا في أن يتفقَّد أحوال طلاَّبه، أو أن يعرف ظروفهم وأوضاعَهم، ونتيجة لذلك فإنَّه قد يقع منه الظُّلم لبعضهم وسوء التفسير لمواقفهم.

4- أن يكونَ حريصًا على تعليمهم، مُهتمًّا بهم، مقدِّمًا لهم على حوائج نفسه ومصالحه ما لَم تكن ضرورة، خائفًا عليهم، حزينًا من أجْلهم، حريصًا عليهم، وهذه من صفات الرسول صلَّى الله عليه وسلَّم حيث قال الله عنه: {لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُوفٌ رَحِيمٌ} [التوبة:128]، وقال تعالى: {لَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ أَلَّا يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ} [الشعراء:3]، وقال تعالى: {فَلَا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَرَاتٍ} [فاطر:8]. فلم يقرَّ الله بخْعَ النفس وحسراتها على الكفار، ولكن أثْبتَها وأقرَّها للمؤمنين كما مرَّ في الآية السابقة.

5- أن يتحلَّى المعلِّم بالعدل والإنصاف، ويَبتعد عن الغُلوِّ والإسراف، أو التقصير والإجحاف، فلا يميل إلى فئة من طلاَّبه دون فئة، ولا يفضِّل أحدًا على أحدٍ إلاَّ بالحقِّ، وبما يستحقُّ كلُّ طالبٍ حسب عمله ومواهبه، فقد أمَر رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم وهو قُدوة المعلِّمين بالعدل، فقال تعالى مخاطبًا نبيَّه: {وَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ وَقُلْ آمَنْتُ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنْ كِتَابٍ وَأُمِرْتُ لِأَعْدِلَ بَيْنَكُمُ} [الشورى:15]. وقال أيضًا: {وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلَّا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى} [المائدة:8].

فالعدل والإنصاف أحْمَدُ الأحوال وأرْقى الخِلال، ومثله كمَثل تناول الدواء بقدرٍ معلوم؛ ليكون به الشفاء بإذن الله تعالى، وترْكه تعريضٌ للهلاك، ومُجاوزة الحدِّ فيه سُمٌّ مُميت، فالعدل والإنصاف مع الطلاب أجمعُ لقلوبهم، وأنفعُ لهم من معلِّمهم، وفيه تأديبٌ لهم على ذلك.

6- أن يكون حليمًا متأنيًا معهم، رفيقًا رحيمًا بهم، ليِّنًا مَرِنًا معهم، متوسطًا في التعامُل معهم، فقد قال النبي صلَّى الله عليه وسلَّم لأَشَج عبدالقيس: «إنَّك فيك خَصلتين يحبُّهما الله: الحِلم والأناة» (أخرجه مسلم عن ابن عباس)، والحِلم: هو ألاَّ يغضب ولو صار له إغضابٌ، فإذا مَلك المعلِّم غضبَه وكظَم غيْظه، كان ذلك فلاحًا له ولطلاَّبه، والعكس بالعكس.

والرِّفق مع الطلاب من أهم ما يجذبهم إليه، فلا يكون عنيفًا معهم، وقد أخرج مسلم عن عائشة رضي الله عنها قالت: قال رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم: «إنَّ الله رفيق يحب الرِّفق، ويُعطي على الرِّفق ما لا يعطي على العُنف، وما لا يُعطي على سواه».

ولن يوجد الرِّفق إلاَّ إذا كان القلب رحيمًا، وقد جاء في حديث: «والذي نفسي بيده، لا يدخل الجنة إلاَّ رحيم»، من حديث رواه البزَّار عن ابن عمر رضي الله عنه وهذا يؤدِّي إلى الليونة والمُرونة، وليس معناهما الضَّعف والهَوَان، وإنما هما القُدرة على فَهْم الآخرين بشكلٍ متكاملٍ لا بمنظار ضيِّق، وإنما التيسير الذي أباحَه الشرْع، فعن ابن مسعود رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم: «ألا أُخبركم بِمَن يحرم على النار، أو بِمَن تَحرُم عليه النار؟ تَحْرُم على كلِّ قريبٍ هيِّنٍ ليِّنٍ سهلٍ» (رواه الترمذي، وقال: حديث حسن).

فإذا كان متَّصفًا بتِلْكُم الصفات، كان متوسطًا معتدلاً في تعامُله معهم، وإذا كان رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم يحب الاعتدال في عماد الدين -وهي الصلاة- فما بالك بغيرها؟ وليس يخفى عليكم قصة الذي اشتكى إلى رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم من إمامهم الذي يُصلي بهم الصُّبح ويُطيل في القراءة، فخطَب الناس وقال: «يا أيها الناس، إنَّ منكم منفِّرين»، وذلك بعد أن غَضِب من هذا الفعل، والحديث متَّفق عليه عن أبي مسعود عقبة بن عمر البدري رضي الله عنه وليس معنى ذلك أن يتركَ الطلاب يفعلون ما يشاؤون، وإنما ينبغي عليه أن يكون حازمًا معهم، ضابطًا لحلقته مما قد يطرأ عليهم من فوْضى وعدم إنصات، مستخدمًا أساليبَ الثواب والعقاب الذي يتلاءَم مع نفسيَّاتهم وظروفهم كما سبَق ذلك.

7- أن يتواضع ويترُكَ العجبَ بالنفس وبالعلم، وأن يتركَ العجب بما يُحْسِن، والتكلُّف لِمَا لا يُحْسِن، فيعرف أقدار مَن سبَقه من العلماء، ومَن فوقه من طلاب العلم، وأن يردَّ علمه إلى فضْل ربِّه وتوفيقه، وأن يُحَسِّن خُلُقه مع الناس، ويوقِّر فاضلَهم بعلْمه أو سِنِّه، أو شرفه أو صلاحه، وأنَّ يتلطَّفَ بغيرهم؛ لحديث: «أنزلوا الناس منازلهم»، وأن يقفَ عند ما يعلم، وأن يقول لِمَا لا يعلم: "لا أعلم"، فليس في العلم خجلٌ ولا كبرياء، وعليه أن يتذكَّر قول الحق جل وعلا: {وَلَا تَقُولُوا لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ هَذَا حَلَالٌ وَهَذَا حَرَامٌ لِتَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ لَا يُفْلِحُونَ} [النحل:116]، وعليه أن يتقبَّل أيَّ حقيقة أو فائدة علميَّة ثابتة، ولو على يد مَن هو أقل منه عِلمًا أو أصغر منه سِنًّا، أو كان أدنى مَنزلة، وعليه أيضًا أن يعرفَ الفضل لأهل الفضل، ويقدِّم مَن هو أوْلَى منه بالكلام والفتوى، ويعرف قدْرهم، ولا يَبخسهم حقَّهم، ويُرشد إلى الأخْذ عنهم، وقراءة كُتبهم، والانتفاع بعلْمهم.

8- أن يتوسَّط في تأديبهم، وفي استخدامه لأساليب الثواب والعقاب، فإنْ لاحَظ سوء أخلاق أو عدم اهتمامٍ من قِبَل الطالب، استخدمَ الأساليب المحفِّزة، أولاً: المدح لِمَن يُحْسن سلوكه، ويهتمُّ بدروسه، وشُكره على ذلك، وتشجيعه بالنظرة الحنونة واللمسة الحنونة، والهدية المتواضعة، ثم إن لَم يجد نفعًا، فعليه بالنظرة المعاتبة واللفتة المؤنِّبة، دون أن يُشْعِرَ زملاءَه بذلك، ثم بالنُّصح الانفرادي، ثم بالتوبيخ والمعاتبة من دون أن يعلَم زملاؤه، ثم بتأْنِيبه أمامهم، ثم باستخدام أساليب أخرى، كإيقافه فترة بعيدًا من الحلقة، ثم داخلها، ثم ضرْبه ضربًا غيرَ مؤلِمٍ، وعليه ألاَّ يُكرِّر نوعًا من أنواع التأديب عدة مرات؛ حتى لا يفتر جِسْمه، ولا يتبلَّد حِسُّه، وعليه الاتصال بوالده، أو مَن هو مُهتم بتعليمه، وكل ذلك أيضًا بعد أن يتيَقَّنَ من أنَّه لا يُعاني من مشكلات نفسيَّة أو أُسريَّة أو اجتماعيَّة، أو صحيَّة أو اقتصاديَّة.

وأخيرًا:
فهذه بعض صفات معلِّم الحلقة المسجديَّة، نسأل الله أن يوفِّقنا جميعًا للعمل بها، وصلى الله على المعلِّم الأول، وسلَّم تسليمًا كثيرًا، والحمد لله ربِّ العالمين.


مراجع البحث:
1- منهج التربية النبوية للطفل؛ محمد نور بن عبدالحفيظ سويد.
2- أصول التربية الإسلامية؛ عبدالرحمن النحلاوي.
3- المسجد ودوره التعليمي عبر العصور من خلال الحلق العلميَّة؛ عبدالله قاسم الوشلي.
4- رسالة المعلم وآداب العالم والمتعلم؛ عبدالمجيد البيانوني.
5- مرشد المعلمة برياض الأطفال؛ علي أحمد لبن.

 

جمال بامسعود

  • 5
  • 0
  • 22,576

هل تود تلقي التنبيهات من موقع طريق الاسلام؟

نعم أقرر لاحقاً