التواضع والكبر..اختر لنفسك
يقولون: الزرع ينبت في السهل ولا ينبت على الصفا، ويقولون: من شمخ برأسه إلى السقف شجه ومن طأطأ أظله وأكنه، ويقولون: كيف يفخر من ترجيعه أبد الدهر ضجيعه...
الخطبة الأولى
بعد المقدمة:
القبر باب وكل الناس داخله *** ياليت شعري بعد الموت ما الدار
الدار دار نعيم إن عملت بما *** يرضى الإله وإن خالفت فالنار
هما محلان ما للمرء غيراهما *** فاختر لنفسك أي الدار تختار
يقولون: الزرع ينبت في السهل ولا ينبت على الصفا، ويقولون: من شمخ برأسه إلى السقف شجه ومن طأطأ أظله وأكنه، ويقولون: كيف يفخر من ترجيعه أبد الدهر ضجيعه.
إخوتي في الله نتحدث إن شاء الله: عن (التواضع)، اختر لنفسك (التواضع أم الكبر).
أمر الله عز وجل نبيه ورسوله بالتواضع، فقال له: {وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} [الشعراء:251]، ألن جانبك لهم، وتواضع لهم، وأرفق بهم، وأمر الله عز وجل كل مؤمن تقي نقى بالتواضع للوالدين: {وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُل رَّبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا} [الإسراء:24].
كن لأمك ولأبيك ذليلا متواضعا رحمة بهم، واطلب من ربك أن يرحمهما برحمته الواسعة أحياء وأمواتا، كما صبرا على تربيتك طفلا ضعيف الحول والقوة، وأمر الله بالتواضع للناس: {وَلَا تُصَعِّرْ خَدَّكَ لِلنَّاسِ وَلَا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحًا ۖ إِنَّ اللَّـهَ لَا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ} [لقمان:18]، لا تعرض بوجهك عن الناس إذا كلمتهم أو كلموك احتقارا منك لهم وابسط وجهك أليهم ولا تمشى بين الناس مختالا متبخترا أن الله لا يحب كل متكبر متباه في نفسه وهيئته.
وأعظم تشريف للعبد أن ينسب إلى الله، فقال تعالى: {وَعِبَادُ الرَّحْمَـٰنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْنًا وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلَامًا} [الفرقان:63]، يمشون على الأرض هونا بسكينة ووقار بلا استكبار ولا يقابلون قول الجاهل بجهل.
التواضع علامة حب الله للعبد: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَن يَرْتَدَّ مِنكُمْ عَن دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّـهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ} [المائدة:54]، متواضعون فيما بينهم أعزة على الكافرين، قال رسول الله: « » (صححه الألباني).
وقال النبي صلى الله عليه وسلم: « » (مسلم)، وقال رسول الله: « » (رواه أبو هريرة).
فما هو التواضع؟
استسلام للحق وقبوله من أي إنسان، وهو خفض الجناح للناس (اللين-الرقة).
كيف يتولد التواضع؟
من بين العلم بالله سبحانه ومعرفة أسمائه وصفاته ونعوت جلاله وتعظيمه ومحبته وبين معرفة النفس وتفاصيلها وعيوب عملها وآفاتها فيتولد من بين ذلك كله خلق هو التواضع
- كيف يتحقق؟
- أن ترضى بما رضي الحق به عبدا: أن ترضاه أخا، الله رضي به عبدا فلم لا ترضى به أخا لك؟
- ولا ترد على عدوك حقا: إذا جاء الحق على لسان عدوك اقبله ولا تتكبر.
- وأن تقبل من المعتذر اعتذاره ومعاذيره: فمن أساء إليك ثم جاء يعتذر، التواضع أن تقبل اعتذاره، كما فعل رسول الله مع الذين تخلفوا في غزوة تبوك، اعتذروا وقبل النبي اعتذارهم ووكل سرائرهم إلى الله عز وجل.
- صفات المتواضعين:
1- كراهية مشى الناس خلفهم.
2- يزورون غيرهم.
3- لا يكرهون جلوس الناس بجوارهم.
4- يحمل أمتعته بنفسه ويتواضع مع أقرانه بل مع من هم دونه.
5- يقبل دعوة الناس إليه للطعام ولو فقير.
6- يزور المرضى.
7- يشهد الجنائز.
8- يشارك الناس أفراحهم وأحزانهم.
هاهو أبو بكر رضي الله عنه بعد أن صار خليفة النبي يحلب للضعفاء أغنامهم.
وهاهو عمر رضي الله عنه يحمل قربة على ظهره وهو أمير المؤمنين، ويوما صعد المنبر فقال: "كنت أسمى عميرا ثم صرت عمرا، ثم أمير المؤمنين، والله لقد كنت أرعى الغنم على بضع دريهمات"، قال له عبد الرحمن بن عوف: "قللت من شأن نفسك"، فقال: "اسكت يا بن عوف لقد حدثتني نفسي أنني صرت أمير المؤمنين فأحببت أن ألجمها".
وابن عوف كان يسير مع الخدم والعبيد لا يعرفه أحد، فالذي لا يعرفه يسأل من منكم ابن عوف كان يلبس مثلهم.
عير أبو ذر يوما بلالا وقال له: "يا بن السوداء -أو يا أسود-" فندم فألقى بنفسه على الأرض وحلف ألا يرفع رأسه حتى يطأ بلال خده بقدمه.
وهاهو عمر بن عبد العزيز يجلس ينتظر أن يجف ثوبه، قالوا له: أليس لك ثوب آخر، قال: "نعم لكنه ممزق ثم بكى، قائلا: {تِلْكَ الدَّارُ الْآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لَا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الْأَرْضِ وَلَا فَسَادًا ۚ وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ} [القصص:83]".
وهاهو سيد المتواضعين الذي قال له ربه: {فَبِمَا رَحْمَةٍ مِّنَ اللَّـهِ لِنتَ لَهُمْ ۖ وَلَوْ كُنتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ} [آل عمران:159].
فراشه كان من أدم حشوه من ليف، ولم يكن يجلس على وسادة، بل يعطيها ضيفه ويجلس هو على الأرض، يسلم على الصبيان، تأخذ الأمة بيده فتنطلق به حيث شاءت، وفى بيته، يخدم أهله ويخصف نعله ويرقع ثوبه ويحلب الشاة و يأكل مع الخادم والمساكين، ويوم وقف أمامه رجل يرتعد من مهابته، فقال له: « » (الراوي: جرير بن عبدالله - المحدث: الألباني - المصدر: السلسلة الصحيحة - الصفحة أو الرقم: [4/497] - خلاصة حكم المحدث: رجاله ثقات كلهم حفاظ غير محمد بن عبد الرحمن القرشي).
قال النبي: « » (مسلم)
القبر باب وكل الناس داخله *** ياليت شعري بعد الموت ما الدار
الدار دار نعيم أن عملت بما *** يرضى الإله وإن خالفت فالنار
هما محلان ما للمرء غيرهما *** فاختر لنفسك أي الدار تختار
الخطبة الثانية:
المتكبرون أربعة أصناف:
1- أهل الكبر من المتكلمين: عارضوا نصوص الوحي بمقولاتهم الفاسدة، وقالوا: إذا تعارض العقل والنقل قدمنا العقل.
2- أهل الكبر من أهل الفقه: إذا تعارض القياس مع النصوص قدموا القياس على النص.
3- أهل الكبر من أهل التصوف: إذا تعارض الذوق مع الأمر قدموا الذوق ولم يعبؤا بالأمر.
4- أهل الكبر من أهل السياسة: لو تعارضت مع الشرع قدموا السياسة على الشرع.
يقول الحسن البصري: "عجبت لمن يغسل الحذاء بيده مرة أو مرتين كل يوم كيف يتكبر على الناس أو على جبار السموات والأرض".
ويقول الأحنف: "عجبت لمن جرى في مجرى البول مرتين كيف يتكبر؟".
"مر شاب أبوه أمير بمالك بن دينار يتبختر في مشيته، فقال له مالك: لو تركت هذا الخيلاء لكان أجمل؟ فقال الشاب: أولا تعرفني؟ فقال مالك: نعم أعرفك جيدا، أولك نطفة مذرة، وآخرك جيفة قذرة، وأنت بين ذلك تحمل العذرة، فأرخى الفتى رأسه، وكف عما كان فيه"
واعلم أن أول معصية عصى الله بها كانت الكبر: رفض إبليس السجود لأدم، قال:{أَنَا خَيْرٌ مِّنْهُ} [الأعراف من الآية:12]
لذا احذر من قول: أنا أنا
قالها فرعون: {أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلَىٰ} [النازعات:22].
قالها إبليس: {أَنَا خَيْرٌ مِّنْهُ} [الأعراف من الآية:12].
قالها النمرود: {أَنَا أُحْيِي وَأُمِيتُ} [البقرة من الآية:258].
فأغرق الله فرعون، وأذل النمرود بذبابة، ولعن إبليس وطرده من رحمته.
أما قارون الذي أعطاه الله مالا كثيرا: {قَالَ إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَىٰ عِلْمٍ عِندِي} [القصص من الآية:78]، فخسف الله به وبداره الأرض.
المتكبرون يحشرهم الله على وجوههم في صورة الذر تدوسهم الناس.
يقول الله عز وجل: {إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّـهِ أَتْقَاكُمْ} [الحجرات من الآية:13].
التقي هو الكريم، وليس الغنى ولا صاحب المنصب ولا صاحب الحسب والنسب.
عاطف شمس
- التصنيف:
- المصدر: