داعية وطالبة علم
إنَّ الأصْل في المسلِم السَّلامة، وإنَّ الوقوع في أعْراض النَّاس ليس سبيل المتقين.
سمعت بها، هي داعية متميِّزة حقًّا، يقولون عنها سلفية.
حسنًا، واجبي أن أحضُر دُروسَها لأعلم: هل هي حقًّا سلفيَّة كما يقولون؟
سألت عن الموعد، تبرعت أخت بتوصيلي، ذهبت.
شكلها! لا أدري، لا أريد أن أحكم بالمظاهر.
لا بأس، فلنستمع.
مرَّ نصف ساعة.
كلامها ليس مرتَّبًا، صِيغ عباراتِها عامِّية قليلاً.
ما معنى عامية قليلاً؟
يعني عامِّية قليلاً، لا تسألْني من فضلك.
طريقتُها ليستْ علميَّة.
ما معنى ليست علميَّة؟
يعني ليستْ علميَّة أيضًا، قلت لك: لا تسألني؛ أنا أعرف عن أي شيء أتكلَّم.
تبدو كأنَّها واعظة.
مرّت ساعة، آه، كنت أتوقَّع هذا، حديث ضعيف!
هذا ما كان ينقصُنا!
رفعت يدي، ابتسمتْ بِهدوء وقالت: ممكن نؤجِّل الأسئلة إلى وقتها؟
قلت -وأنا أبتسِم ابتِسامة الواثق من عِلْمه الغزير-: بالتأكيد.
وقت الأسئلة:
التفتت إليَّ الأختُ وابتِسامتُها متَّسعة: تفضلي -أختي- هاتي سؤالك.
قمتُ وأنا أنتفِش غرورًا -بل أعني: ثقةً-: سؤالي عن حديث، أريد أن أعرف إن كان صحيحًا أم ضعيفًا؟
ذكرتُ الحديث الذي قالته، ابتسمت في هدوء: على حد علمي هو صحيح، لكن ابحث وأخبرك.
ابتسمتُ في ثِقة وقلت: نعم ابحثي، فهو ضعيف، ذكره الألباني في الضعيفة.
سكتَتِ الدَّاعية وقد اتَّسعت ابتِسامتُها، فشجَّعني هذا على المواصلة: وكان عندي تعليق آخر أيضًا.
قالت الدَّاعية: تفضلي.
فرحتُ أُسمِّع لها ما كنتُ جَمعتُه من أقوال العُلماء المتعلِّقة بالموضوع.
قالت الداعية: ما شاء الله، تبارك الله!
ثم أطرقت بِرأسها قليلاً، ظننتُ أنَّها إنَّما أطرقتْ خجَلاً وغيرةً، طبعًا ولِم لا؟! لها أعوام في الدَّعوة.
غرُّوها فظنَّتْ أنَّها من أهْل الصَّلاح، والآنَ لقد وضعتُها في حجمِها الطَّبيعي.
فأنا سيف الله المسلول على عبادِه؛ لأردَّهم إلى الصَّواب.
فقلتُ لَها: يُمكِننا أن نتعاوَن في الدَّعوة.
رفعتْ رأْسها وابتسامتُها تشرق وقالت: بالطبع، وأريدُ أن أجلِس معك بعد استِكْمال الإِجابة على الأسئلة.
جلستُ على مضض، كنتُ أظنُّها ستُوكل لي أنا الإجابة على الأسئلة، لا بأس.
دعنا نَرَ إجاباتِها.
جلستُ وكلِّي تحفُّز لأسمع ما ستقول، وكتبتُ كلَّ تعليقاتي الرَّائعة على إجاباتِها.
فخَّمتْ حرْف الطَّاء وهي تتكلَّم، قالتْ كلِمة عامِّيَّة، رفَعَتِ المفعول به ثُمَّ صحَّحته.
مَا هَكَذَا يَا سَعْدُ تُورَدُ الإِبِل.
وهل يصحُّ تصدُّر المبتدئين الذين يَلحنون في القول؟
آه وما هذا؟! تنقل كلامًا عن هذا الشَّيخ الجاهل؟ ألا تعلم أنَّ النَّقْل عنِ المبتدِعة لا يَجوز؟!
حسنًا جيِّد، إنَّها ستقابِلُني بعد الدَّرس، فسأنصحُها، وإن لم تستَجِبْ فسأفضحها!
سأفضحها، وأخبر النَّاس بِحقيقتِها، فهي مبتدِعة تنقل عنِ المبتدِعين.
{إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ} [البقرة من الآية:156]، الدُّعاة اليوم صاروا شيئًا مؤْسفًا.
بعد انتِهاء الدَّرس ذهبتُ إليْها.
كانت تجلس على الأرض في آخر المسجِد، وفي يدِها مرجعٌ وأمامَها عدَّة مراجعَ أُخْرى.
قلتُ -وابتِسامتي تُشرق-: السَّلام عليْكم.
رفعتْ رأسَها وابتسمت ابتسامة صافية، وردَّت السلام، وقالت لي: اجلسي.
جلست.
قالت لي: بالنسبة للحديث فـ ...
ثُمَّ راحتْ تسرُد أقوال العلماء فيه، وعِلَل مَن ضعَّفه، والرَّدَّ على تلك العِلل، ولماذا اختارتِ التصحيح، بل نقلتْ لي تراجُع الألبانيِّ عن تضعيفِه.
الأدهى: أنَّها كانت تتحدَّث بسلاسةٍ وكأنها لا تتحدَّث عن علمٍ من أصْعَبِ العُلوم؛ بل كأنَّها تقرأُ الفاتِحة أو سورة الإخلاص. تستخدِم أسهل العبارات، وتُعيد الشَّرح بعدَّة عبارات تدل على تمكُّن ورسوخ في العلم.
فغرتُ فمي، ولم أحرْ جوابًا.
سكتتْ ونظرت إليَّ في قلق، وقالت: هل هناك شيء؟ هل أسأتُ الشَّرح؟
هززْتُ رأْسي لأنفض إحْساسي بالضياع، وقلتُ وأنا أتميَّز من الغيْظ: لا أبدًا، شرْحٌ موفق، ثُمَّ اندفعتُ قائلةً، وقد تذكَّرتُ أنَّه لا يزال لديَّ ورقةٌ لم تَحترق: وماذا عن نقْلِك عن هذا الشَّيخ الجاهل الحزبي؟!
أليس مبتدعًا؟ كيف تنقلين عن مبتدِع؟ ألَم تقرئي عِلْم الجرْح والتعديل؟!
ابتسمت الداعية في حِلْم ثُمَّ أخذت نفسًا طويلاً.
قالت الداعية: لماذا رميْتِ الشيخ بالبدعة؟
ابتسمتِ الطَّالبة في استِهْجان: تكفيري حزبي، وليس على المنهج.
ابتسمتِ الدَّاعية في لطف وسألتْها: هلا وضَّحت معنى كلماتِك؟
سكتَتِ الطَّالبة لحظة وهي تحاوِل استِجْماع معنى كلماتِها:
تكفيري يعني: على منهج الخوارج، حزبي يعني: يشجِّع التحزُّبات التي تَجتمع على منهج غير منْهج أهْل السنة والجماعة، وليس على المنهج يعني: ليس على منهج أهل السنَّة والجماعة طبعًا.
قالت الداعية وهي تردِّد كلامي في بُطْء وتنظُر في عيني: إذًا أنت تتَّهمين الشَّيخ بأنَّه من الخوارج، وأنَّه ليس على المنهج، وأنَّه يُحزِّب النَّاس على غير التَّوحيد!
سكتتْ لحظة ثم نظرتْ في عينيْها وقالت بِحزم: لكلِّ قولٍ دليلٌ، فما دليلك على هذا؟
هتفتْ طالبة العلم باستنكار: شيوخي قالوا عنه ذلك.
قالت الداعية: وهل قول شيوخِك حجَّة بذاتِها؟!
يعني: إذا كان هذا الشيخ أستاذًا لفتاةٍ أخرى سواكِ، وقال في شيوخكِ: إنَّهم مبتدعة، هل تقبل الفتاة قوله وترمي شيوخكِ بالابتداع؟!
قالت طالبة العلم في استنكار: بالطبع لا.
قالت الداعية: لماذا؟
ردت: لأنَّ شيوخي على المنهج، وشيخها ليس على المنهج.
قالت وهي تبتسم: وكيف حكمتِ أنَّ شيخَها ليس على المنهج، وأنَّ شيخكِ أنت على المنهج؟
سكتتِ الطَّالبة لحظة ثم اندفعت تقول: لأنَّ هذا الشيخ يكفر، هو من الخوارج.
قالت الداعية: هل قرأتِ له كتابًا أو سمعتِ له شريطًا؟
قالت الطالبة: لا.
قالت الداعية: هل رأيتِ أحد طلبته ينقل عنه مثل ذلك؟
قالت الطالبة: بل شيخي قال.
ضحكت الداعية وقالت: أُختي هل سنعود لهذه الدَّائرة المغلقة؟ العلم: قال الله، قال رسولُه، قال الصحابة، فالعمدة ليس رأْي الشيخ؛ بل العمدة كتاب الله وسنة الرَّسول صلى الله عليه وسلَّم بِفهم الصَّحابة وإلا وقعْنا في البِدع، ثُمَّ هذا قول شيخك وحْدَه وليس قول باقي الشيوخ فيه.
قالت الطالبة: مَن قال فيه ليس مبتدِعًا فهو مثله مبتدِع، فمن لم يكفِّر الكافر فهو كافِر، ومن لَم يبدِّع المبتدع فهو مثله بالتأكيد.
قالت الداعية: وهل سمعتِ كلام الشيخ الذي تتهمينه؟
قالت الطالبة: لكن أنا أخشى إن سمِعْتُه أن يأسرني منطقُه، وقد نَهانا النبيُّ صلى الله عليه وسلم عن مُجالسة أهل البدع؛ حتَّى لا تشربها قلوبُنا.
قالت الدَّاعية: لكن هذا هو نفس منطق المشركين، وهو اتِّباع شخص، وظنُّ العصمة فيه، دون تحكيم عقولهم لِمعرفة الصَّواب من الخطأ، وقد تعبَّدنا الله بعقولنا لا بعقول غيرنا.
فإن كنتِ مُخلِصةً وأردتِ الاتِّباع، ودعوت الله أن تكوني ممَّن يسمعون القول فيتبعون أحسنه، فيمكنك أن تسمعي الشيخ وترَي هل هو من أهل البدع فعلاً أم لا؟
طبعًا: أنا لا أتحدَّث عن شيخ ظاهر البدعة يقول: أنا صوفي، أنا شيعي، أنا أتَحدَّث عن شيوخ أهل السنَّة، الذين ينتسبون للسنَّة، ويعظمون السُّنة، ويحبون السنَّة، ويتبرؤون من البدع، فإذا أصبت، فلك أجرانِ، وإن أخطأت، فلك أجر.
قالت الطالبة مستنكرة: آه أنتِ من أهل التَّحكيم العقلي، أنتِ من المعتزلة، أيَّتُها المبتدِعة، أنتِ أيضًا لستِ على المنهج.
حدَّقت فيها الدَّاعية لحظةً ثُمَّ انفجرت ضاحكة، وقالت: ما هذا يا أختي؟! تقولين: إنَّ عقلك قاصر عن معرفة الحقِّ من الباطل، ثُمَّ ترمينَني بمنتهى السهولة بالبدعة!
ألا تعلمين: أنَّ الرَّمْي بالفسق والتبديع كالرَّمي بالكفر، لابدَّ له من استِيفاء شروط وانتِفاء موانع؟!
سكتت الطَّالبة.
فقالت الداعية: ثُمَّ هذا الشَّيخ الذي تتَّهمينه بالخُروج لا يكفِّر أصلاً تارِكَ الصَّلاة، فإن كان لا يكفِّر تارك الصلاة -وهو خلاف سائغ عند أهل السنة- فهل سيكفِّر بالكبائر؟
قالت: لا، لا، إنَّه يكفِّر الحاكم.
نظرت لها في عجب وقالت: وكيف ترَكه الحاكم حرًّا طليقًا يُلْقِي دروسَه وهو يكفِّرُه؟!.
قالت: لأنَّه، لأنه لا يعلم.
قالت الداعية: الحاكم لا يعلم وأنتِ تعلمين! وكيف عرفتِ؟
قالت: هو صرَّح بذلك مرَّة.
ابتسمت الداعية وقالت: صرَّح، إذًا اشتهر عنه، فيعرف الحاكم وأنا وأنتِ، أم أنَّه لم يصرِّح وفهِمَ هذا من كلامِه؟
قالت: الحقيقة لا أعرف، فقد قيل لـ..
قاطعتها بحزم: هذا لا يصحُّ أختي، نحن نتحدَّث عن عالِم لا عن بائع خضار، وإن كان بائع الخضار له حُرْمة الإسلام فالعالم له حُرْمة الإسلام وله حُرْمة العلم، وأنا أظنُّ في الواقع أنَّه اشتبه عليْك أو على مَن سمع جملة من كلام الشيخ، وكان الواجب أن ننظر في كلامِه، ونردَّ المتشابه للمُحْكم من كلامه، ونحمِّل الكلام أحسن معنًى له، لا أن نتحامل على الكلام، ونتعسَّف ونُحمِّله ما لا يُطيق بشبهةٍ وتسرُّع، ورغْبة في إسقاط العالِم لِحسدٍ أو غَيرة أو ما شابه، فإسْقاط العالِم بِهذه الطريقة هو في الواقع مِعْول هدْم للإسْلام.
سكتت الطالبة هنيهة، ثم قالت: لقد أصابَنِي صُداع، إنَّ رأْسي يدور، لا أعرف حقًّا من باطل.
قالت الداعية: أختي في الله، إياكِ إياكِ وأعراضَ المسلمين، وخاصَّة العلماء؛ فإنَّكِ إن استبحْتِها فقد سقطتِ في فتنة عظيمة، لن تَخرُجي منها على خير. نسأل الله لنا ولكِ العافية.
عدت إلى بيتي ورأسي يدور، أين الحق؟
اتَّصلت بمعلِّمتي التي لقَّنتني المنهج، حكيْتُ لَها ما حدث.
بادرتْني المعلِّمة: ولِمَ ذهبتِ لها؟ لِماذا لم تسأليني عنها؟!
وقع في نفسي: أنَّ هناك شيئًا خطأً، قلتُ بحذر: ولماذا أسألُكِ عنها؟
قالت المعلمة: تسألينَنِي هل هي على المنهج أو لا؟
ثم أردفت في جدية: هي ليْستْ على المنهج طبعًا.
قلت في حذَر أكبر: هل تحدَّث فيها أحدُ العُلماء الكبار؟
أطلقت ضحِكة مستَهْجنة وقالت: لا، ليستْ مشهورةً إلى هذا الحد.
قلت لها -وألف علامة تعجُّب ترتسِم أمامي-: إذًا كيف قُلْتِ إنَّها ليست على المنهج؟
لقد علَّمتِني: أنَّ حكم الجرح ليس لنا، بل أنتِ تنقلينه عن شيوخٍ أعلام، وليس لنا كطلاب عِلْم أن نَحكم هكذا، أليس كذلك؟! ثُمَّ هل سمعتِها؟ هل تعرفين عنها شيئًا؟
سكتت معلِّمتي لحظة ثم قالت: يبدو أنَّك بدأتِ تتأثَّرين بالمبتدعة، مادامت ليستْ معنا إذًا فهي ليستْ على المنهج، ولا داعيَ أبدًا أن تُخالطي مَن لا تثقين في منهجهم.
أنْهيت المكالمة وأنا أشعر برأسي يكاد ينفجر، دخلت النت.
قابلتْني إحدى الأخوات على الماسنجر، ودعتْني لِحضور درس فقْه، ما إن بدأ طالب العلم الحديث حتى قطع الدرسَ بعضُ الإخوة، يكتُبون عن شيخ آخر كلامًا شديدًا، فيه سبّ ولعْن وشتائم، نعم، لم أخطئ القِراءة، وليس هذا خطأ طباعي.
سبّ ولعْن وشتْم لأحَد الشُّيوخ العلماء الأجلاء.
ذهِلت من هوْل الألفاظ، كتبتُ: «ليس المؤمن بلعَّان ولا طعَّان ولا فاحشٍ ولا بَذيء» (حسّنه الترمذي).
كان جزائي الطَّرد من الغرفة الصوتيَّة.
راسلتُ صديقتي، وكانت تعرف طالب العِلم الذي كان يشرح بالغرفة، بادرتني: لماذا كتبتِ هذا؟
قلتُ في حيرة: كتبتُ ماذا؟
قالت: على أي حال الشيخ -تتحدَّث عن طالب العلم- طلبَ التحدُّث إليْكِ على الخاص.
حضر النقاشَ صديقتي وأخت أخرى.
بادرني بالسؤال: هل أنتِ سلفيَّة؟
قلت: نعم، ولله الحمد.
قال لي: ما رأيكِ في هذا القول، وذكر قول إحدى الفرق المبتدعة؟
قلت له: أظنُّ هذا قولَ الأشاعرة أو المعتزِلة.
قال -وصوته يقطر استهزاءً واحتِقارًا-: ما هذا يا أخت؟ مِن المهمِّ جدًّا أن يكون طالبُ العلم ملمًّا بِمسائل العقيدة، إنَّ هذا القول الذي ذكرْتُه لك هو
قوْل الكلابيَّة وليس الأشعرية، {إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ}.
ثم بدأ يرثي حالَ النَّاس اليوم.
ثم سأل: ما قول أهْل السُّنة في - وذَكر مسألةً دقيقةً منْ مَسائِل الاعتِقاد؟
الحقيقة خشيتُ الإجابة، قلت: لا أدري.
سيل من الاستهزاء والسخرية.
قال: يا أُخت، لا أقول إنَّكِ مبتدِعة، لكنَّكِ لا تَفقهين شيئًا، فيجب أن تتعلَّمي قبل أن تدَّعي السلفيَّة (هذا الحوار جزء من حوار حدث صدقًا وحقًّا....
وبنفس الطريقة، وما لم أقصّه أعظم مما قصصته).
خرجت من النت مذهولةً مِمَّا يَحدث، أهؤلاء الطَّلبة هم مَن أظنُّ أنَّهم على المنهج، {إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ}.
اتَّصلت بي صديقتي التي كانت معي في درس الفقْه، وبَّختْنِي وراحت تَستفيضُ كيف أنَّني غير مهذَّبة، وأنَّني تطاولْتُ على طلبة العلم، و... و...
كل هذا يحدث لي لأنِّي كتبتُ حديثَ النَّبيِّ صلى الله عليْه وسلَّم يا أهل المنهج؟!
رحتُ أُقارن بين هذا الموقف وموقف الداعية، رد فِعْلِها المهذَّب تِجاه سوء أدبي معها في الدرس، الآن أعترف: نعم سوء أدبي في الدرس، ابتسامتها المُشْرقة لا عن تكلف، علْمها الغزير الذي لم تبخلْ به عليَّ رغم سوء أدبي معها، حِلْمها، حرصها عليَّ، تورُّعها عن ذكْر المسلمين بسوء.
عزمتُ على الذَّهاب إليْها في الصباح لأجد من يَحتوي توتُّري وحيرتي، فقد علمت أنَّها هي التي على المنهج، وأنَّهم هم ليسوا على المنهج.
ذهبت إلى الدَّاعية في الصباح، استقبلتني بابتسامة مشرقة.
الحق أنَّ ابتِسامتها أزالتِ الكثيرَ من توتُّري.
قالت لي: تبدين مُرْهَقة.
قلتُ لَها في لهفة: جدًّا.
ثم لم أتمالكْ نفسي ورحت أقصُّ عليها ما حدث في ليلتي، قصصت عليها ما قالتْه معلمتي، قصصتُ عليها ما فعله طالب العلم الذي كان يشرح على النت، قصصت عليها قسوةَ صديقتي وسوء خلقها، رغم أني لم أخطئ في حقِّ أحد.
استمعتْ إليَّ في صبر.
كنت أرى الكراهة في وجهها عندما أذكر أحدهم بسوء، وأرى الأسف في عينيْها، وأنا أشكو لها معاناتي.
قالت لي: أختي، لقد وقعتِ في فخٍّ من فِخاخ الشيطان، ألا وهو التربُّص بالمسلمين، وانتظار وقوعِهم في السوء؛ لننال من أعراضهم، وهذا منهج خطأ، ليس من منهج أهل السنَّة والجماعة؛ فأهل السنَّة يعلمون الحقَّ، ويرحمون الخلق.
قلت لها: كانوا يقولون لي: إنَّ أهل السُّنَّة لابدَّ أن يُظْهِروا عوار من يدَّعي العلم؛ حتى لا تفشو بدْعته.
قالت لي: نعم أختي، يظهرون عوار أهل البدع، وليس أهل السنَّة الذين وقعوا في الخطأ، وشتان بين الأمرين، فأهل السنَّة لهم حرمة، وقد ذكر لي شيْخي ذاتَ مرَّة قول أحد السلف: إنَّ الرَّجُل يكون من أهل السنَّة فيقول بقَوْل المرجئة أو المعتزِلة -يعني في مسألة- لا يُخْرِجه ذلك عن كوْنِه من أهل السنة، ابن حجرٍ مثلاً ألم يقع في التأويل؟ هل سمعت أحد معاصريه من الأجلاء يطعن في شخصِه؟
هل ستستسيغين أن يأتيَ اليوم أحدٌ فيقول: إنَّ ابنَ حجر مبتدع وإنَّ عليْنا هجران كتبه؟ لا، فقط نقول: احذر -يا طالب العلم- وأنت تقرأ كُتُب ابن حجَر، فقد وقع في بعْض التَّأويل ونحن نَحسبه على خير.
لكن الحلاَّج، هل تجدين أحدًا من عُلماء عصْرِه أو عصْرِنا يُبيح لك النَّظر في كتبه، أو يقول نَحسبه على خير؟! أو يُوازن بين حسناته وسيِّئاته؟!
لا، وألف لا، وكذلك مَن كان على شاكلته من المبتدعة وأهل الكفْر، والفرق بيْن ابْنِ حجرٍ والحلاَّج: أنَّ ابْنَ حجر من أهل السُّنَّة لكن زلَّ، أمَّا
الحلاَّج فصوفي من أهل وحْدة الوجود.
كذلك اليوم من كان من أهل السنة حفِظْنا له حرمةَ انتِمائِه لأهل السنَّة، ومن كان من أهل البدع نظرْنا في المصلحة الرَّاجحة وفعلناها، إن كانت المصلحة في التشهير به، فعلنا، وإن كانتِ المصلحة في عدَم ذكره أصلاً؛ كي لا يشتهر وهو أصلاً مغمور مثلاً، والاكتفاء بالتنبيه على البِدَع -
فعلنا.
أمَّا التسوية بين أهل البدع وأهل السنَّة الذين زلُّوا، فليس من العدل في شيء؛ قال تعالى: {وَلاَ يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلاَّ تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى} [المائدة من الآية:8].
وليس من شِيَم النبي مُحمَّد صلى الله عليه وسلَّم فقد قال لأصحابه حينما ظنُّوا بالرجُل الذي جُلِدَ في حدِّ الخَمر مرارًا ظنَّ سوء، قال لهم: «لا تلعنوه؛ فوالله ما علمت إلاَّ أنَّه يحبُّ الله ورسوله» (رواه البخاري وغيره).
وكما رأيت: فإنَّ جلَّ مَن يدخل في هذا المنهج الخطأ، المُخالِف لما كان عليْه السلف الصالح - يُغْلِظ القول حتى يصير هذا الخُلُق الغليظ له عادةً، ووالله هذه سنَّة الله في خلقِه، فلحوم العُلماء مسمومة، والآكِل منها أفسد على نفسه دينَه ودُنياه وقلبَه.
فليس هذا طريقَ مَن أراد أن يأتِيَ الله بقلْبٍ سليم، وكما لابد أنَّكِ تعلمين -مادمتِ درستِ في علم الجرح والتَّعديل-: أنَّه لا يتكلَّم في الرِّجال إلا تامُّ العلم تام التقوى.
وها أنتِ ترَيْنَ أصاغرَ من طلبة العلم يقَعون في أعراض بعضِهم، وأعراض كبار العُلماء والدعاة، لا نقلاً عن أكابِر العلماء بل قول صادر عن هواهم، ألَم تسمعي عن ابن أبي حاتم وقد دخل عليه رجُل، فقال له: يقول يحيى بن معين: "إنَّا لنسقط أقوامًا -يعني: من الرواية- قد حطُّوا رحالَهم
في الجنَّة منذ أكثر من سنين".
فسقط الكتاب من يد ابن أبي حاتم وبكى.
هل ترين ورَعَهم وخشيتهم؟
هل سمعت أنَّ الشَّيخ الفوزان لمَّا سُئِل مَن هم علماء الجرح والتعديل في هذا العصر، ماذا قال؟ قال: علماء الجرح والتعديل في المقابر، لا يُوجد سند ورواية الآن لنقول إن هناك علماء جرح وتعديل، فبناءً على كلام أهْل هذا المنطق؛ يكون الفوزان مبتدعًا وضالاًّ ومضلاًّ إذًا!.
وبالقطْع، نحن نحتاج لبيان حال المبتدعة، بشرط أن ننصف ويكونوا مبتدعة حقًّا، أما الصدور عن الهوى؛ بدعوى الذبِّ عنِ الدين، ورمْي عُلماء السُّنة بالبدع، وتصيُّد الأخطاء، وتَحميل اللفظ فوق ما يَحتمل؛ لإثبات وجهات نظَرٍ شخصيَّة - فليس هذا من المنهج في شيء.
نعم أختي، نتحدَّث في أهل البدع لا أهل السنة الذين أخطؤوا في الفقه، أو رفضوا جرْحَ شخص لقول بعض الشيوخ، ولا أهل السنة الذين اجتهدوا في مسائل متَّبعين الدليل، حتَّى لو لم يصيبوا الحقَّ.
فهذا ليس جرحًا ولا تعديلاً، هذا سبّ وتشهير.
أختي:
إنَّ الخَطْب جلل، وإنَّ الأصْل في المسلِم السَّلامة، وإنَّ الوقوع في أعْراض النَّاس ليس سبيل المتقين، وأنصحكِ، تجوَّلي بنظركِ في كتب القُدماء، اقرئي كلامَ ابن تيمية وابن القيم وكل عالم من أعلام السلف.
انظري:
كيف كان حُسنَ ظنِّهم في بعضهم البعض؟ وكيف كانوا لا يُحمِّلون الكلام فوق ما يَحتمِله؟ وستعلمين إن كان ما يَحدُث بين أصاغر الطَّلبة اليوم من منهجِ أهل السُّنَّة أم لا.
كانت تتحدَّث وعبراتي تتساقط، واسوأتاه! كم ضيعتُ من عمري!
- التصنيف: