كلمة السر (ترعة السلام)
اليوم إسرائيل تدفع مصر نحو إحياء فكرة ترعة السلام بأهدافها الأصلية لا بأهدافها الجديدة التي ظهرت أثناء التنفيذ، بحيث تكون ترعة السلام ممرًا مائيًا ينقل جزءًا من مياه نهر النيل إلى الكيان الصهيوني، وذلك بخلق وضع سياسي شديد الضغط، لتكون مصر بين خيارين أحلاهما شديد المرارة ؛ أما أن تدفعوا ثمن المياه التي تأخذونها من أثيوبيا، وبالتالي تنهك مصر اقتصاديًا أكثر مما هي منهكة، وأما أن ترضخوا لفكرة تمرير مياه النهر إلى إسرائيل.
- التصنيفات: الواقع المعاصر -
الكيان الصهيوني الغاصب لأرض فلسطين؛ ما هو إلا كائن هجين جرى استيراده بالكلية من الخارج، ليكون بقعة توتر دائمة في قلب العالم الإسلامي الخصم التاريخي والأيديولوجي للعالم الغربي الصليبي، فمن ينظر على هذا الكيان الطفيلي يري أنه مستورد بالكامل، شعب شتات جرى جلبه من شتى دول العالم، حفنة من أوروبا الشرقية والغربية، وحفنة من أمريكا، وحفنة من أفريقيا، شكلوا في النهاية شعب متنافر العرقيات متباين الثقافات لا يجمعهم إلا اعتناق الفكرة الصهيونية، واقتصاد قام على أكتاف المعونات التي لا تنتهي من أمريكا وأوروبا وسفهاء العرب، وسلاح جرى تصديره من أكبر مصانع العالم في أمريكا وروسيا ليحفظ التفوق الإسرائيلي على كل دول المنطقة مجتمعة، بالجملة فالكيان الصهيوني قد استورد كل شيء إلا شيئًا واحدًا ظل يمثل هاجسًا مؤرقًا للساسة الصهاينة على مر السنين، ألا وهو هاجس المياه.
فإسرائيل كانت وما زالت تعاني من مشكلة أزلية في توفير مصادر المياه اللازمة للشرب والري والزراعة، في الوقت الذي لا توجد لدى دول الطوق المحيطة بها -مصر ولبنان وسوريا والأردن- مشكلة في هذا الباب لكثرة روافد المياه فيها، وجل اعتماد إسرائيل في توفير احتياجاتها المائية من بحيرة طبرية، وما تسرقه من روافد الأنهار اللبنانية، وهذا الفقر المائي عرض إسرائيل لخطر التلوث الدائم بسبب ملوثات النفايات الصلبة، من المجاري والمياه العادمة، المحروقات، المواد الخام والمخلفات الصناعية، وكلها أمور أفسدت مصادر المياه بحيث تصبح غير صالحة للشرب وحتى للري، ناهيك عن الزيادة السكانية نتيجة الهجرة المستمرة إلى الكيان، وارتفاع مستوى المعيشة سوف يؤدي إلى تقليل كمية المياه المتوفرة لكل نسمة وأيضًا إلى زيادة التلوث باستمرار، هذا غير مواسم الجفاف المتتابعة والتي ضربت الكيان الصهيوني عدة مرات آخرهم الصيف الماضي، مما جعل الصهاينة يحاولون باستمرار البحث عن مصادر بديلة للمياه من دول الجوار.
فكرة تحويل مياه نهر النيل إلى الكيان الصهيوني الغاصب ليست فكرة جديدة، فتاريخيا (تيودور هيرتزل) مؤسس الحركة الصهيونية قد أهتم بإمكانية توصيل مياه النيل إلى سيناء ثم إلى فلسطين قبل أن يبدأ الصهاينة في سرقة أراضيها وإنشاء الدولة الإسرائيلية، وقد عرض هيرتزل بالفعل أثناء زيارته لمصر عام 1903م دراسة فنية لنقل مياه النيل عبر قناة السويس إلى سيناء، ولكن السلطات المصرية والبريطانية أهملت عرضه في ذلك الوقت، ثم جاء الدكتور إليشا كالى الرئيس الأسبق لهيئة تخطيط موارد المياه في إسرائيل وأحيي الفكرة في دراسة نشرها عام 1974م، وقال فيها: "أن نهر النيل هو المورد الأجنبي المفضل لإمداد قطاع غزة بالمياه"، وأكد ذلك في كتاب منشور سنة 1978م بعنوان "الإستراتيجية في الماء" ثم في كتابه المنشور عام 1986م عنوان "الماء في عهد السلام " حيث ألحق به بحثًا كان قد نشره في نفس العام يشمل خريطة توضح ترعة السلام وهى تتفرع من نقطة من فرع دمياط بدلتا مصر. حتى جاءت اللحظة المناسبة لتنفيذ هذه الأفكار الخيالية في إتفاقية كامب دايفيد.
اتفاقية كامب دايفيد كانت وما زالت واحدة من أسوأ الاتفاقيات الدولية وآثارها الإستراتيجية الخطيرة ستستمر ما بقت هذه الاتفاقية قائمة بنفس بنودها واستحقاقاتها، ومن البنود الخطيرة لهذه الاتفاقية والتي حاول الموقعون عليها أن يبقوها طي الخفاء، بحيث تنفذ بهدوء ودون إثارة ضجيج، البند المتعلق بشق مجرى مائي عبر أراضي سيناء ليصل بماء نهر النيل إلى الكيان الصهيوني الغاضب وفق دراسة الدكتور إليشا كالي السابقة، أو ما عرف وقتها باسم "ترعة السلام"، وقد تم الإعلان عنه صراحة باسم (مشروع زمزم الجديد) وتم نشر ذلك في مجلة (أكتوبر) الأسبوعية لسان الحزب الحاكم في عددها بتاريخ 16 يناير 1979م..
حيث أوضح السادات نيته في توصيل جزء من مياه النيل إلى القدس، وفي خطاب بعثه السادات إلى مناحم بيجين رئيس وزراء إسرائيل الأسبق قال فيه: "حيث أننا شرعنا في حل شامل للمشكلة الفلسطينية، فسوف نجعل مياه النيل مساهمة من الشعب المصري باسم ملايين المسلمين كرمز خالد وباق على اتفاق السلام، وسوف تصبح هذه المياه بمثابة مياه زمزم لكل المؤمنين أصحاب الرسالات السماوية في القدس، ودليلًا على أننا رعاة سلام ورخاء لكافة البشر".
بدأ التجهيز الفعلي للمشروع وتم تحديد مسار الترعة وتخصيص الموارد المالية والأراضي اللازمة، ولكن المشروع اصطدم بالمعارضة الشعبية، ثم بتهديد القيادة الأثيوبية على لسان رئيسها (منجستو هيلامريام) وكان شيوعيًا معاديًا لأمريكا والرأسمالية، تهديده بإجراء تغييرات حاسمة في مجرى النهر بالقوة العسكرية لو تم تنفيذ هذا المشروع، ناهيك عن وجود عقبات فنية كثيرة حالت دون تطبيق المشروع الذي كان سيشرف على تنفيذه بالمناسبة وزير الري الشهير (يوسف والي) الذي يشكك كثير من المحللين في أصوله اليهودية.
مصر كان لها وجودًا راسخًا في العمق الأفريقي الإستراتيجي أيام جمال عبد الناصر من خلال أنشطتها التجارية والاقتصادية التي كانت غطاء محكمًا لعملياتها المخابراتية، فلما جاء السادات أخذ الدور المصري في التراجع شيئا فشيئا، ثم جاء مبارك بعصره الطويل الكئيب، حيث أصبح التجاهل الكبير وهو شعار الدبلوماسية المصرية تجاه العمق الأفريقي، ثم ما لبث أن تحول التجاهل إلى قطيعة كاملة سنة 1995م في أعقاب محاولة اغتيال مبارك في أديس بابا، واكتفى مبارك في سياساته الخارجية على تبعيته المطلقة وخضوعه التام لأمريكا وإسرائيل، وتقزم دور مصر مبارك ليكون حارس البوابة الغربية للكيان الصهيوني، وحارس سجن غزة، وساعي البريد في الصراع العربي الإسرائيلي.
وفي المقابل وصل لسدة الحكم في أثيوبيا مليس زيناوي وهو عميل إسرائيلي أمريكي أطاح بحكم الشيوعي المستبد (منجستو) وذلك بعون أمريكي وإسرائيلي مباشر، وما إن ثبت أقدامه في الحكم هناك حتى بدأ الصهاينة في تنفيذ مشاريعهم القديمة في السيطرة والتحكم في منابع النهر العظيم، وحقيقة التواجد والإشراف والإدارة الإسرائيلية المباشرة لمشروع سد (النهضة) الأثيوبي أصبحت أوضح من إخفائها، فشركة (أجرو بروجيكت) الإسرائيلية المتخصصة في التكنولوجيا الزراعية هي المهيمنة على المشروعات الزراعية بأثيوبيا، وشركة (نيتافيم) لمعدات الري هي المشرفة على هندسة الري كذلك، ويعتبر البروفيسير الإسرائيلي (دان ديفوسكين) المشرف العام على المشروعات الزراعية بأثيوبيا، في حين يعتبر (إبريز ميلستار) مدير عام أكبر شركة إسرائيلية أثيوبية للمحاصيل الزراعية.
العجيب أنه في نفس السنة التي وقعت فيها القطيعة الكاملة مع أفريقيا وهي سنة 1995م قام مبارك بإحياء مشروع ترعة السلام، وذلك بعد عام واحد من فشل المحاولات الإسرائيلية من استيراد الماء من تركيا بسبب التكلفة الضخمة، حيث تم إطلاق مشروع تنمية شمال سيناء تحت شعار التنمية والتوسع العمراني لاستصلاح واستزراع 620 ألف فدان على مياه ترعة السلام وترعة الشيخ جابر الصباح، بنحو 4.45 مليار متر مكعب من المياه المخلوطة بين مياه النيل العذبة ومياه الصرف الزراعي، يبدأ مأخذ ترعة السلام غرب قناة السويس عند الكيلو 219 علي فرع دمياط أمام سد وهويس دمياط، تمتد الترعة جنوب شرق في اتجاه بحيرة المنزلة ثم جنوبًا حتى تتلقي مياه مصرف السرو، ثم تتجه شرقًا فجنوبًا علي حواف بحيرة المنزلة حتى تتلقي مياه مصرف حادوس، ثم تتجه شرقًا حتى قناة السويس عند الكيلو 27 جنوب بورسعيد، ثم تعبر أسفل قناة السويس عن طريق السحارة..
واستمر العمل في المشروع على ثلاث مراحل، حتى توقف المشروع في 2010م، كان تم تنفيذ المرحلة الأولى وتوقف العمل عند المرحلة الثانية بدعوى أن المرحلة الثالثة ستحتاج تمويل كبير لمد المياه حتى السر والقوارير في وسط سيناء. حيث اتضح أن السبب الحقيقي لوقف العمل هو خروج المشروع عن هدفه الحقيقي، وهو مد إسرائيل بالماء فقط، وامتداد آثاره نحو إحداث نهضة عمرانية كبيرة في منطقة سيناء، مما ينذر بحدوث خلخلة سكانية واقتصادية كبيرة في هذه المنطقة التي يحرص الصهاينة والأمريكان على بقائها منطقة فراغ جيو سياسي يتحركون خلالها بحرية، ناهيك عن امتداد أثر هذه النهضة العمرانية إلى غزة وفلسطين.
واليوم إسرائيل تدفع مصر نحو إحياء فكرة ترعة السلام بأهدافها الأصلية لا بأهدافها الجديدة التي ظهرت أثناء التنفيذ، بحيث تكون ترعة السلام ممرًا مائيًا ينقل جزءًا من مياه نهر النيل إلى الكيان الصهيوني، وذلك بخلق وضع سياسي شديد الضغط، لتكون مصر بين خيارين أحلاهما شديد المرارة ؛ أما أن تدفعوا ثمن المياه التي تأخذونها من أثيوبيا، وبالتالي تنهك مصر اقتصاديًا أكثر مما هي منهكة، وأما أن ترضخوا لفكرة تمرير مياه النهر إلى إسرائيل، وأثر هذا الرضوخ على مصر والمنطقة بأسرها.
مصر أمام واحدة من أعقد وأخطر قضاياها للأمن القومي، قضية المياه هي قضية مصيرية، حياة أو موت، وفي نفس الوقت خياراتها الإستراتيجية ضئيلة ومحدودة، والنظام الجديد مطالب بالتعامل مع وضع مأزوم تكلس عبر سنوات طويلة، وتدفع ضريبة عهود من السياسة الشوهاء في العمق الإستراتيجي الجنوبي، خلقت فراغًا جيو إستراتيجي نفذ منه الصهاينة، وشدوا أطراف مصر من جميع الاتجاهات، فضاقت خياراتها في التعامل مع الأزمة بالدرجة التي قد تلجئ مصر في النهاية للخضوع للابتزاز الإسرائيلي والأمريكي، فهل يكون عند مصر خيارات إستراتيجية، وبدائل عملية لمواجهة هذه الأزمة، أم أنها ستقدم تنازلات مؤلمة تزيد الوضع الداخلي احتقانًا أكثر مما هو كائن اليوم؟
شريف عبد العزيز الزهيري