سِحْرُ الإعلام.. أين نحن منه؟
للكلامِ المنمّقِ والبيانِ البليغ أثر على العقول والقلوب؛ يشبه أثر السحر الذي يجعل الأبصار الصحيحة تتوهّم الأمر المرئي المحسوس على خلاف ما هو عليه في الواقع.
- التصنيفات: الواقع المعاصر -
بسم الله الرحمن الرحيم
للكلامِ المنمّقِ والبيانِ البليغ أثر على العقول والقلوب؛ يشبه أثر السحر الذي يجعل الأبصار الصحيحة تتوهّم الأمر المرئي المحسوس على خلاف ما هو عليه في الواقع.
وقد دلّت على هذا الشريعةُ في غير موطن؛ منها قوله صلى الله عليه وسلم عندما قدم رجلان من المشرق فخطبا، فعجب الناس لبيانهما، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « » أو: « » (أخرجه مالك والبخاريّ).
قال ابن عبد البرّ في شرح معناه كما في (التمهيد [5/171]): "واختلف في المعنى المقصود إليه بهذا الخبر، فقيل: قصد به إلى ذمّ البلاغة؛ إذ شبّهت بالسّحر، والسّحر محرّم مذموم، وذلك لما فيها من تصوير الباطل في صورة الحق، والتفيهق، والتشدّق، وقد جاء في الثرثارين المتفيهقين ما جاء من الذم... وأبى جمهور أهل الأدب والعلم بلسان العرب إلا أن يجعلوا قوله صلى الله عليه وسلم: « » مدحاً وثناءً، وتفضيلاً للبيان وإطراءً، وهو الذي تدلّ عليه سياقة الخبر ولفظه".
وقال ابن التين: "والبيان نوعان، الأول: ما يبين به المراد، والثاني: تحسين اللفظ حتى يستميل قلوب السامعين. والثاني هو الذي يشبّه بالسحر، والمذموم منه ما يقصد به الباطل، وشبّهه بالسّحر لأن السحر صرف الشيء عن حقيقته" (فتح الباري لابن حجر ]14/409]).
ومنها قوله عليه الصلاة والسلام: « ...» (متفق عليه).
قال الصنعانيّ في معنى « »: "والمراد أن بعض الخصماء يكون أعرف بالحجة وأفطن لها من غيره" (سبل السلام [6/ 407]).
ولخّص ابن قتيبة المحذور على الأسماع من قوّة البيان، فقال في (تأويل مختلف الحديث [ص:299]): "ولا ينكر مع هذا أن يكون الجمال في اللسان، ولا أن تكون المروءة في البيان، ولا أنّه زينة من زين الدنيا وبهاء من بهائها، ما صحبه الاقتصاد، وساسه العقل، ولم يَمِل به الاقتدار على القول إلى أن يصغّر عظيمًا عند الله تعالى، أو يعظّم صغيراً، أو ينصر الشيء وضدّه، كما يفعل من لا دين له..".
وقديماً قيل:
في زخرف القول تزيينٌ لباطله *** والحقّ قد يعتريه سوءُ تعبيرِ
والصحيح الذي عليه قول المحققين من العلماء أن أبعد غاية يصلها سحر أكابر السحرة: هو التخييل والإيهام، والتأثير على أبصار الناس، وهو ما ذكره الله عن سحرة فرعون، وهم قد كانوا بلغوا في إتقان السحر ما جعلهم مذكورين به على سائر الناس في وقتهم، وجعل الله آية نبيهم موسى إنما جاءت لتبطله، وتظهر مواطن ضعفه وزيفه، إذ يقول سبحانه: {قَالَ أَلْقُوا فَلَمَّا أَلْقَوْا سَحَرُوا أَعْيُنَ النَّاسِ وَاسْتَرْهَبُوهُمْ وَجَاءُوا بِسِحْرٍ عَظِيمٍ} [الأعراف:116]، وقال سبحانه: {قَالَ بَلْ أَلْقُوا فَإِذَا حِبَالُهُمْ وَعِصِيُّهُمْ يُخَيَّلُ إِلَيْهِ مِن سِحْرِهِمْ أَنَّهَا تَسْعَى} [طه:66]، بل نبينا محمد صلى الله عليه وسلم أجرى الله عليه قدَره بعوارض السحر، فكان كما في (البخاري [3268]) عن عائشة قالت: "سُحِر النبيُّ صلى الله عليه وسلم حتّى كان يُخيّل إليه أنّه يفعل الشيء وما يفعله".
والمقصود أن التأثير على السمع والبصر هما أعلى مراتب التأثير والتأثّر وأخطرها، إذ السمع والبصر أعظم مصادر المعرفة المحسوسة عند البشر، فإذا كان الإنسان يسمع الكلمة تزيّنها أصباغ الفصاحة، ونقوش البلاغة، والصوتُ الرخيم، ويرى الأمر بعينه لا تمتري نفسه في حقيقته وصدقه؛ إذا كان كذلك ثم تبين أنه أتي من قبلهما فقد دخل عليه فساد عظيم في تصوّراته وأحكامه، وهذا هو أخطر ما في الإعلام اليوم!
لقد بلغ الإعلام اليوم مبلغاً ما خطر على بال أحد من قبل، وطوّع البشر ما أنتجته حضارتهم وصناعتهم لدفع الإعلام إلى غاية لا منتهى لها، بحيث لا يكاد يميز الناس من الأخبار التي تعرض فيه الصدق من الكذب، ولا الجدّ من اللعب، ولا الحقيقة من الوهم.
وخذ مثالاً على واقعنا مع الإعلام في أيامنا هذه، وهو أنك ترى دعاةً وعلماء و"نخباً" مختلفة -فضلاً عن العامّة- لا يعرفون أخبار ما يحصل في أطراف الدنيا، بل فيما هو أقرب من ذلك؛ كبلاد مجاورة، أو قرية قريبة إلا ما ينقله الإعلام المصوّر أو المسموع، وفيهم من الركون إلى هذه المصادر ما لا مزيد عليه في الثقة وحسن الظنّ.
وأنت إذا نظرت في حال هذه القنوات الإعلامية التي هي الواسطة في نقل تلك الأخبار وجدتها بارزة للناس في صورة هي الغاية في الإتقان؛ من كثرة مراسلين، وأجهزة حديثة، وآلات غريبة مختلفة، وتصوير دقيق باهر، لا يدرك الناس من أمره غير ما يتراءى لهم بادي الرأي منه، وقد بلغت التقنية اليوم أنها تقلب الحق باطلاً، والباطل حقاً، وإنها لتظهر الرجل الغافل في صورة الحارث الهمّام، وتُنسب إليه من الأقوال والأفعال ما لم يطرق ذهنه، ولم يخطر بباله، في هيئة دقيقة، وإتقان غريب، بحيث لو تنصّل مما في تلك الصور لأوشك أن يكذّبه الناس أجمعون.
ثم ينضاف إلى هذا كله هالاتٌ من الإكبار والاحترام تضفيها دول وهيئات وأمم! على قنوات بعينها، ويشهد لها هؤلاء جميعاً بالمهنيّة، والاحتراف، والصدق... إلخ، فإذا سمع الواحد منّا ذلك، واستقبل سمعه وبصره خبراً من تلك القنوات، على الصفة المتقدمة، لم يرتبْ في صدق ما رآه وسمعه في تلك القنوات.
لقد أظهرت هذه القنوات المظلوم في صورة وحش كاسر، والظالم في صورة الحمل الوديع، ونسبتْ إلى أفراد وجماعات ودول ما لا حقيقة له، كل ذلك خدمةً لأغراض ساسية أو فكرية، هي المحرّك الأساس الباعث لتلك القنوات على العمل.
والغفلة عن هذه المؤشرات ضررها عظيم، وخطرها جسيم، لا سيما على أهل العلم وطلابه ودعاة الخير، وأقل ما يحتاجه وما يجب أن يلتزم به من أراد أن يفيد من هذه القنوات ما تقدمه من أخبار وبرامج؛ هو أن يُنزِل هذه القنوات منزلة الراوي عند علماء النقل، فيعتبر أوصافه، وموجبات قبول خبره أو ردّه، وهذا مما ينبغي أن يكون من البدهيّات المسلّمة، ولكن غفل عنها الأكثرون.
فإنك تجد العالم أو طالب العلم يتوقّف في قبول حديث أو أثر؛ بسبب شبهة يسيرة تؤثر في عدالة راوٍ أو ضبطه، كالوهم اليسير، والإرسال الخفيّ، والضعف النسبيّ، والاختلاط غير الفاحش، والتدليس، ونحو هذا.. ثم تراه يقبل مئات الأخبار المتعلقة بقضايا كبرى، تؤثر في الفتوى والأحكام العامة، وتلامس واقع شعوب ودول مسلمة، ويترتب عليها من الآثار ما لا حصر له.. يقبل هذه الأخبار من قناة فضائية تزعم هي أو يُزعم أنها صادقة، وقد تكون قناة كافرة، يملكها ويديرها كفار حربيون!
بل قد تكون هذه القناة معلنةً بأصرح أسلوب أنها تحارب الإسلام -وإنْ في هيئة محاربة التطرف والإرهاب وما إلى هذه الألفاظ-، أو تكون مصرحة بخضوعها للماسونية، والعمل لنشر العلمانية، أو النصرانية أو اليهودية، ثم يأتي فئات من المثقفين والدعاة فيردّدون أخبارها، وما تنسجه من قصص وحكايات، ترديد الواثق الذي لا يخالجه شكّ، ولا يخالط قلبه ريب.
وخذ مثالاً على هذا ما يتصوّره أكثر المسلمين عن حقيقة ما كانت عليه دولة طالبان، أو حربا أفغانستان، أو حربا العراق، وما في معنى هذا من الأحداث الكبيرة التي لها صلة بالصراع بين الإسلام وقوى الشّر في هذا الزمان، هذا كله فضلاً عن أخبار الدول الكافرة نفسها، وأخبار من يتعاون معها أو يخدمها من العملاء دولاً أو أفراداً.
زد على هذا ما تواتر لدى العامّة والخاصّة من حرص أكثر القنوات -التي يركن إليها الناس في سماع الأخبار ورؤيتها- على الإشاعة، وإذاعة كل خبر غريب، ونشر كل نبأ شاذّ، فمنها من تشيع هذه الأخبار دون غرض سوى الظهور والشهرة، ولفت الأنظار، وتحقيق السبق في نقل الأخبار المميزة لدى الجماهير، ومنها من تشيعها لغرض مدروس، وغاية مقصودة، كإثارة فتنة، أو تحريك النعرات الكامنة، أو نشر الرعب بين الناس، أو غير ذلك.
والذي يقتضيه الشرع والعقل أن تعامل هذه القنوات التي هذه صفاتها بما يليق بها، إن لم تكن معاملة المتّهم بالكذب فلا أقلّ من معاملة المجهول الذي يجب التوقف في خبره، والتأمل في ما احتف به من قرائن في سنده ومتنه، أو بمنزلة أخبار بني إسرائيل التي لا تصدَّق ولا تكذّب، ثم إذا سلمت هذه الأخبار من العلل القادحة، وقرائن الضعف والكذب، فأقصى درجاتها أن تفيد الظنّ دون اليقين، وليست هذه دعوة إلى تطبيق قواعد المحدثين الدقيقة على هذه الأخبار[1]، إذ يلزم من هذا ردّ جميع الأخبار، ولكن المقصود عدم التغافل عن القوادح الظاهرة في أقلّ الأحوال.
لقد آن لنا أن نتحرر من أسر هذا السحر الذي يُسمّى (الإعلام) وأن نعي أنه لا ينفكّ مخبِر عن عقيدة، وفكر، ودين، ومذهب، وغاية يعمل لأجلها -أو ما يُسمّى في عبارة الصحفيين اليوم أجندة- وأنّ لدى هذا المخبِر من التأويل الصادق والكاذب ما يستسيغ معه تزوير بعض الحقائق، والتلاعب بصورة ينقلها، أو عبارة يصوغها.
آن لنا أن نتوسّط ونتأنّى ونتريّث، ونضع كلّ كلمة موضعَها.
آن لنا أن ندرس حقيقة هذا الإعلام وقنواته، وطرقه وأساليبه في التأثير على عقولنا، وعقول أمتنا وشبابنا ونخبنا.
آن لنا أن نزاحمه وندافعه بإعلام صادق هادف؛ ينقل الحقيقة من غير زيادة، ويقدّم النافع، ويتعامل بحكمة مع ما لا ينفع.
آن لنا أن نبرز السحر الحلال، عوضاً عن هذا السحر الذي هو في كثير من الأحيان أحد ضروب غواية الشيطان، وأغلاله التي ألقاها على بني الإنسان.
والله الموفق.
ـــــــــــــــــــ
[1]- (يقول الشيخ أحمد شاكر في مقدمة الباعث [1/3]: "هذا العلم في الحقيقة أساس لكلّ العلوم النقليّة" أي: بما في ذلك اللغة والأدب والشعر والتاريخ، فضلاً عن علوم الشريعة، فتأمّل).