التراكم في الحياة الزوجية (1)

منذ 2013-06-11

الحياة الزوجية قابلة لإحداث التراكم الإيجابي للخبرات والمشاعر إلى الدرجة التي تربط الطرفين لأقصى درجات الارتباط بين البشر، ومن جهة أخرى قابلة لإحداث التراكم السلبي أيضًا لأقصى الدرجات التي تدفع للقتل انتقامًا وخلاصًا من شريك قاهر وضاغط وخانق.

 

العلاقة الزوجية يميزها أنها علاقة شديدة القرب (معنويًا وحسيًا) شديدة الخصوصية، إضافة إلى كونها علاقة مستديمة وعلاقة حتمية، وهذه الخصائص في العلاقة الزوجية يفترض أن تؤدي إلى نتائج إيجابية، وهي فعلًا كذلك في حالة نجاحها وتحقيقها لمعاني السكن والمودة والرحمة التي وردت في توصيف أركان هذه العلاقة في القرآن الكريم: {وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ} [الروم:21]، أما إذا خرجت العلاقة عن هذا الإطار فإن كل الخصائص السابقة يمكن أن تتحول إلى مشكلات تتراكم عبر الزمن حتى تصبح مزمنة أو مستعصية، وقد تؤدي في قمة متصل التراكم إلى أن يقتل أحد الطرفين الآخر وبصورة بشعة.

علاقة شديدة القرب:
فمثلًا كونها علاقة شديدة القرب يعطي فرصة للاحتواء والذوبان الجميل، كما يعطي فرصة على الناحية الأخرى للاحتكاكات والتربصات والعلاقات المؤلمة جسديًا ونفسيًا، ولا يعني الذوبان هنا أن يذوب كل منهما في شخصية الآخر لأن هذا إلغاء للشخصية وتحطيمًا للثقة بالنفس وإلغاء للآخر.. ولكن المطلوب الاستقلالية وتحمل المسئولية واتخاذ القرار (سنة أولى زواج، هيام محمد يوسف، ص 28).

علاقة شديدة الخصوصية:
وكونها علاقة شديدة الخصوصية يعطي فرصة لحفظ الأسرار والثقة والإفصاح عن الذات دون قيود أو تحفظ، كما يعطي فرصة على الناحية الأخرى لاستغلال الأسرار وابتزاز صاحبها (أو صاحبتها) وإذلاله أو فضحه.

علاقة مستديمة:
وكونها علاقة مستديمة يعطي فرصة لتراكم الذكريات الجميلة والمشاعر الحلوة، كما يعطي على الجانب الآخر فرصة لتراكم مشاعر الإحباط والغضب والكراهية.

علاقة حتمية:
وكونها علاقة حتمية يعطي إيحاءً للطرفين بالارتباط الدائم والآمن في الدنيا والآخرة، وعلى الجانب الآخر يمكن أن يعطي إحساسًا بالدخول في طريق مسدود مع شريك نعاني منه ولا نرغبه ولا نستطيع الفكاك من قيوده.

التراكمات والارتباطات الشرطية:
والتراكمات سواء كانت إيجابية أم سلبية تحدث ما يسمى بالارتباط الشرطي، بمعنى أنه حيثما كانت العلاقة جيدة  فإن هناك رصيدًا من الأحداث والذكريات الجميلة والأحاسيس اللذيذة تجعل كلا الزوجين حين يلتقيان يشعران بالراحة والأمان والمودة والسعادة؛ لأن ظهور أحدهما على شاشة وعي الآخر يفتح في النفس نوافذ يظهر من خلالها تاريخ ممتد من اللحظات السعيدة، وحيثما كانت العلاقة سيئة فإن ظهور أحدهما على شاشة وعي الآخر يستدعي مشاعر سيئة مرتبطة بتاريخ طويل من الصراع المرير والمعاناة المؤلمة، وقد يصل الأمر عند بعض الأزواج أن يشعر بصداع شديد أو غثيان حين يرى شريك حياته! وكأن الارتباط الشرطي امتد من النفس إلى الجسد وشمل كل نبضة روح وكل خلية جسد!

وربما لا تكون الأمور في الواقع بهذا التبسيط الثنائي بين السعادة والتعاسة، وإنما هي مزيج من هذا وذاك ولكن ما يهمنا هو حصيلة ذلك التراكم وهل هو في الاتجاه الإيجابي أم السلبي على وجه العموم، وهناك علامة بسيطة تعطينا انطباعًا عن حصيلة التراكمات بين أي زوجين وهي: أنه كلما اشتاقا لبعضهما وسعيا نحو التواجد معًا فهذه دلالة على ميل التراكم نحو الإيجابية ووجود ارتباطات شرطية سارة، والعكس صحيح، وربما يفسر لنا هذا اشتياق كثير من الزوجات لكلمة (وحشتيني) (اشتقت إليك) من الزوج لأن هذه الكلمة رغم بساطتها وقلة حروفها إلا أنها تعبر عن هذا التراكم الإيجابي للأحداث والذكريات، وتعبر عن الارتباطات الشرطية السارة بين الزوجين، وتدل على أن حضور الزوجة في وعي زوجها يفتح لديه نوافذ للسكينة والطمأنينة والمودة والحب والراحة والمتعة.

الهروب من النكد:
"يشكو الرجل من أن زوجته نكدية وأن بيته قطعة من الجحيم، يعود إلى بيته فتداهمه الكآبة، ويطالعه وجه زوجته الغاضب الحاد النافر المتجاهل الصامت" (متاعب الزواج د/ عادل صادق ص176)، ومن هنا نفهم أيضًا لماذا ينفر الرجال من الزوجة النكدية أو الغيورة، حيث أن حضور الأولى يرتبط بشكوك واتهامات وتساؤلات ونزاعات، وحضور الثانية يرتبط بالحزن والهم والغم، وبتراكم هذه المشاعر بمرور السنين تتكون منظومات من الارتباطات الشرطية تجعل مجرد رؤية أو سماع أو حتى تذكر الطرف الآخر يفتح بركانا من المشاعر السيئة والمؤلمة، ولهذا فالمرأة التي تجعل جو البيت مشحونًا ومضطربًا تساهم في دفع زوجها للبحث عن مشاعر سارة خارج المنزل، فإذا حدث وتلقفته امرأة أخرى وكان حضورها في وعيه مريحًا وسارًا فإن تراكمات سعيدة تبدأ في التكون ويختل الميزان لغير صالح الزوجة حيث تدفع هي زوجها بالتراكمات السلبية في حين تجتذب الأخرى هذا الزوج بالتراكمات السعيدة والارتباطات السارة..

وهذه أحد الجوانب النفسية لحدوث الخيانة الزوجية واستمرارها خاصة مع الزوجة شديدة الغيرة، أو الزوج شديد الغيرة فكلاهما يجعل لقاء الآخر به مؤلمًا ويجعل فكرة الخيانة لديه نشطة طول الوقت، وحين تكتشف الخيانة تزداد الخلافات الزوجية، ويختل الميزان أكثر وأكثر فينفر الزوج من الزوجة إلى العشيقة، أو تنفر الزوجة من الزوج إلى العشيق.

أروع لذة للجهاز العصبي:
ومن أحد أسرار العلاقة الحميمة بين الزوجين أنها تربطهما بمشاعر سارة طوال حياتهما، وتجعل بينهما كنز من الذكريات والأحاسيس الجميلة، وقد عبر الرسول صلى الله عليه وسلم عن هذه اللذة بقوله: «حتى تذوقي عسيلته ويذوق عسيلتك» (رواه البخاري ومسلم)، "العلاقة الجنسية الناجحة هي باب من أبواب السعادة والراحة النفسية، والقبول والرضى عن الآخر، الذي يولد ارتباطا ومحبة عاطفية عميقة تسمو بعد ذلك عن كل شيء، وإن كانت العلاقة الجنسية تمدها بالتجدد والشوق للآخر" (حتى يبقى الحب د/محمد محمد بدري ص377).

ولهذا خص الله هذه العلاقة بأعلى درجات من اللذة الحسية يمكن أن يتذوقها الجهاز العصبي، وكأن المقصود أن يدمن كل منهما الآخر من خلال ارتباطات شرطية سعيدة ولذيذة تعوض وتوازن ما يتعرضان له من متاعب الحياة ومسئوليات الأسرة والأبناء، ولهذا نقلق كثيرًا حين تضطرب هذه العلاقة بين الزوجين لأن معنى هذا أن ثمة اضطراب متوقع في ميزان التراكمات، وربما ترجح كفة التراكمات السلبية فيزهد أحد الزوجين الآخر أو يبغضه، وربما يفسر لنا هذا الأمر كراهة الطلاق من الناحية الشرعية أثناء فترة الحيض ونهي الرسول صلى الله عليه وسلم عنه؛ لأن في هذه الفترة تتوقف هذه العلاقة الحميمة وربما يختل التوازن ناحية التراكمات السلبية خاصة إذا كان رصيد الزوجين من التراكمات الإيجابية ضعيفًا.

ميزان التراكم:
إذًا فالحياة الزوجية قابلة لإحداث التراكم الإيجابي للخبرات والمشاعر إلى الدرجة التي تربط الطرفين لأقصى درجات الارتباط بين البشر، ومن جهة أخرى قابلة لإحداث التراكم السلبي أيضًا لأقصى الدرجات التي تدفع للقتل انتقامًا وخلاصًا من شريك قاهر وضاغط وخانق.

ونستطيع القول: بأن نوعية الحياة الزوجية تتوقف على ترجيح نوع التراكم، فإذا رجحت كفة التراكم الإيجابي كانت الحياة الزوجية أقرب للسعادة بقدر درجة الرجحان، والعكس صحيح، أما إذا كانت الكفتان متقاربتان فنحن هنا أمام حياة زوجية على الحافة، وسلوك الزوجين وسلوك من حولهما يدفع إلى رجحان أحد الكفتين، فإما أن يطلقا وإما أن يتجها إلى بعض التوافق، وأحيانًا تظل الكفتين متأرجحتين وتظل الحياة الزوجية تحت التهديد لسنوات طويلة، وهذا في الحقيقة وضع مؤلم لأنه يضع الطرفين في صراع لا يحسم، فمن ناحية توجد أشياء إيجابية تربطهم، ومن ناحية أخرى توجد تراكمات سلبية تبعدهم، وفي علاقة كهذه نتوقع وجود مشاعر متناقضة من الحب والبغض، والرضا والسخط، والأمان والخوف، وفوق كل هذا حيرة لا تنتهى.
وللحديث بقية.

المصادر:
متاعب الزواج  د. (عادل صادق).
سنة أولى زواج (هيام محمد يوسف).




أم عبد الرحمن محمد يوسف

 

المصدر: مجلة البيان
  • 2
  • 0
  • 8,197

هل تود تلقي التنبيهات من موقع طريق الاسلام؟

نعم أقرر لاحقاً