الإرشاد إلى سعة الصدر في مسائل الاجتهاد
والمسائل الاجتهادية هي التي ليس فيها نص من كتاب ولا سنة ولا إجماع، أو فيها نصوص متعارضة في الظاهر، أو سنة مختلف في ثبوتها.
قال الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنكُمْ فَإن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إن كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً} [النساء:59]. أمر الله المؤمنين في هذه الآية بطاعته وطاعة رسوله وأولي الأمر، وهم العلماء والأمراء (تفسير ابن كثير [2/345])، فإن حصل تنازع واختلاف في أي مسألة فليردوا حكمها إلى الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، قال الله تعالى: {وَمَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِن شَيْءٍ فَحُكْمُهُ إلَى اللَّهِ} [الشورى:10]، فيستنبط من وفّقهم الله من أهل العلم حكمَ الله في المسألة المتنازع فيها كما قال سبحانه: {وَلَوْ رَدُّوهُ إلَى الرَّسُولِ وَإلَى أُوْلِي الأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنبِطُونَهُ مِنْهُمْ} [النساء:83]، ولم يقل لعلموه كلهم، بل بعض العلماء يعلمه وبعضهم لا يعلمه، ولذا يحصل الخلاف في الفهم بين العلماء كثيراً، قال الله تعالى: {وَدَاوُدَ وَسُلَيْمَانَ إذْ يَحْكُمَانِ فِي الْـحَرْثِ إذْ نَفَشَتْ فِيهِ غَنَمُ الْقَوْمِ وَكُنَّا لِـحُكْمِهِمْ شَاهِدِينَ . فَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَانَ وَكُلاًّ آتَيْنَا حُكْمًا وَعِلْمًا} [الأنبياء:78-79]، قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: "فهذان نبيان كريمان حكما في حكومة واحدة فخص الله أحدهما بفهمها مع ثنائه على كل منهما بأنه آتاه الله حكماً وعلماً، فكذلك العلماء المجتهدون رضي الله عنهم للمصيب منهم أجران، وللآخر أجر، وكل منهم مطيع لله بحسب استطاعته، لا يكلفه الله ما عجز عن علمه" ا.هـ (مجموع الفتاوى [33/41]).
والمسائل الاجتهادية هي التي ليس فيها نص من كتاب ولا سنة ولا إجماع، أو فيها نصوص متعارضة في الظاهر، أو سنة مختلف في ثبوتها (انظر الفتاوى الكبرى لابن تيمية [3/160]، وأعلام الموقعين لابن القيم [3/252])، فيختلف أهل العلم في المسائل الاجتهادية لاختلاف أفهامهم، فمنهم من يصيب فله أجران، ومنهم من يخطئ فله أجر واحد، وخطؤه مغفور له؛ لأن إدراك الصواب في جميع المسائل الاجتهادية إما متعذر أو متعسر، وقد قال الله تعالى: {وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ} [الحج:78]، وقال: {يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ} [البقرة:185]، وعن عمرو بن العاص رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إذا حكم الحاكم فاجتهد ثم أصاب فله أجران، وإذا حكم فاجتهد وأخطأ فله أجر» (أخرجه البخاري [6919]، ومسلم [1716])، وهذا من رحمة الله وتيسيره لهذه الأمة، قال سبحانه: {وَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ فِيمَا أَخْطَأْتُم بِهِ وَلَكِن مَّا تَعَمَّدَتْ قُلُوبُكُمْ} [الأحزاب:5]، وفي الدعاء العظيم الذي علمه الله عباده في آخر سورة البقرة: {رَبَّنَا لا تُؤَاخِذْنَا إن نَّسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا} [البقرة:286] قال الله: قد فعلت كما في صحيح مسلم من حديث ابن عباس (صحيح مسلم [126]).
فإذا كان الأمر كذلك فلا يجوز التشنيع على العالم إذا أخطأ في مسألة اجتهادية لم يوفّق للصواب في اجتهاده فيها، ولا يلزم من خطئه فيها أن يكون آثماً، بل له أجر على اجتهاده كما سبق بيانه، وكذلك لا يشنع على من أخذ بقوله من العامة، فإن الواجب عليهم سؤال أهل العلم كما قال الله: {فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إن كُنتُمْ لا تَعْلَمُونَ} [النحل:43]، فإن سألوا من يثقون بعلمه فقد قاموا بما أوجب الله عليهم، ولا يكلف الله نفساً إلا وسعها، قال شيخ الإسلام: "الحاكم ليس له أن ينقض حكم غيره في مثل هذه المسائل ولا للعالم والمفتي أن يلزم الناس باتباعه في مثل هذه المسائل... وكذلك قال غير واحد من الأئمة: ليس للفقيه أن يحمل الناس على مذهبه، ولهذا قال العلماء: إن مثل هذه المسائل الاجتهادية لا تنكر باليد وليس لأحد أن يلزم الناس باتباعه فيها، ولكن يتكلم فيها بالحجج العلمية، فمن تبين له صحة أحد القولين تبعه، ومن قلد أهل القول الآخر فلا إنكار عليه" ا.هـ (مجموع الفتاوى [30/79]). وينبغي التنبيه إلى أن المسائل الاجتهادية هي التي يسوغ فيها الخلاف لاختلاف الأفهام، وأما المسائل الواضحة التي فيها نص أو إجماع فلا يجوز الاجتهاد فيها، والخلاف فيها شر لا يسوغ ولا يجوز.
وليسَ كُل خلافٍ جاء معتبراً *** إلا خلاف له حظٌ من النظرِ
قال شيخ الإسلام رحمه الله: "وقولهم مسائل الخلاف لا إنكار فيها ليس بصحيح، فإن الإنكار إما أن يتوجه إلى القول بالحكم أو العمل، أما الأول فإذا كان القول يخالف سنة أو إجماعاً قديماً وجب إنكاره وفاقاً، وإن لم يكن كذلك فإنه ينكر بمعنى بيان ضعفه عند من يقول: المصيب واحد، وهم عامة السلف والفقهاء، وأما العمل فإذا كان على خلاف سنة أو إجماع وجب إنكاره أيضاً بحسب درجات الإنكار... وأما إذا لم يكن في المسألة سنة ولا إجماع وللاجتهاد فيها مساغ لم ينكر على من عمل بها مجتهداً أو مقلداً، وإنما دخل هذا اللبس من جهة أن القائل يعتقد أن مسائل الخلاف هي مسائل الاجتهاد كما اعتقد ذلك طوائف من الناس، والصواب الذي عليه الأئمة أن مسائل الاجتهاد ما لم يكن فيها دليل يجب العمل به وجوباً ظاهراً مثل حديث صحيح لا معارض له من جنسه؛ فيسوغ إذا عدم ذلك فيها الاجتهاد لتعارض الأدلة المتقاربة أو خفاء الأدلة فيها، وليس في ذكر كون المسألة قطيعة طعن على من خالفها من المجتهدين كسائر المسائل التي اختلف فيها السلف وقد تيقنا صحة أحد القولين فيها" ا.هـ مختصراً (الفتاوى الكبرى [3/160]).
وبهذا يتبين أن من رجَّح قولاً من الأقوال في المسائل الاجتهادية، لا يجوز لأحد أن يطعن فيه، ولا أن يطعن فيمن أخذ بقوله من العامة، ولا يكرههم على قولهم، بل هذا من فعل أهل الغلو والبدعة الذين يفرِّقون الأمة فيوالون ويعادون على المسائل الاجتهادية، فيؤذون المؤمنين ويمتحنونهم ويقعون في أعراضهم وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعاً!! قال تعالى: {وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ الْـمُؤْمِنِينَ وَالْـمُؤْمِنَاتِ بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبُوا فَقَدِ احْتَمَلُوا بُهْتَانًا وَإثْمًا مُّبِينًا} [الأحزاب:58]، وقال النبي صلى الله عليه وسلم: «إن من شرار عباد الله من هذه الأمة المشَّاؤون بالنميمة، المفرِّقون بين الأحبة، الباغون للبرآء العنت» (أخرجه أحمد [2/400] من حديث عبد الرحمن بن علم وصححه الألباني في السلسلة الصحيحة [2849])، أي يطلبون العيوب القبيحة للأبرياء، وقال النبي صلى الله عليه وسلم: «يظهر قوم يقرؤون القرآن يقولون من أقرأ منا؟ من أعلم منا؟ من أفقه منا؟ ثم قال لأصحابه: هل في أولئك من خير؟ قالوا: الله ورسوله أعلم. قال: أولئك هم وقود النار» (صحيح الترغيب والترهيب للألباني [1/166])، وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «صنفان من أمتي لا تنالهما شفاعتي: سلطان غشوم ظالم، وغالٍ في الدين يشهد عليهم ويتبرأ منهم» (أخرجه ابن أبي عاصم في كتاب السنة [1/23] وصححه الألباني في السلسلة الصحيحة [7628]).
قال شيخ الإسلام رحمه الله: "ليس لأحد أن ينصب للأمة شخصاً يدعو إلى طريقته ويوالي عليه ويعادي غير كلام الله ورسوله وما اجتمعت عليه الأمة، بل هذا من فعل أهل البدع الذين ينصبون لهم شخصاً أو كلاماً يفرِّقون به بين الأمة يوالون به على ذلك الكلام أو تلك النسبة ويعادون" ا.هـ (مجموع الفتاوى [20/164]). وقال شيخ الإسلام أيضاً: "قاعدة في صفات العبادات الظاهرة التي حصل فيها تنازع بين الأمة في الرواية والرأي، مثل: الآذان، والجهر بالبسملة، والقنوت في الفجر، والتسليم في الصلاة، ورفع الأيدي فيها، ووضع الأكف فوق الأكف، ونحو ذلك، فإن التنازع في هذه العبادات الظاهرة أوجب أنواعاً من الفساد الذي يكرهه الله ورسوله وعباده المؤمنون: أحدها: جهل كثير من الناس أو أكثرهم بالأمر المشروع. الثاني: ظلم كثير من الأمة أو أكثرهم بعضهم لبعض وبغيهم عليهم. الثالث: اتباع الظن وما تهوى الأنفس. الرابع: التفرق والاختلاف المخالف للاجتماع والائتلاف حتى يصير بعضهم يبغض بعضاً ويعاديه، ويحب بعضاً ويواليه على غير ذات الله، وحتى يفضي الأمر ببعضهم إلى الطعن واللعن والهمز واللمز، وببعضهم إلى الاقتتال بالأيدي والسلاح، وببعضهم إلى المهاجرة والمقاطعة حتى لا يصلي بعضهم خلف بعض؛ وهذا كله من أعظم الأمور التي حرمها الله ورسوله، والاجتماع والائتلاف من أعظم الأمور التي أوجبها الله ورسوله..
قال الله تعالى: {وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلا تَفَرَّقُوا} [آل عمران:103]، وهذا الأصل العظيم، وهو الاعتصام بحبل الله جميعاً وأن لا يُتفرق؛ هو من أعظم أصول الإسلام، ومما عظمت به وصية النبي صلى الله عليه وسلم كقوله صلى الله عليه وسلم: «ألا أنبئكم بأفضل من درجة الصلاة والصيام والصدقة والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر؟ قالوا: بلى يا رسول الله. قال: صلاح ذات البين، فإن فساد ذات البين هي الحالقة، لا أقول: تحلق الشعر، ولكن تحلق الدين» (أخرجه أحمد وأبو داود والترمذي وهو في صحيح الجامع الصغير [2595]). ثم قال: عامة هذه التنازعات إنما في أمور مستحبات ومكروهات لا في واجبات ومحرمات" ا.هـ مختصراً (مجموع الفتاوى [22/356 – 368]).
وقال الإمام ابن تيمية أيضاً: "مسألة البسملة الخطب فيها يسير، وأما التعصب لهذه المسائل ونحوها فمن شعائر الفرقة والاختلاف الذي نهينا عنها إذ الداعي لذلك هو ترجيح الشعائر المفرقة بين الأمة، وإلا فهذه المسائل من أخف مسائل الخلاف جداً لولا ما يدعو إليه الشيطان من إظهار شعار الفرقة... ويستحب للرجل أن يقصد إلى تأليف القلوب بترك هذه المستحبات، لأن مصلحة التأليف في الدين أعظم من مصلحة فعل مثل هذا كما ترك النبي صلى الله عليه وسلم تغيير بناء البيت لما في إبقائه من تأليف القلوب وكما أنكر ابن مسعود على عثمان إتمام الصلاة في السفر ثم صلى خلفه متماً وقال: الخلاف شر" ا.هـ (مجموع الفتاوى [22/405 – 408]).
وينبغي أن يُعلم أن أكثر المسائل الاجتهادية لا يقطع المجتهد بالصواب فيها، بل يرجح قولاً على قول بحسب ما يغلب على ظنه أنه الصواب، فإنه إذا تعذر الوصول إلى اليقين تكفي غلبة الظن، وهذا من يسر الشريعة وسماحتها، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: «إنكم تختصمون إليّ، ولعل بعضكم أن يكون ألحن بحجته من بعض فأقضي له على نحوٍ مما أسمع منه، فمن قطعت له من حق أخيه شيئاً فلا يأخذه، فإنما أقطع له به قطعة من النار» (أخرجه البخاري [2534] ومسلم [1713]). وما أحسن ما قاله الإمام الشافعي رحمه الله تعالى: "قولي صواب يحتمل الخطأ، وقول المخالف خطأ يحتمل الصواب". فالعالم الواسع الاطلاع يتسع صدره للمخالفين له؛ لمعرفته بأقوال العلماء، وأدلتهم، ولتمييزه بين الأدلة القطعية والظنية والدلالات القطعية والظنية، ومعرفته بخلاف العلماء في بعض القواعد الأصولية والفقهية والحديثية، ومعرفته بخلاف أئمة الحديث في الجرح والتعديل وتصحيح بعض الأحاديث وتضعيفها، فالحديث المختلف في تصحيحه أو تضعيفه قد يرجح المجتهد صحته وهو ضعيف في نفس الأمر، وقد يرجح ضعفه وهو صحيح في نفس الأمر، وهذا أمر معلوم عند أهل العلم (راجع رسالة رفع الملام عن الأئمة الأعلام لابن تيمية، والكفاية في عِلم الرواية للخطيب ص[52] وما بعدها، وشرح الألفية للعراقي ص [9]). قال الحافظ ابن حجر رحمه الله: "تعليل الأئمة للأحاديث مبني على غلبة الظن" ا.هـ (فتح الباري [1/585]).
فالعلماء المنصفون يعرفون متى يجزمون بما ترجح لديهم ومتى لا يجزمون، ويفرقون بين مقام الجزم ومقام الاحتمال، ويعيبون على من يجزم في مقام الاحتمال (انظر على سبيل المثال: فتح الباري [2/87]، [2/122]). ومن اصطلاح بعض العلماء أنهم يقولون: هذا القول أصح إذا كان القول الآخر صحيحاً غير ضعيف، وله قوة وحظ من النظر، ويقولون: هذا القول هو الصحيح إذا كان القول الآخر ضعيفاً (انظر مقدمة منهاج الطالبين للنووي). والعالم المنصف يفقه أحكام المصالح والمفاسد، فإن الشريعة جاءت بتحصيل المصالح وتكميلها، وتعطيل المفاسد وتقليلها بحسب الإمكان، ومطلوبها ترجيح خير الخيرين إذا لم يمكن أن يجتمعا معاً، ودفع شر الشرين إذا لم يندفعا جميعاً، فهي تحصل المصلحتين بتفويت أدناهما، وتدفع أعظم المفسدتين باحتمال أدناهما (انظر فتاوى ابن تيمية [20/48] [23/343]). وقد يقع الاشتباه والتردد في باب المصالح والمفاسد، والعالم المنصف لا يستهين بغيره من العلماء وأهل الخبرة، بل يحرص على معرفة أقوالهم، ويطلب مشاورتهم، فإن خالفوه في تقدير المصالح والمفاسد عذرهم..
قال شيخ الإسلام رحمه الله: "وهذا الباب واسع جداً لا سيما في الأزمنة والأمكنة التي نقصت فيها آثار النبوة وخلافة النبوة، فإن هذه المسائل تكثر فيها، وكلما ازداد النقص ازدادت المسائل، ووجود ذلك من أسباب الفتنة بين الأمة، فإنه إذا اختلطت الحسنات بالسيئات وقع الاشتباه والتلازم، فأقوام قد ينظرون إلى الحسنات فيرجحون هذا الجانب وإن تضمن سيئات عظيمة، وأقوام قد ينظرون إلى السيئات فيرجحون الجانب الآخر وإن ترك حسنات عظيمة، والمتوسطون ينظرون للأمرين وقد لا يتبين لهم أو لأكثرهم مقدار المنفعة والمضرّة أو يتبين لهم ولا يجدون من يعينهم على العمل بالحسنات وترك السيئات، لكون الأهواء قارنت الآراء، فينبغي للعالم أن يتدبر أنواع هذه المسائل" (مجموع الفتاوى [20/257]).
وأختم مقالتي هذه ببعض النقولات النفيسة التي تبين ما كان عليه أهل العلم الراسخون من سعة الصدر في مسائل الاجتهاد، فإنه مَنْ كثر علمه اتسع صدره وصان لسانه، ومَنْ قلَّ علمه ضاق صدره وأطلق لسانه، قال بعض العلماء: العلم ثلاثة أشبار: فمن دخل في الشبر الأول تكبر، ومن دخل في الشبر الثاني تواضع، ومن دخل في الشبر الثالث علم أنه لا يعلم.
العلم بحر منتهاه يبعد *** ليس له حدٌّ إليه يُقصد
وليس كل العلم قد حويته *** أجل ولا العشر ولو أحصيته
وما بقي عليك منه أكثر *** مما علمت والجواد يعثر
وقال بعض السلف: من لم يسمع الاختلاف فلا تعدوه عالماً (جامع بيان العلم وفضله لابن عبد البر [2/102]). وعن الأعمش قال: "أدركت أشياخنا زراً وأبا وائل فمنهم من عثمان أحب إليه من علي، ومنهم من علي أحب إليه من عثمان، وكانوا أشد شيءٍ تحاباً وتواداً" (سير أعلام النبلاء [4/169]). وقال يونس الصدفي: ما رأيت أعقل من الشافعي، ناظرته يوماً في مسألة ثم افترقنا، ولقيني فأخذ بيدي ثم قال: "يا أبا موسى ألا يستقيم أن نكون إخواناً وإن لم نتفق في مسألة!"، قال الذهبي معلقاً على هذه القصة: "هذا يدل على كمال عقل هذا الإمام وفقه نفسه فما زال النظراء يختلفون" (سير أعلام النبلاء [10/16]). وعن يحيى بن سعيد قال: "ما برح المستفتون يستفتون فيحل هذا ويحرّم هذا، فلا يرى المحرّم أن المحلل هلك لتحليله، ولا يرى المحلل أن المحرّم هلك لتحريمه" (جامع بيان العلم وفضله [2/161]). وقال سفيا سير أعلام النبلاء [4/169] ن الثوري: "إذا رأيت الرجل يعمل بعمل قد اختلف فيه وأنت ترى غيره فلا تنهه" (فتح البر بترتيب التمهيد لابن عبد البر [4/548]).
وأخيراً: أنقل بعض كلام أهل العلم فيمن أخطأ في المسائل التي لا يسوغ فيها الاجتهاد، ولا يجوز فيها الخلاف، ليتبين إنصافهم وعدلهم حتى مع من وقع في بدعة أو كان من المبتدعة، وليعلم أنهم أرحم الناس بالناس ولكن أكثرهم لا يعلمون.
قال الشاطبي: "الابتداع من المجتهد لا يقع إلا فلتة، وبالعرض لا بالذات، وإنما تسمى غلطة أو زلة، لأن صاحبها لم يقصد اتباع المتشابه ابتغاء الفتنة وابتغاء تأويل الكتاب، أي لم يتبع هواه ولا جعله عمدة، والدليل عليه أنه إذا ظهر له الحق أذعن له وأقرَّ به" (الاعتصام ص 114 بتصرف). وقال الذهبي: "ولو أن كل من أخطأ في اجتهاده مع صحة إيمانه وتوخيه لاتباع الحق أهدرناه وبدعناه، لقلّ من يَسْلم من الأئمة معنا" (سير أعلام النبلاء [14/376]). وقال المقبلي: "ومن المعلوم أنه ليس من الفرقة الناجية أن لا يقع منها أدنى اختلاف، فإن ذلك قد كان في فضلاء الصحابة، إنما الكلام في مخالفة تصير صاحبها فرقة مستقلة ابتدعها" (العلم الشامخ ص [414]).
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية: "إن المتأول الذي قصد متابعة الرسول صلى الله عليه وسلم لا يكفّر ولا يفسّق إذا اجتهد فأخطأ، وهذا مشهور عند الناس في المسائل العملية، وأما مسائل العقائد فكثير من الناس كفّر المخطئين فيها، وهذا القول لا يعرف عن أحد من الصحابة والتابعين لهم بإحسان، ولا عن أحد من أئمة المسلمين، وإنما هو في الأصل من أقوال أهل البدع الذين يبتدعون بدعة ويكفّرون من خالفهم" (منهاج السنة [5/239]). وقال شيخ الإسلام في معرض رده على الأشاعرة: "ثم إنه ما من هؤلاء إلا من له مساع مشكورة وحسنات مبرورة، وله في الرد على كثير من أهل الإلحاد والبدع، والانتصار لكثير من أهل السنة والدين، ما لا يخفى على من عرف أحوالهم، وتكلم فيهم بعلم وصدق وعدل وإنصاف، وخير الأمور أوسطها.. والله يتقبل من جميع عباده المؤمنين الحسنات، ويتجاوز لهم عن السيئات: {وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلإخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالإيمَانِ وَلا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلاًّ لِّلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إنَّكَ رَءُوفٌ رَّحِيمٌ} [الحشر:10]" (درء تعارض العقل والنقل [2/102 - 103] باختصار).
وقال أيضاً: "إذ قال المؤمن: {وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلإخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالإيمَانِ وَلا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلاًّ لِّلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إنَّكَ رَءُوفٌ رَّحِيمٌ} [الحشر:10]، يقصد كل من سبقه من قرون الأمة بالإيمان، وإن كان قد أخطأ في تأويل مخالف للسنة، أو أذنب ذنباً، فإنه من إخوانه الذين سبقوه بالإيمان، فيدخل في العموم، وإن كان من الثنتين والسبعين فرقة، فإنه ما من فرقة إلا وفيها خلق كثير ليسوا كفاراً بل مؤمنين فيهم ضلال وذنب يستحقون به الوعيد كما يستحق عصاة المؤمنين" (منهاج السنة النبوية [5/240]).
وقال ابن القيم الجوزية: "أهل البدع الموافقون لأهل الإسلام ولكنهم مخالفون في بعض الأصول كالرافضة والقدرية والجهمية وغلاة المرجئة ونحوهم، أقسام:
أحدها: الجاهل المقلد الذي لا بصيرة له، فهذا لا يُكفر ولا يفسق ولا ترد شهادته إذا لم يكن قادراً على تعلم الهدى، وحكمه حكم المستضعفين من الرجال والنساء والولدان الذين لا يستطيعون حيلة ولا يهتدون سبيلاً، فأولئك عسى الله أن يعفو عنهم وكان الله عفواً غفوراً.
القسم الثاني: المتمكن من السؤال وطلب الهداية ومعرفة الحق ولكن يترك ذلك اشتغالاً بدنياه ورياسته، ولذته ومعاشه وغير ذلك، فهذا مفرِّط مستحق للوعيد، وآثم بترك ما وجب عليه من تقوى الله بحسب استطاعته، فهذا حكمه حكم أمثاله من تاركي بعض الواجبات، فإن غلب ما فيه من البدعة والهوى على ما فيه من السنة والهدى ردت شهادته، وإن غلب ما فيه من السنة والهدى قبلت شهادته.
القسم الثالث: أن يسأل ويطلب، ويتبين له الهدى، ويتركه تقليداً وتعصباً أو بغضاً أو معاداة لأصحابه، فهذا أقل درجاته أن يكون فاسقاً، وتكفيره محل اجتهاد وتفصيل، فإن كان معلناً داعية ردت شهادته وفتاويه وأحكامه مع القدرة على ذلك، ولم تقبل له شهادة ولا فتوى ولا حكم إلا عند الضرورة (الطرق الحكمية في السياسة الشرعية ص 138 - 139 باختصار).
اللهم ألِّف بين قلوبنا، وأصلح ذات بيننا، وحبِّب إلينا الإيمان وزينه في قلوبنا، وانصرنا على عدوك وعدونا.
أبو الحارث محمد المطري
- التصنيف: