الشيخ صالح الحصين: المفكّر الإسلامي المصلح (3)
وظّف الشيخ صالح الحصين رحمه الله معارفه وسعة اطلاعه وتنوع ثقافته في خدمة الإسلام، بيانًا لأحكامه، ودفعاُ للشبهات التي تثار حوله، ولا سيما تلك التي ترِد من خصوم الإسلام ومن يروّج خصومتهم للإسلام والمسلمين من بني جلدتنا ..
- التصنيفات: الدفاع عن علماء أهل السنة والجماعة - تراجم العلماء -
وأمَّا الجانب الفكري فقد وظّف الشيخ صالح الحصين رحمه الله معارفه وسعة اطلاعه وتنوع ثقافته في خدمة الإسلام، بيانًا لأحكامه، ودفعاُ للشبهات التي تثار حوله، ولا سيما تلك التي ترِد من خصوم الإسلام ومن يروّج خصومتهم للإسلام والمسلمين من بني جلدتنا ..
ويتجلى الفكر الإسلامي لدى الشيخ رحمه الله في صور منها:
أولاً: استقلال الشيخ العلمي المبني على اعتماد وتطبيق مرجعية الشرع دليلا واستدلالا لا مرجعية الجماهير، سواء جماهير الناس أو جماهير المتفقهة منهم.. وهنا أذكر نموذجًا يوضح ذلك، ففي ظهر أوّل ورقة من كتابه (التسامح والعُدوانية بين الإسلام والغرب)، كتب الشيخ رحمه الله هذه الجملة: "هذا المؤلَّف واقع في الملك العام، فلا تسري عليه المادة الثالثة من النظام السعودي لحماية حق المؤلِّف"! وقريب منها ما جاء في موقعه على شبكة المعلومات (الإنترنت): "إن كل ما ينشر في هذا الموقع يعتبر من الناحية القانونية واقعا في الملك العام (Public Domain)؛ لأنَّ له حكم (الوقف) الذي يخرج عن ملك منشئه بمجرد إنشائه، ولكل أحد الاقتباس منه وترجمته، ونشره بأي طريقه من طرق النشر، سواء كان ذلك لغرض ربحي أو غير ربحي فضلا الاطلاع على مقالي: (هل للتأليف الشرعي حق مالي؟).
وهذا التصرف من شيخ جمع بين علم الشريعة والقانون يكشف عمق الشيخ واستقلال فكره عن التأثر بالآراء الفقهية، والمسلمات القانونية، إذا ما ظهر له مخالفتها للدليل.. فهنا نجد أنَّ الشيخ اتخذ موقفًا ينسجم مع رأيه في منع أخذ حقوق تأليف على منتج شرعي، دون التفات لجماهير الشرعيين والقانونيين المجيزين لذلك؛ مقدماً ما توصل إليه بالدليل، على كلّ ما أُورد من استدلال وتبرير وتعليل..
ومن الأمثلة الواضحة غاية الوضوح في ذلك: موقف الشيخ الصارم من التساهل في بعض المؤسسات المالية الإسلامية، وهي قضية كانت تؤرق الشيخ كثيرا، إذ شهد انحرافات عن مسيرة أسهم في بدئها منضبطة، ثم أخذ يسري فيها التفلت شيئا فشيئا، مما جعل الشيخ يعلن نقده في أكثر من محفل وفي غير ما مقال، ومن ذلك قوله رحمه الله: "إنّ قوة الأسر الثقافي الذي أجبر هؤلاء العلماء على أن يعموا عن بديهة عقلية، فقد أظهرت العقود الثلاثة الماضية التي وجدت فيها مؤسسات مالية سميت (بالمصارف الإسلامية) أو (النوافذ الإسلامية) في البنوك الربوية، أن عمل المصرفيين الإسلاميين يعاونهم -بحسن نية- أعضاء الهيئات الشرعية في المصارف من العلماء على بذل جهود نشطة لاكتشاف وابتكار مناورات فقهية تمكنهم من متابعة آليات النظام البنكي الربوية، وتبنيها بعد إلباسها ثوباً لا يستر العورة في الغالب باسم (المعاملات الشرعية)، لقد تمكنوا من تبني التعامل المصرفي بالفائدة البسيطة، ثم بالمعدل العائم للفائدة، وحتى عمليات التحوَّط والمشتقات المالية في صور يستحيل إيجاد الفرق بينها وبين أصولها من آليات التعامل الربوي سواء من ناحية الجوهر والحقيقة أم من ناحية الآثار السلبية".
ثانياً: منهجه في تحرير المسائل والجمع بين النظر في الصور مع النظر في المعاني والمقاصد، ورعايته لفلسفة التشريع.. ويتضح ذلك في أمثلة منها على سبيل المثال: تحريره لمحلّ الإشكال في المسألة السابقة: "هل للتأليف الشرع حق مالي؟"، فيلاحظ أنَّ الشيخ رحمه الله جعل عنوان المسألة سؤالاً دقيقا، وشرح مراده بـ(التأليف الشرعي) فبيّن أنَّ المقصود: "الأعمال الفكرية والجمالية الصادرة عن المسلم لبيان القرآن والسنة لحمل الناس على اتباع هداهما، والترغيب في هذا الاتباع والتحذير عن الانحراف عنه، فيدخل في ذلك المؤلفات في التفسير والحديث والفقه والسيرة النبوية، وسير الصالحين والخطب المنبرية، والمواعظ الدينية وترتيل القرآن، وسواء في ذلك أن تظهر هذه الأعمال في شكل كتب أو شريط مسموع أو مرئي، ولا يدخل في ذلك ما يصدر عن غير المسلم وإن كان علماً نافعاً معيناً على فهم القرآن والسنة كفهارس القرآن والحديث التي صدرت عن غير المسلمين، ولا يدخل في ذلك ما يصدر عن المسلم من الأعمال الفكرية والجمالية الدنيوية، ولو اعتبرت من فروض الكفاية على المسلمين مثل المؤلفات في علوم الفيزياء أو الأحياء، أو الرياضيات، ومثل الأعمال الأدبية والفنية"، و حرّر صورة المسألة محلّ السؤال، فقد قال رحمه الله: "عندما يؤلف شخص مؤلفاً تنشأ ثلاثة أنواع من العلاقات بينه وبين مؤلفه تجاه الكافة:
أ- علاقة ملكيته لمؤلفه، بما هو جسم مادي قابل للحيازة..
ب- علاقة شخصية بحتة تتمثل في حق المؤلف في نسبة مؤلفه إليه والاعتراض على كل تشويه أو تحريف أو تعديل فيه، أو مساس بذات المؤلف يكون ضاراً بشرفه وسمعته، وحقه في إدخال ما يراه من تعديل في مؤلفه وسحبه من التداول ويسمى هذا (الحق المعنوي أو الأدبي)، وهذا الحق ليس قابلاً للتصرف ولا للتنازل عنه كالحق الأول حق الملكية.. وهذان النوعان (أ) و(ب) من علاقة المؤلِّف بمؤلفه لا يدخلان في هذا البحث، فينبغي التنبه لذلك.
ج- علاقة مالية تتمثل في مُكنة المؤلف من أخذ العوض ممن ينتفع تجارياً بمؤلَّفه والتصرف في هذه المكنة، تسمى هذه العلاقة (الحق المالي للتأليف) وهي موضوع بحثنا..
وقد وضّح الشيخ ما سمّاه خصائص المعاملة محلّ البحث، من حيث النشأة والطبيعة والتطور، وهي منهجية مهمّة جداً في بيان أحكام المسائل المستوردة، ليمكن فحصها فحصاً شرعياً، وبيان حقّها من باطلها، وما يمكن الإفادة منه شرعا وما لا يمكن، يقول رحمه الله في توضيحه أهمية الانتباه إلى خصائص المعاملة عند بيان حكمها الفقهي الشرعي: "وهذا الانتباه ضروري بعد معرفة أنَّ كل المعاملات التي استوردها العالم الإسلامي من الغرب نبتت في تربة النظام الرأسمالي، وهذه التربة مخصبة بالقمار والربا والفردية، وحضور الشح والتغالب، ولا محل فيها لمعاني الإخلاص والتقوى والاحتساب وفي سبيل الله فلا بد -قبل حكم الفقيه على المعاملة- أن يقوم بتحليلها ويتعرف على خصائصها ويقدر مدى تأثرها بمخصبات التربة التي نشأت فيها".
ثالثاً: التنبيه على حقائق المصطلحات، وتحذيره من خطورة الانخداع بمظاهرها والوقوع في مزلقها، ومن ذلك مصطلح (الثقافة العالمية المعاصرة)، إذ يقول رحمه الله: "ما نسميه الآن (الثقافة العالمية المعاصرة) هو في الحقيقة (الثقافة الغربية) أو بعبارة أخرى (الثقافة الأوروأمريكية)"، ويفرّع على ذلك توصيفا دقيقا للمشكلات المتفرعة عن ذلك، ويصف العلاج للخروج من شراك رقّ هذه الثقافة.
ومن ذلك أيضا: مصطلح (القرض) الربوي، ويضرب رحمه الله أمثلة على ذلك، منها: انخداع أحد مشايخ الأزهر بلفظ (القرض) الذي يرد في سياق القروض البنكية الربوية، ومن ثمَّ إجازته لذلك! فيقول رحمه الله: "لقد انخدع العالم الفاضل بالاصطلاح فلم ينتبه إلى أن القرض في اصطلاح الفقه الإسلامي هو غير المعاملة التي تسميها البنوك العربية القرض بفائدة، وتسميها البنوك الأجنبية والبنوك العربية عندما تستعمل لغة غير العربية (القرض بربا Interest) فبين المعاملتين -بالرغم من التماثل في التسمية- اختلاف جذري في الطبيعة والأحكام، فالقرض في الفقه الإسلامي عقد إرفاق وتبرع، ليس الأجل عنصراً فيه، وأمَّا ما تسميه البنوك الربوية العربية القرض بفائدة فهو عقد معاوضة، الأجل هو العنصر الأهم فيه، وهو حقيقة العقد الربوي الأساسي، ومحل بحثه في الفقه الإسلامي باب (الربا والصرف) وليس باب ( القرض)".
وللحديث عن هذه الصور بقية إن شاء الله تعالى..
سعد العتيبي