سلمان الفارسي.. دروس من سيرته لإصلاح واقعنا 2
الإسلام يجمع بين الروح والجسد، الدنيا والآخِرة، لا يَتنكَّر لأحدهما على حساب الآخَر، ومِن أروع مواقف سلمان وحكمتِه قوله لأبو الدرداء: "إن لنفسِك عليك حقًّا، ولربك عليك حقًّا، ولضَيفك عليك حقًّا، وإن لأهلك عليك حقًّا، فأعطِ كل ذي حقٍّ حقه"، فأتَيا النبي صلى الله عليه وسلم فذكَرا ذلك، فقال له: «صدق سَلمان» (أخرجه الترمذيُّ وصحَّحه الألباني).
الحمد لله والسلام على رسول الله، وبعد:
فقد وقفْنا في المقالة السابقة مع تَقدِمة لحياة سلمان الفارسي رضي الله عنه وشيء مِن سيرته، وفي هذه المقالة نُكمل ما بدأناه من دروس وعِبَر في سيرته.
ثالثًا: العلم أساس الحضارة وضمانة الحفاظ على هُوِيَّة الأمة:
في الظروف التي تُحيط بعالَمِنا الإسلامي، كأنَّ سلمان يَجلس بيننا يُشخِّص الداء ويصف الدواء.
كان رضى الله عنه غزيرَ العِلم حتى لقِّب بلقمان الحكيم؛ يقول علي بن أبي طالب: "ذاك امرؤ مِنا وإلينا آل البيت، مَن لكم بمثل لقمان الحكيم، أوتى علم الأول والآخِر، وقرأ الكتاب الأول والآخر، وكان بحرًا لا يُنزف"، فقد درَس كتُب أهل الكتاب، وصاحب عددًا مِن أحبارهم، وبعد إسلامه نهل مِن الوحيَين الشريفَين، فكان كما قال عليٌّ، بحرًا لا يُنزف.
ومن الكنوز التي قالها والتي تُكتَب بماء الذهب على صفحات السماء قوله: "العلم كثير، والعمر قصير، فخذ مِن العلم ما تحتاج إليه في أمر دينك، ودع ما سواه فلا تعانه".
ويرسم لنا منهج النجاة الذي يَعصمنا مِن التبعة الغربية فيقول: "لا يزال الناس بخير ما بقي الأول حتى يتعلَّم الآخِر، فإذا هلَك الأول قبل أن يتعلم الآخِر هلَكَ الناس".
وكأنه يُرشِدنا إلى الحِرص على العلم العمَلي النافع، والابتعاد عن الفلسفات الفارغة والترَف العِلمي العقيم، ثمَّ يُشخِّص حالنا، وهو عدم اهتمام المسلمين -إلا مَن رحم- بثقافة أجدادهم من الرعيل الأول ومَن بَعدَهم، وعدم الشرب مِن المنبَع الصافي؛ كتاب الله وسنة نبيِّه، حتى لقد شُغلنا في مناهجنا بفلسفات الغربيِّين التي لا تتَّفق ومنهجنا، سواء في عِلم السياسة والاجتماع، وعلم النفْس، وغير ذلك من العلوم، وتركْنا ثقافتنا، وهذه أقوى الهزائم التي تعرَّضت لها أجيالنا المسكينة؛ حتى إنها أقوى من هزائم المدفع والصاروخ، والذي زرع هذا البلاء وتلك الهزائم المُتلاحِقة في الميادين الثقافية والاجتماعية والخلُقية هو الاستعمار، فعملوا أول ما عملوا بعد الهزائم العسكرية التي لحقتهم مِن المسلمين عملوا على محْوِ اللغة والفِكر والثقافة، وحاربوا العلماء بل وأبادوهم؛ مِن أجل أن يقطعوا صلتنا بماضينا؛ فنَفقِد مستقبلنا، ونصير تبعًا لهم لا نَستحسِن إلا ما استحسنوه، ولا نستقبح إلا ما استقبحوه.
نعم؛ إذا هلك الأول قبل أن يتعلم الآخِر هلَك الناس، فهؤلاء الذين يُدافعون عن العلمانية تارة والليبرالية أخرى مِن أبناء جلدتنا، ما وقعوا فيما وقعوا فيه إلا يوم انفصلوا عن عقائدهم ومناهجهم السماوية، وتربَّوا على موائد الغرب أزمنةً ليست بالقليلة، حتى صاروا أشدَّ بلاء على ديار الإسلام من أعدائها.
يقول أبو جرَّة:
"حين أصيب المسلمون بنكسة خلُقيَّة، ولوثة فكرية، واستبداد سياسي، وانحدار اقتصادي، وتفسُّخ اجتماعي، وتدهور ثقافي، وفراغ روحي، كان من السهل على أجهزة الغزو أن تملأ كل ذلك بالخرافات والأباطيل والأوهام، فخفَّ شعور المسلمين، وتبلَّد حسُّهم، وضاق أفق تفكيرهم، وقسَت قلوبهم، فانسلخوا عن الفِطرة تمامًا، وتنكَّروا للحق ولو كان مِن عند الله تعالى، قلت: عندما آل أمرُهم إلى ذلك انقضَّ عليهم أعداؤهم عسكريًّا، وسياسيًّا، وفكريًّا، واقتصاديًّا، واستغلَّت المذاهب المادية أخطاء المسلمين وانحرافاتهم الفكرية والسلوكية، وحقَّقت بذلك انتصارات كبيرة جدًا".
وكما يقول الشيخ الغزالي: "لقد أفلح الاستعمار في خَلقِ جيل يَستحيي من الانتماء لدينه والعمل تحت لوائه، هذا هو الطابور الأول لا الخامس الذي ألحقَ بِنا الهزائم، ونكَّس رؤوسنا في كل ميدان"، والحل هو العود الحميد لتراثنا وعلمائنا؛ فحضارتنا هي التي أخرجت العالم مِن ظلمات الجهل إلى نور العِلم والمعرفة، ونحن لا نريد أن نَبكي على أطلالنا، ولكن نريد أن نقتفي أثر الآباء والأجداد في العلوم الشرعية والعربية والطبيعية؛ فنَبتكِر كما ابتكروا، ونتقدَّم كما تقدَّموا، وبذلك نُطلِّق التبعية للغرب المُلحِد، ونتصدى للقيادة التي خلَقنا الله لها.
فليس الفتى مَن قال كان أبي *** ولكن الفتى من قال ها أنذا
ولتعلم أن الحضارة ما قامت إلا على أكتاف العلماء؛ لذلك احتفى القرآن بالعلم والعلماء احتفاءً كبيرًا؛ وحسْبُك أنَّ أول أية فرَّقت بين عهد الظلمات وعهد النور، وبين عهد الشِّرك والتوحيد، والجهل والعلم، كانت صادِعة بهذا المعنى؛ حيث قال سبحانه في أول ما نزل: {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ . خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ . اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ . الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ . عَلَّمَ الْإِنْسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ} [العلق:1-5]. وأول خطوة اتخذها النبي لبناء دولة المدينة كانت إرسالَ مصعب بن عمير لتعليم الناس، فهذا هو المَخرَج مِن المأزق الحضاريِّ الذي يَحياه المسلمون، والذي يرشدنا إليه سلمان، والذي تعلمه من مُعلِّم البشرية.
رابعًا الإسلام منهج مُتوازِن:
فالإسلام يجمع بين الروح والجسد، الدنيا والآخِرة، لا يَتنكَّر لأحدهما على حساب الآخَر، ومِن أروع مواقف سلمان وحكمتِه فيما أخرجه الترمذيُّ وصحَّحه الألباني عن أبي جحيفة قال: آخَى رسول الله صلى الله عليه وسلم بين سلمان وبين أبي الدرداء، فزار سلمان أبا الدرداء، فرأى أمَّ الدرداء مُتبذِّلةً، فقال: ما شأنك مُتبذِّلةً؟ قالت: إن أخاك أبا الدرداء ليس له حاجة في الدنيا، قال: فلما جاء أبو الدرداء قرَّب إليه طعامًا، فقال: كلْ؛ فإني صائم، قال: ما أنا بآكل حتى تأكُل، قال: فأكل، فلما كان الليل ذهب أبو الدرداء ليَقوم، فقال له سلمان: نمْ، فنامَ، ثم ذهب يقوم، فقال له: نمْ، فنام، فلما كان عند الصبح، قال له سلمان: قمِ الآن، فقاما فصلَّيا، فقال: "إن لنفسِك عليك حقًّا، ولربك عليك حقًّا، ولضَيفك عليك حقًّا، وإن لأهلك عليك حقًّا، فأعطِ كل ذي حقٍّ حقه"، فأتَيا النبي صلى الله عليه وسلم فذكَرا ذلك، فقال له: «صدق سَلمان» (أخرجه الترمذيُّ وصحَّحه الألباني).
هذا هو التوازن الذي يُحدثه الإسلام في حسِّ أصحابه؛ فالإسلام جاء وسطًا بين الإفراط والتفريط فأحدث توازنًا عجيبًا في النفس البشرية بين الدنيا والآخِرة، كما أشرْنا.
وقد عرَض القرآن لقضية التعامل مع الدنيا والآخرة في ثلاث صور، فأنكر اثنتَين وأمَر بالثالثة، أما الأولى: فالتعامل مع الدنيا بصورة مادية بحتَة، فشبَّههم الله عز وجل بالأنعام؛ فقال سبحانه: {وَالَّذِينَ كَفَرُوا يَتَمَتَّعُونَ وَيَأْكُلُونَ كَمَا تَأْكُلُ الْأَنْعَامُ وَالنَّارُ مَثْوًى لَهُمْ} [محمد:12]. فختَم بجزائهم الدالِّ على توبيخهم، وأما الثانية: فهي التعامل مع الدنيا بشكل روحاني بحْت؛ فقال سبحانه: {وَرَهْبَانِيَّةً ابْتَدَعُوهَا مَا كَتَبْنَاهَا عَلَيْهِمْ إِلَّا ابْتِغَاءَ رِضْوَانِ اللَّهِ فَمَا رَعَوْهَا حَقَّ رِعَايَتِهَا فَآتَيْنَا الَّذِينَ آمَنُوا مِنْهُمْ أَجْرَهُمْ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فَاسِقُونَ} [الحديد:27]. فرفَض هذه وتلك؛ لأن كلاهما لا يتَّفق وطبيعة النفس البشرية.
وأما الثالثة التي ارتضاها وأمر بها: فهي التوازن الذي نتحدَّث عنه؛ حيث قال سبحانه: {وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الْآخِرَةَ وَلَا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا وَأَحْسِنْ كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ وَلَا تَبْغِ الْفَسَادَ فِي الْأَرْضِ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ} [القصص:77]. أي: تقرَّبْ إلى الله بألوان الطاعات، ولا تنسَ نصيبك مِن الدنيا مما أباح الله لك مِن مطعَمٍ ومشرَب ومَنكَحٍ، وقال سبحانه: {رِجَالٌ لَا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلَا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقَامِ الصَّلَاةِ وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ يَخَافُونَ يَوْمًا تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالْأَبْصَارُ} [النور:37]. وقال أيضًا: {فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلَاةُ فَانْتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللَّهِ وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} [الجمعة:10]. فقد خلَق الله البشر وأمرهم بالعبادة وإعمار الأرض؛ جمعًا بين ما تحتاجه الروح وما يتطلَّبه الجسد؛ فـ«إنَّ لنفسك عليك حقًّا، ولربك عليك حقًّا، ولضَيفك عليك حقًّا، وإن لأهلك عليك حقًّا، فأعطِ كل ذي حقٍّ حقَّه». (أخرجه الترمذيُّ وصحَّحه الألباني).
فإلى مَن يبغون عن منهج الإسلام حِولاً، ويطلبون عنه بدلاً، أيُّ منهج يقارب منهج الإسلام حتى نتركه إليه؟! أتستبدلون الذي هو أدنى بالذي هو خير؟!
مصطفى حمودة عشيبة
- التصنيف:
- المصدر: