بدون مقدمات؛ لماذا قصفت "إسرائيل" دمشق؟
بشار الأسد كان ومازال كنزًا استراتيجيا لإسرائيل، مثلما كان الطاغية مبارك كنزًا استراتيجيا لها من قبل، ولن تسمح إسرائيل بسقوطه ثوريًّا كما حدث لمبارك، بل ستعمل على بقائه واستمراره في الحكم حتى اللحظة التي يتأكدون فيها أن أيامه قد صارت معدودة، عندها سيكون العمل على منع وصول أي قوى إسلامية لسدة الحكم هناك، وهو ما شرعت فيه فعلًا كل القوى المعادية للإسلام والمسلمين في المنطقة.
- التصنيفات: الواقع المعاصر - أحداث عالمية وقضايا سياسية -
الأمر لا يحتاج لمقدمات تمهيدية عن طبيعة العلاقات الإسرائيلية - السورية الوثيقة والاستراتيجية خلال الحقبة الأسدية ـ أب وابن ـ فتلك هي الحقيقة التاريخية الثابتة والتي لا تتزعزع مهما كانت ضراوة التضليل المتعمد من الآلة الإعلامية وكتيبة الأقلام المأجورة في فضائنا الثقافي والإعلامي، والتي تروج عن بطولة محور الممانعة ومثلث الصمود، كما أننا أيضًا لسنا في حاجة لبيان موقف الكيان الصهيوني من الثورة السورية المباركة، ورفض تل الربيع "أبيب" القاطع والحاسم لفكرة التخلص من حليفها بشار الأسد ثوريًّا، وبهذه الصورة الدراماتيكية التي لا يستبان معها طبيعة النهج والفكر لحكام دمشق القادمين.
إسرائيل قصفت اليوم عدة مواقع ومنشآت عسكرية ومخازن صواريخ في جبل قاسيون بدمشق العاصمة، وتسبب القصف في تدمير كبير لعدة ألوية وكتائب عسكرية، ومقتل وإصابة المئات؛ وذلك لعدة أسباب وليس لسبب واحد كما يعتقد البعض، فالصهاينة قد اعتادوا منذ نشأة كيانهم الغاصب لأرض فلسطين على تحقيق أكبر قدر من المكاسب والأهداف، مع كل خطوة أو إجراء عسكري أو سياسي يتم اتخاذه ضد إحدى دول المنطقة، ومن أهم أسباب هذا القصف المفاجئ:
أولًا: إجهاض فكرة تزويد الثوار بالسلاح، فأمريكا تدير سياساتها الخارجية في المنطقة من منطلقات استراتيجية معينة تصب كلها في خدمة الكيان الصهيوني، وحفظ أمنه واقتصاده وضمان تفوقه الإقليمي على الدوام، ومن هذا المنطلق ظلت أمريكا رافضة لفكرة تسليح الثوار السوريين الذين يغلب عليهم الطابع الجهادي، حتى لا يستخدم هذا السلاح فيما بعد ضد الصهاينة، ولكن في الأسابيع الأخيرة ظهرت بعض المؤشرات على اتجاه أمريكا، نحو تسليح فصيل معين من الثوار السوريين، وهو الجيش الحر العلماني ـ إن جاز وصفه بذلك ـ وهي المجموعات التي تعمل تحت قيادة اللواء المنشق (سليم إدريس) القائد الفعلي للجيش الحر، بعد التخلص من القائد العام العقيد رياض الأسعد الذي فقد ساقه في محاولة اغتيال، بسبب تأييده لجبهة النصرة الإسلامية أو فزاعة أمريكا وإسرائيل في سوريا، وقد أثبتت المجموعات المقاتلة تحت إمرة اللواء (سليم) ميلًا نحو العلمانية، ورفض جبهة النصرة، ورفض أساليبها ومنهجها، حتى تأكدت أمريكا من جدية التزام سليم ورفاقه بالمطالب الأمريكية والأوروبية، ومن ثم بدأ التجهيز لتدريبهم بالأردن ولبنان، استعدادًا لتزويدهم بالسلاح.
هذه الخطوة رفضتها إسرائيل بشدة، واعتبرتها مخاطرة غير مضمونة العواقب، فقد تقع هذه الأسلحة المتطورة يومًا ما بيد المجاهدين الإسلاميين بسوريا، مثلما حدث في أفغانستان قديمًا وليبيا حديثًا، ومن ثم قررت أخذ زمام المبادرة، وتغيير منظومة الصراع في السوري بالدخول كطرف جديد في المعادلة، يربك حسابات الجميع، وأولهم أمريكا نفسها.
ثانيًا: اختبار جدية الوعود الأمريكية، فقد كشفت صحيفة (صانداي تايمز) البريطانية من أيام أنه في زيارة أوباما إلى إسرائيل في شهر مارس الماضي، عرضت على الرئيس الأمريكي معلومات استخباراتية، تظهر أن النظام السوري يستخدم السلاح الكيميائي. وفي لقاء استغرق نحو خمس ساعات، عرضت على أوباما المعلومات التي تبين استخدام السلاح في حلب وحمص ودمشق، من إعداد العميد (إيتي بارون) رئيس دائرة البحوث في شعبة الاستخبارات، وكان الهدف من هذه المعلومات تكثيف الضغوط على أوباما لتنفيذ وعوده بقصف سوريا إن أقدم بشار على استخدام السلاح الكيماوي، ولا يعتقد البعض أن إسرائيل مهتمة بمصير السوريين، أو تتألم لمصارعهم بهذه الصور الوحشية، ولكن السر وراء هذا الضغط والاستحثاث الإسرائيلي هو اختبار مدى مصداقية الوعود الأمريكية لإسرائيل بضمان استمرار تفوقها العسكري والدولي على دول المنطقة مجتمعة، ومنع تملك واستخدام أسلحة غير تقليدية لأي دولة من دول المنطقة.
فإسرائيل قلقة منذ فترة من المشروع النووي الإيراني، وتستحث أمريكا من فترة لإجهاضه بضربة وقائية، وأوباما نفسه تعهد بذلك قبيل الانتخابات الماضية، وهي التعهدات التي تم إعادة انتخاب أوباما على خلفيتها، ولكن بعد فترة وجيزة رأت الإدارة الأمريكية أن أي خطوة من شأنها ضرب إيران الآن ستكون بالغة الضرر على المصالح الأمريكية في المنطقة، كما أن إيران كانت ومازالت متماهية مع الأمريكان في كثير من أهداف سياساتهم في المنطقة؛ لذلك تلكأت أمريكا في تنفيذ تعهداتها لإسرائيل بخصوص إيران، ومن أجل تطييب خاطر إسرائيل قام أوباما بزيارة الكيان الصهيوني، وأعلن لأول مرة على لسان رئيس أمريكي أن القدس عاصمة إسرائيل للأبد، ولكن هذا لم يكف لتهدئة خواطر قادة بني صهيون، فكشفوا عن معلوماتهم الاستخباراتية المتعلقة باستخدام بشار للسلاح الكيماوي في الأماكن المذكورة، ولكن الإدارة الأمريكية رأت أن المعلومات غير كافية، كما صرح بذلك أحد المسئولين لصحيفة (واشنطن بوست)، في إشارة لاستمرار أمريكا في خطتها الرامية لتسليح الفصيل العلماني في الثورة السورية، وصمد البيت الأبيض للهجوم الإعلامي الشرس الذي شنته وسائل الإعلام الأمريكية المملوكة للصهاينة، على فكرة تجاوز الخط الأحمر، واشترك أيضًا النواب الجمهوريون في الحملة، فقال كبيرهم (جون ماكين): "عندما قال الرئيس: إنه يوجد خط أحمر، فسر بشار الأسد هذا، وكأنه يوجد خط أخضر بذبح الناس بصواريخ سكود، هذا أحد الفصول الأكثر خجلًا في التاريخ الأمريكي"، وعندما لم تؤت كل هذه الضغوط ثمارها، قرر الصهاينة ضرب مخازن السلاح السوري في قلب دمشق، استباقًا وافتياتًا للأمريكان، في إشارة وتقدمة لأخذ زمام المبادرة، وضرب النووي الإيراني لاحقًا، دون مشورة من الأمريكان، والصهاينة فعلوا ذلك لينظروا مدى التأييد الأمريكي لخطوات ضخمة وفاصلة من عينة هذا العدوان، تمت دون الرجوع إليهم، وبالفعل لم يخيب الأمريكان ظن الصهاينة، فكان أوباما أول من دافع عن هذا العدوان وبرره.
ثالثًا: منع وقوع هذه الأسلحة في الأيدي غير الأمينة، فمخازن السلاح المقصوفة، ليست مخازن سرية كان خافيًا أمرها على الصهاينة والأمريكان، وفجأة تم رصدها ثم قصفها، بل إن هذه المخازن على جبل قاسيون منذ أكثر من أربعين سنة، يعلمها الجميع داخل وخارج سوريا، وإسرائيل التي سبق لها وقصفت سوريا عدة مرات من قبل، وجالت طائراتها وصالت فوق قصر بشار الرئاسي في دمشق وهو بداخله، ولم يتمعر أي وجه قيادة قطرية سورية أو عربية، فلماذا إذًا قصفتها الآن؟
الإجابة من الوضوح بمكان لا يخفى على أحد، إسرائيل تخشى من وقوع هذه الأسلحة الثقيلة والاستراتيجية في اليد الخطأ، أو اليد غير الأمينة، فتستخدمها تجاه الكيان الصهيوني، فسوريا طيلة عقودها الأسدية لم تطلق رصاصة واحدة ولو "فشنك" على الكيان الصهيوني، وهذا مما لا يختلف عليه اثنان، فقد حَافَظَ الأسد الأب وابنه من بعده على أمن الصهاينة، بل وحاولا القضاء على أي محاولة فلسطينية جهادية، ضد العدو الصهيوني وسكتا عن احتلال الجولان لسنوات طويلة، واليوم القبضة قد خفت والزمام آخذ في الانفلات بقوة، وقد يصل السلاح لجبهة النصرة أو غيرها من التشكيلات الإسلامية المجاهدة، وعندها ستكون إسرائيل في مرمى نيران لم تكن في حسبانها.
رابعًا: تشويه الثورة السورية، فالصهاينة قد حاولوا إلباس عدوانهم الغاشم على دمشق ثوب الإنسانية ونجدة الضعفاء، وإن الهدف من هذه الضربة هو دعم المتمردين على حد وصف محلل الشؤون العربية في صحيفة (هاآرتس) العبرية (تسفي بارئيل) الذي قال: "إن الغارات الإسرائيلية في سوريا تشير إلى وجود مصلحة مشتركة لإسرائيل والمتمردين، وإن إسرائيل قد توسع عملياتها الجوية في سوريا من أجل منح مظلة لحماية المتمردين أيضًا".
وهذا التوجه لا شك أنه يسهم في تشويه صورة الثورة السورية وإظهارها بمظهر الخيانة والعمالة، لذلك لم يفاجئنا عمران الزعبي وزير إعلام بشار بفحوى بيان رد الفعل السوري على العدوان، عندما تلا البيان التافه فربط فيه بين الجيش الحر وجبهة النصرة والعدو الصهيوني، وأن الصهاينة يستخدمون عملاءهم داخل سوريا لضرب استقرار هذا البلد والقضاء على مقاومته، وما فعل الرجل بهذا إلا أن ذكرنا بقول العرب: (رمتني بدائها وانسلت)، فتاريخ أسرة الأسد شديد العراقة والشرف في خدمة الكيان الصهيوني.
وبعد الغارة الصهيونية على دمشق قام الجيش الأسدي بالرد الفوري على العدوان، فقامت الطائرات الأسدية بقصف القصير وأطراف دمشق وريفها، وقصف بعض قرى درعا، وقصف إعزاز في حلب فقتلت ثمانية وأربعين مدنيًّا، لكنها لم توجه طلقة واحدة تجاه الصهاينة!
بشار الأسد كان ومازال كنزًا استراتيجيا لإسرائيل، مثلما كان الطاغية مبارك كنزًا استراتيجيا لها من قبل، ولن تسمح إسرائيل بسقوطه ثوريًّا كما حدث لمبارك، بل ستعمل على بقائه واستمراره في الحكم حتى اللحظة التي يتأكدون فيها أن أيامه قد صارت معدودة، عندها سيكون العمل على منع وصول أي قوى إسلامية لسدة الحكم هناك، وهو ما شرعت فيه فعلًا كل القوى المعادية للإسلام والمسلمين في المنطقة.
شريف عبد العزيز الزهيري
[email protected]