كيف نتعامل مع المخلط؟
من هو المخلط؟ هل هو القارئ النّهم في كلّ فنّ ومجال؟ أم هو اللّيبرالي؟ أم المبتدع؟ أم صاحب الهوى؟
قبل أن نعرف كيف نتعامل مع المخلط، من هو المخلط؟
هل هو القارئ النّهم في كلّ فنّ ومجال؟ أم هو اللّيبرالي؟ أم المبتدع؟ أم صاحب الهوى؟
إنّه عوان بين ذلك. إنّه مزيج لا تستطيع أن تمسك به؛ لأنّه مصنوع من الزّئبق، غريب الأطوار، عاطفيّ جدًّا، وعقلانيّ جدًّا، ابتلع كتب ومقولات الفلاسفة، ثم سكب عليها أطرافًا من مقولات الإسلاميّين وأذواق الصّوفيّة، فاختلطت في روحه ونفسه وعقله وقلبه، فضاعت بوصلته واضطرب تفكيره، وغاب عن الوعي. إنّه يريد العودة ويشتاق إليها، وأكاد أقسم أنّ كثيرًا منهم يرى جدّته على آلة الخياطة، أو تنخل البرّ بالمنخل، أو تدير أقراص التنّور بيديها، وهي تسبّح الله أو تنشد الأناشيد الشّعبيّة القديمة بكل حبور وسرور، فيغبطها قائلاً وله أسلاف: يا ليتني أموت على ما تموت عليه جدّتي.
كيف نتعامل معه؟
هم أصناف وأنواع مختلطة كما هو أصلهم، ولكن منهم المتلوّن لا لأنّه منافق، بل لأنّه يريد الاستفادة من الجميع، ولا يحبّ المصادمة مع أحد لطبيعة فيه؛ فهو سلفيّ مع السّلفيّة، إخواني مع الإخوانيّة، متسامح مع اللّيبراليّة، عاطفي مع التّبليغيّة -مع كرهي لهذه التّصنيفات، لكنّها واقع وتقرّب الصّورة-، يقول مع الجميع ما يحبّه الجميع، ويستخدم مصطلحات كلّ فريق ببراعة، ومنهم من هو على جادّة التّخليط الصّريح الواضح؛ فهو يهذي عند الجميع بكلام مفهوم أحيانًا وغير مفهوم في أحيان كثيرة، قد كثرت عليه المشارب، وتواردت عليه الأفكار الكثيرة التي يكتظّ بها رأسه، وهي غير منظّمة ولا مؤصّلة ولا متواشجة بكلّ، كلّ فكرة منها ترفض الأخرى، وقد يصرّح أمام الجميع بأنّ عنده حلمًا وهو -الرّجل الحركيّ كحركة الإخوان العابد كعبادة التّبليغ المنفتح كاللّيبراليّ-.
ولا يدري أنّ المناهج بطبيعتها إقصائيّة، ولا يمكن أن تجتمع إلاّ في وجدان مخلط غير طبيعي، وبالفعل لا علاج للقلب والرّوح والعقل إلاّ التوحيد، فمتى خالطت بشاشته القلوب والأرواح والعقول صفت النّظرة، واتّضحت الرّؤية، وعاش الإنسان في سلام وأمن وهداية {الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُوْلَئِكَ لَهُمُ الأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ} [الأنعام:82].
وعلى كلّ حال، فكلا الصّنفين: الصّريح والمتلوّن بحاجة ماسّة لصدر حنون وعقل راجح كبير وتوجيهات رشيدة تأخذ بيده لساحل الأمان. لقد أضناه المسير في بحر الشّبهات الخضمّ وحطّم سواريه ومزّق أشرعته. إنّه يئنّ وينوح. إنّه مصاب بالأرق؛ فهو يعرض في رأسه على فراش النّوم أفكار هؤلاء وأفكار هؤلاء، ثم يضرب بعضها ببعض ليُغطي عينيه بلحافه قائلاً: لا أعرف شيئًا؟! لا أعرف شيئًا؟!
إنّه بحاجة ولا بدّ لرجل موفّق، وقدوة صالحة، وعقليّة فذّة ليحاصره من جميع الجوانب، ويملأ جوانحه حبًّا وإجلالاً، فلا يُقنع المخلط إلاّ رجلاً عابدًا، ولكنّه في الوقت ذاته صاحب علم وذكاء، بل وله سابق قراءات منوّعة في الكتب الفكريّة، ولديه تمحيص لمقولات الفلاسفة، وأصحاب الرّأي من كلّ أمّة، ولكنّه لم يمتصّها، ولم تتشرّبه ويتشرّبها، بل هو يشرف على أفكار النّاس ومقولات النّاس وتهارش الفرق والجماعات، كما يشرف الرّاعي على القطعان من أعلى الجبل؛ فهو يراها ولا تراه، ويَسمعها متى شاء ويُسمعها متى شاء، ولكنّها هناك، يرى التّفاصيل ويتمكّن من الكلّيّات وهي مقدّمة لديه وأثيرة عنده؛ فكتاب الله منهج لِعَرض الكلّيّات وقياس الغائب على الشّاهد.
إنّه يحدّثنا عن أهل الباطل، ويعرض لأساليبهم، بل ويحلّل نفسيّاتهم، ثم يضرب الأمثال من كلّ الأمم فتجد التّشابه، وتجد الحافر يقع على الحافر، لتأتي سنّة الله بأخذ الكافرين ووراثة المؤمنين للأرض، ولكنّه لا يغرق في الجزئيّات، ولا يهملها في آن.
إنّ الإشاحة بالوجه عن المخلط ورفضه وإقصاءه والتّحذير منه غير مجدٍ ولا مفيد، بل إنّه يستثير مكامن الإصرار في نفسه على ما هو عليه، ويغري المُحذَّرين منه بأن يجلسوا إليه، ويستمعوا؛ فقد يجدوا شيئًا جديدًا، وبالفعل سيجدون أشياء وأشياء.
من الجيّد أن يُهدى مجموع فتاوى شيخ الإسلام، وتفسير ابن كثير، ومجموع ابن رجب والدّرر السّنيّة في الأجوبة النّجديّة، وبعض رسائل الدكتوراه والماجستير، والتي تحذّر من المناهج العقلانيّة والنّزعات الماديّة، ففيها سيجد ذكرًا لأساتذته وقدواته وشيوخه المخلطين، ونقلاً لمقولات لهم سامّة قد لا يكون اطّلع عليها من قبل، أو لم تُجمع له في مكان واحد مع النّقض والردّ فيتبيّن له أمره، ويقف على خطورة ما كان فيه، وباختصار أن تفتح عليه ساقية، وأن تنثر في رحاه حبًّا جيدًا مفيدًا فنفسه كالطاحون.
إنّه يقرأ ويحلّل ويسأل فإذا أعطيته هذه الكتب وأشغلته بها، مع الإشادة بعقليّته ومدحه باعتدال، وأن الأمّة تنتظر منه النّظر في القرآن، والخروج بفكرة رائعة مخلِّصة للأمة من تخبّطها وتيهها، فسيقبل على كتاب الله المبارك، وينتقل من ضياعه بين الجزئيّات إلى النّظرة الشّموليّة الكلّية للكون والحياة والنّاس، وينفع نفسه ويُنتفع به، هذا إن كان طالب حقٍّ لا صاحب هوى، ولا حول ولا قوّة إلاّ بالله.
تركي بن رشود الشثري
- التصنيف:
- المصدر: