{... وَأَن تَصُومُوا خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ}
زغلول النجار
هذا المقال لأيضاح عدد من أوجه الإعجاز العلمي والتشريعي والإنبائي في النص القرآني الذي اخترناه عنواناً لهذا المقال {... وَأَن تَصُومُوا خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ}.
- التصنيفات: مناسبات دورية - ملفات شهر رمضان -
هذا النص القرآني الكريم جاء في نهاية الثلث الثاني من سورة البقرة، وهي سورة مدنية، وآياتها مائتان وست وثمانون (286) بعد البسملة، وهي أطول سور القرآن الكريم على الإطلاق، وقد سميت بهذا الاسم لورود الإشارة فيها إلى تلك المعجزة التي أجراها الله- تعالى- على يد عبده ونبيه موسى- على نبينا وعليه من الله السلام- حين تعرض شخص من قومه للقتل ولم يعرف قاتله، فأوحى الله- تعالى- إلى عبده موسى أن يأمر قومه بذبح بقرة، وأن يضربوا الميت بجزء منها فيحيا بإذن الله، ويخبر عن قاتله، ثم يموت إحقاقاً للحق، وشهادة لله- تعالى- بالقدرة على إحياء الموتى.
هذا وقد سبق لنا استعراض سورة البقرة وما جاء فيها من التشريعات، والعبادات، وركائز العقيدة، ومكارم الأخلاق، والقصص، والإشارات الكونية، ونركز هنا على بعض أوجه الإعجاز في عبادة الصيام كما جاء ذكرها في القرآن والسنة، وكما أجمله النص القرآني الذي اخترناه عنواناً لهذا المقال.
من أوجه الإعجاز في النص المختار:
- جاء ذكر الصيام في القرآن الكريم ثلاث عشرة مرة في إحدى عشرة آية، موزعة في ست سور هي: [البقرة: 183- 187، 196]، [النساء: 92]، [المائدة:89، 95]، [مريم:26]، [الأحزاب:35]، [المجادلة:4]، وجاء ذكر شهر رمضان مرة واحدة في القرآن الكريم كله.
- وجاءت خمس آيات في سورة البقرة [183- 187] عن صيام شهر رمضان، وآية واحدة (196) في صيام كفارة التحلل للمحصر، إذا لم يكن قد اشترط في نية الحج أو العمرة، وجاءت الإشارة إلى الصيام في سورة النساء كفارة للقتل الخطأ للمؤمن إذا لم يستطع القاتل تحرير رقبة مؤمنة ودفع الدية.
- وجاءت الإشارة إلى الصيام في سورة المائدة مرة بمعنى كفارة لليمين، وأخري كفارة لقتل الصيد في أثناء الإحرام بالحج والعمرة أو بهما معاً، وجاءت الإشارة إلى الصوم في سورة مريم بمعنى الامتناع عن الكلام مع الآخرين، وهي خصوصية كانت لكل من زكريا- عليه السلام- والسيدة مريم- عليها رضوان الله.
- وجاءت الإشارة إلى الصائمين والصائمات لكل من الفرض والنوافل في سورة الأحزاب، كما جاءت الإشارة في سورة المجادلة إلى الصيام وكفارة للظهار.
وفي سورة البقرة يقول ربنا- تبارك وتعالى-: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ على الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} [البقرة: 183].
والخطاب هنا للمؤمنين في زمن البعثة المحمدية الشريفة يخبرهم أن الصيام كتب عليهم كما كتب على الذين من قبلهم (من لدن آدم إلى زمانهم)، وفي ذلك تأكيد على وحدة رسالة السماء المستمدة من وحدانية الخالق- سبحانه وتعالى-، وتأكيد كذلك على أن الله تعالى- قد ختم رسالات السماء ببعثة الرسول الخاتم- صلى الله عليه وسلم- فليس من بعده نبي ولا رسول، لذلك قال- تعالى-: ﴿كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ على الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ..﴾ ويدعم ذلك استخدام الفعل (كتب) بدلاً من (شرع) أو (فرض) أو (وصي) لأن هذه الأفعال وقتية، تتعلق بالشرائع الخاصة بأمة من الأمم في زمن من الأزمان، لكن الفعل (كتب) يشير إلى ثبات الحكم إطلاقاً، بمعنى أن صيام شهر رمضان المبارك بالهيئة التي حددها لنا كل من القرآن الكريم والسنة النبوية المطهرة كان مكتوباً على الأمم من قبلنا كما هو مكتوب علينا، وإن انحرف أهل الكتاب عنه، وابتدعوا فيه ما لم ينزل به الله سلطاناًً.
والصيام هو الامتناع عن الطعام والشراب وعن غيرهما من المفطرات نهاراً كاملاً من طلوع الفجر الصادق، إلى غروب الشمس، والصيام منه المفروض وهو صيام شهر رمضان أداءً وقضاءً، وهو ركن من أركان الإسلام، ومنه صيام الكفارات، والصيام المنذور، وهناك الصيام المسنون أو المندوب، ومنه الصوم في شهر المحرم (وأفضله التاسع والعاشر منه)، والصيام في رجب وشعبان وبقية الأشهر الحرم، ومنه صيام ثلاثة أيام من كل شهر، ويندب أن تكون هي ال?يام البيض (أي: الثالث عشر إلى الخامس عشر من الشهر العربي)، كما يندب صوم التاسع من ذي الحجة (يوم عرفة) لغير القائم بأداء الحج، ويندب صوم يومي الاثنين والخميس من كل أسبوع، وصوم ست من شوال مطلقاً، وللقادر على صيام يوم وإفطار يوم أفضل أنواع الصيام المندوب.
أما الصيام المكروه فهو إفراد يوم الجمعة وحده، أو يوم معلوم من أيام أصحاب المعتقدات الفاسدة وحده بالصيام، ومن المكروه وصل الصيام في شعبان بصوم رمضان.
ومن الصيام المحرم صيام يوم العيدين (عيد الفطر وعيد الأضحي)، وصيام أيام التشريق، وصيام المرأة نفلاً بغير إذن زوجها، ومنه صيام الدهر، وصوم الوصال (وهو مواصلة الإمساك نهاراً وليلاً)، ومنه صوم الصمت (أي: الامتناع عن الكلام لفترة طويلة).
أوجه الحكمة من الصيام:
وأوجه الحكمة من الصيام عديدة، منها ما يلي:
1- تقوى الله، لذلك ختمت الآية الكريمة بقوله- تعالى-: {لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ}، والتقوى تعرف بالإيمان بالله الخالق، البارئ المصور، والخضوع لجلاله وحده بالعبودية والطاعة، وخشيته في السر والعلن، وهو ما يعبر عنه بتعبير الخوف من الجليل، والعمل بالتنزيل أي تطبيق القرآن الكريم أمراً واقعاً في حياة الناس أفراداً وجماعات، والاستعداد ليوم الرحيل أي: الاستعداد للموت، وهذه القضايا الثلاث تؤصل فهم رسالة الإنسان في هذه الحياة، عبداً لله- تعالى- يعبده بما أمر، وينفذ أوامره، ويتقي محارمه، ومستخلفاً ناجحاً في الأرض، مطالباً بعمارتها وإقامة شرع الله وعدله فيها طيلة عمره (أجله) الذي ليس له من بعده إلا الموت، وحياة البرزخ، ثم البعث والحشر والحساب والجزاء.
والذي يصل إلى هذا المستوي من الفهم هو المؤمن الفاقه لدينه، الذي يزيده الصيام طاعة لله، وإيثاراً لمرضاته، وتزيده تقوى الله حرصاً على حسن أداء العبادات، ومنها الصيام الذي تحرسه تقوى الله من أي مفسدة لهذه العبادة العظيمة التي قال عنها الله- تعالى- في الحديث القدسي الذي يرويه المصطفى- صلى الله عليه وسلم- عن ربه: « »، وقال- صلى الله عليه وسلم-: « ».
2 - زيادة الإخلاص في قلب الصائم تجعل الصيام خالصاً لوجه الله- تعالى- وتقوية للإرادة عنده بمداومة المقاومة لكل من الجوع والعطش، ولغيرهما من الشهوات والمغريات، ولذلك قال- صلى الله عليه وسلم-: « »، وقال: « » أي: وقاية من المعاصي ومن النار بحرص الصائم ?لى غض البصر، وستر البدن، وكف الأذى عن الناس، لذلك قال- صلى الله عليه وسلم-: « ».
3 - إشعار الأغنياء بما يعانيه الفقراء والمعوزون في المجتمعات الإنسانية من معاناة الجوع والعطش وآلام الفاقة، فيذكرهم ذلك بحقوق المحتاجين عليهم، ويعودهم على حسن الرعاية لهم، وجاء في حديث ابن عباس- رضي الله عنهما-: « ». فشهر رمضان هو شهر تدريب المسلمين على الجود والكرم والبذل في سبيل الله، وفي ذلك يقول رسول الله- صلى الله عليه وسلم-: « ».
4- تذكير المسلمين بمدارسة القرآن الكريم في الشهر الذي أنزل فيه هذا الكتاب العزيز هدي ورحمة للمؤمنين، حتى يتعودوا على ملازمته في حياتهم قراءةً وفهماً وتدبراً وتطبيقاً واقعاً في حياة الناس، ورسول الله- صلى الله عليه وسلم- يقول: « ».
5- تعويد الصائم على ضبط النفس، والبعد بها عن جميع صور الحرام من الغش والاحتيال والظلم والسرقة والربا والرشوة وأكل أموال الناس بالباطل، وتعويدها على تقويم السلوك، والالتزام بمكارم الأخلاق، فالرسول- صلوات الله وسلامه عليه- يقول: «إذا كان يوم صوم أحدكم فلا يرفث ولا يصخب، فإن شاتمه أحد أو قاتله فليقل إني صائم». ويقول- صلى الله عليه وسلم-: «من لم يدع قول الزور والعمل به فليس لله حاجة أن يدع طعامه وشرابه».
6- تعويد المسلم على الاجتهاد في العبادة: فرائضها ونوافلها، فيجمع إلى الصلوات المفروضة العديد من السنن، ومنها سنة صلاة التراويح، وقيام الليل، والمواظبة على تلاوة القرآن والتفقه في الدين، وحضور مجالس العلم، وأداء العمرة إن استطاع إلى ذلك سبيلاً لقول رسول الله- صلى الله عليه وسلم: « »، وكان رسول الله- صلى الله عليه وسلم- يجتهد في العبادة طوال شهر رمضان ما لا يجتهد في غيره، خاصة في العشر الأواخر منه، فعن أم المؤمنين السيدة عائشة- رضي الله عنها- أنها قالت: « »، وعنها- رضي الله عنها- أن النبي- صلى الله عليه وسلم- كان يعتكف العشر الأواخر من رمضان حتى توفاه الله عز وجل ثم اعتكف أزواجه من بعده، وروى الشيخان عن أبي هريرة أن رسول الله- صلى الله عليه وسلم- قال: « ».
7- تعريض المسلم لبركات ليلة القدر التي يصفها القرآن الكريم بأنها خير من ألف شهر (أي: أن العبادة فيها تعدل العبادة في أكثر من83 سنة)، ورسول الله- صلى الله عليه وسلم- يقول: «من قام ليلة القدر إيماناً واحتساباً غفر له ما تقدم من ذنبه»، وقال: « »، هذا فضلاً عن بركات شهر رمضان، وهو الشهر الوحيد الذي ذكر اسمه صراحة في كتاب الله، والذي اختصه الله- تعالى- بإنزال القرآن الكريم فيه، فقال- عز من قائل-: {شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِيَ أُنزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِّلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِّنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ} [البقرة: 185]، لذلك قال رسول الله- صلى الله عليه وسلم-: « ».
ويؤكد رسول الله- صلى الله عليه وسلم- أن جميع ما نعلم من رسالات السماء أنزل في هذا الشهر الفضيل، فقال: « »، وهذا يؤكد مرة أخري وحدة رسالة السماء المنبثقة من وحدانية الخالق- سبحانه وتعالى- كما يؤكد على حرمة وكرامة هذا الشهر عند رب العالمين، لذلك قال المصطفى- صلى الله عليه وسلم-: « ».
8- إحياء روح الجهاد في أمة الإسلام، وذلك بتذكير المسلمين بأن جميع انتصاراتهم العسكرية كانت في هذا الشهر الفضيل من غزة بدر الكبري، إلى فتح مكة، إلى معركة الشرف والكرامة في العاشر من رمضان سنة 1393هـ/ 1973م.
9- إتاحة الفرصة لأجساد الصائمين بأخذ فترة راحة استشفائية يتم خلالها إصلاح أعطابها، وتطهيرها مما تجمع فيها من الدهون، والشحوم، والسموم، والنفايات على مدى السنة، خاصة عند المصابين بالالتهابات المزمنة في الجهاز الهضمي وغدده، والمبتلين بزيادة الوزن مما يؤدي إلى التهابات المفاصل التنكسي في الركبتين، وعند المصابين بارتفاع ضغط الدم واضطرابات الجهاز الدوري بصفة عامة، وذلك لأن10% من كمية الدم التي يدفع بها القلب إلى الجسم تذهب إلى الجهاز الهضمي في أثناء عملية الهضم، ويتوقف ضخ هذه الكمية في أثناء الصيام مما يقلل من جهد عضلة القلب ويريحها طوال فترة الصيام. هذا بالإضافة إلى ما ثبت للصوم من تأثيره الإيجابي على قدرات التفكر والتذكر، وتقوية جهاز المناعة، والشفاء من العديد من الأمراض من مثل أمراض الكلى والمثانة وغيرها، ولذلك قيل: صوموا تصحوا.
10- صوم شهر رمضان يذكر المسلمين بحقيقة أنهم أمة واحدة، لديها من عوامل التوحد ما لا يتوافر لغيرها من الأمم التي أدركت أننا نعيش اليوم في عالم التكتلات البشرية الكبيرة، فتوحدت، في الوقت الذي تسعي لمزيد من تفتيت المسلمين بعد أن قطعت أوصالهم في أكثر من 57 دولة ودويلة فبعثرت إمكاناتهم المادية والمعنوية والبشرية، وأدت إلى تخلفهم في كل منحى من مناحي الحياة، ولعل كل رمضان يمر بالمسلمين يذكرهم بحقيقة أنهم أمة واحدة حتي يبادروا بتجسيد ذلك أمراً واقعاً، إنقاذاً لأنفسهم وللبشرية الضالة من حواليهم من الهلاك.
من أجل ذلك قال ربنا- تبارك وتعالى-: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ على الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ . أَيَّاماً مَّعْدُودَاتٍ فَمَن كَانَ مِنكُم مَّرِيضاً أَوْ على سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِّنْ أَيَّامٍ أُخَرَ وَعلى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ فَمَن تَطَوَّعَ خَيْراً فَهُوَ خَيْرٌ لَّهُ وَأَن تَصُومُوا خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ} [البقرة:183-184].
وفي ختام هاتين الآيتين الكريمتين يتضح عدد من أوجه الإعجاز العلمي والتشريعي والإنبائي في النص القرآني الذي اخترناه عنواناً لهذا المقال، فالحمد لله على نعمة الإسلام، والحمد لله على نعمة القرآن، والحمد لله على بعثة خير الأنام- صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحبه ومن تبع هداه ودعا بدعوته إلى يوم الدين، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.