الارتقاء بالثقافة السياسية

منذ 2013-06-27

أن التعريف الاصطلاحي للثقافة السياسية هو الرقي بالأفكار النظرية المتضمنة المعارف والعقائد والفنون والأخلاق والقوانين والتاريخ، المتعلقة بأصول الحكم وإدارته والعلاقات الخارجية الدولية. ويمكن التعبير عنها اختصاراً بـ(الرقي المعرفي بالأفكار السياسية)، لا سيما بعد شيوع لفظ السياسة لدى العامة والنخبة.

 

جاء وفد من اليهود إلى الخليفة العباسي القائم بأمر الله مطالبين بإسقاط الجزية عنهم ومعهم كتاب يزعمون أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كتبه بعد خيبر يسقط فيه الجزية عن اليهود، والكتاب بخط علي رضي الله عنه وشهادة جمع من الصحابة، فأزعج ذلك الخليفة ولم يجبهم بشيء، وهنا بادر أحد وزرائه وأخذ الكتاب إلى الخطيب البغدادي إمام أهل الحديث والتاريخ آنذاك، وما إن نظر إليه البغدادي حتى حكم بتزوير هذا الكتاب؛ لأن من الشهود عليه معاوية بن أبي سفيان وسعد بن معاذ رضي الله عنهما، والأول أسلم بعد فتح مكة، أي بعد خيبر بأكثر من سنتين، والثاني مات بعد غزوة بني قريظة، وهي قبل خيبر بسنتين تقريباً، فانفرجت أسارير الخليفة ومن معه. ومن هذه الواقعة ندرك أهمية الثقافة (التاريخية) للقادة السياسيين.

مدلولات لغوية واصطلاحية:
استعمل العرب كلمة الثقافة للدلالة على معانٍ متعددة، منها: الحذق والفطنة والذكاء، سرعة التعلم والضبط، الظفر بالشيء والتغلب عليه، والتقويم والتهذيب..
يقال ثقف الشيء ثقفاً وثقافاً إذا حذقه. واستعمل العرب كلمة السياسة للدلالة على التدبير والإصلاح والتربية، وساس الأمر سياسة قام به، وسوس الرجل أمور الناس إذا ملك أمرهم، وفي الحديث المتفق عليه: «كانت بنو إسرائيلَ تسوسهم الأنبياءُ» (البخاري: 3455)، فالسياسة القيام على الشيء بما يصلحه.

وللثقافة مدلولات اصطلاحية تجاوزت 165 تعريفاً، وهذا التعدد منشؤه إما لاستقلالية اللفظ، أو لتمييزه عن مصطلحات أخرى تقاربه أو ترتبط به بعلاقة، كالحضارة أو المدنية أو العلم والمعرفة، ومن أهم التعريفات لمصطلح الثقافة هي:
- مجموعة الأفكار والعادات الموروثة التي يتكوّن فيها مبدأ خلقي لأمة ما، ويؤمن أصحابها بصحتها وتنشأ منها عقلية خاصة بتلك الأمة تمتاز عن سواها.
- الكل المركب الذي يتضمن المعارف والعقائد والفنون والأخلاق والقوانين، وكل القدرات والعادات الأخرى التي يكتسبها الإنسان من حيث كونه عضواً في المجتمع.
- الرقي بالأفكار النظرية، وذلك يشمل الرقي بالقانون والسياسة والإحاطة بقضايا التاريخ المهمة، والرقي كذلك بالأخلاق أو السلوك، وأمثال ذلك من الاتجاهات النظرية.

ولتمييز الثقافة عما سواها من المفاهيم المتقاربة حدَّد بعض الباحثين مقارنات، منها:
بين الثقافة والحضارة:
الثقافة معناها الفن، والحضارة تعني صناعة الأشياء. الثقافة استمرار للتقدم الإنساني، والحضارة استمرار للتقدم التقني (المادي).
الثقافة تغيير مستمر للذات، والحضارة تغيير مستمر للعالم. وحاصل الثقافة هو الإنسان، وحاصل الحضارة هو المجتمع. الدين والقيم والأفكار والأدب هي مكونات الثقافة، والعلم والتكنولوجيا والمدن والدول مكونات الحضارة.

وبين الثقافة والعلم والمعرفة:
الثقافة خاصة بكل أمة بعينها، والعلم عالمي بطبيعته يلتقي مع كل أمة وكل مجتمع.
الثقافة ليست معارف فقط لكنها موقف واتجاه وعاطفة وأسلوب حياة، والمعرفة هي المعلومات العامة المنوعة.
الثقافة هي الإطار العام للمعرفة والعلوم، والعلم والمعرفة المادة الخام للثقافة. الثقافة عموم موسع، والعلم والمعرفة تخصص دقيق.
ولذلك قيل: "تعلّم شيئاً عن كل شيء لتكون مثقفاً، وتعلّم كل شيء عن شيء لتكون عالماً"، والإنسان لا يكون مثقفاً في جملة من العلوم ما لم يكن حاذقاً في إدراكها، حسن الفهم لها، مجيداً لتقويم ما يطلع عليه.

الثقافة الإسلامية:
ويعني هذا المفهوم بالنسبة إلى الفرد: الإحاطة بمقومات الإسلام والاطلاع على مصادره وجميع التفاعلات في الماضي والحاضر..
وأما بالنسبة للأمة فهي الصورة الحية للأمة الإسلامية التي تحدد ملامح شخصيتها وقوام وجودها، وهي التي تضبط سيرها في الحياة وتحدد اتجاهها فيه، إنها عقيدتها التي تؤمن بها، ومبادئها التي تحرص عليها، ونظمها التي تعمل على التزامها، وتراثها الذي تخشى عليه من الضياع والاندثار، وفكرها الذي تود له الذيوع والانتشار.

مصطلح السياسة:
للسياسة معنى عام يتصل بالدولة والسلطة، وأطلق عليها فقهاء الإسلام أسماء عدة، منها: (الأحكام السلطانية، والسياسة الشرعية، والسياسة المدنية).
وأما أشهر تعريفاتها الإسلامية فهي: إصلاح أمور الرعية وتدبير شؤونهم، أو حراسة الدين وسياسة الدنيا به، كما عرفها الإمام الماوردي.
والسياسة نوعان كما يقول ابن خلدون في مقدمته:
- سياسة عقلية: يكون تدبير مصالح الرعية فيها موكولاً إلى العقل البشري، وتسمى أيضاً سياسة مدنية.
- سياسة شرعية: يكون تدبير مصالح العباد فيها بمقتضى النصوص الشرعية وبما دلت عليه أو أرشدت إليه أو استنبطه العقل البشري بما يحقق مقاصد الشريعة. وأما التعريف المعاصر لعلم السياسة فهو: معرفة كل ما يتعلق بفن حكم الدولة وإدارة علاقتها الخارجية.

مصطلح الثقافة السياسية:
من خلال التعريفات السابقة لمفهومي الثقافة والسياسة، يمكن أن نحدد التعريف الاصطلاحي للثقافة السياسية باعتباره مفهوماً واحداً، بأنه: الرقي بالأفكار النظرية المتضمنة المعارف والعقائد والفنون والأخلاق والقوانين والتاريخ، المتعلقة بأصول الحكم وإدارته والعلاقات الخارجية الدولية. ويمكن التعبير عنها اختصاراً بـ(الرقي المعرفي بالأفكار السياسية)، لا سيما بعد شيوع لفظ السياسة لدى العامة والنخبة. وهذا الرقي لا يكون إلا بالإلمام بالبعد السياسي للمفاهيم التي تضمنها التعريف. فالمعرفة السياسية؛ تتعلق بدلالات المفاهيم السياسية ومصطلحاتها وأحوال الناس والمجتمع. والعقيدة السياسية؛ تتعلق بالأصول العقدية والفكرية والنظريات السياسية. وفنون السياسة؛ تتعلق بفن إدارة الحكم والعلاقات العامة من أنظمة وأساليب ووسائل وتخطيط. والأخلاق السياسية؛ تتعلق بمنظومة القيم والآداب المتعلقة، سواء بالعمل السياسي، أو السياسي ذاته. وتتعلق القوانين والأحكام السياسية؛ بالدساتير والقوانين والقرارات السياسية، سواء المحلية أو الإقليمية أو الدولية. وأما التاريخ السياسي فيتعلق بتاريخ قيام الدول والأنظمة الحاكمة وزوالها وتاريخ الشخصيات السياسية.

مراحل الارتقاء الثقافي:
يكون الارتقاء الثقافي على ثلاث مراحل:
1) المرحلة الاستيعابية؛ وتستند إلى مطالعةٍ الغايةُ منها تكوين تصور عام عن كل مكون من مكونات الثقافة السياسية وصولاً إلى الفهم الذي يعين على التذكر، وهذه المرحلة يقف عندها المتابعون وعامة المتلقين، ويمكن أن نمثل لها من التاريخ السياسي لأمتنا بمعرفة تاريخ الخلفاء الراشدين (أبي بكر وعمر وعثمان وعلي رضي الله عنهم أجمعين)، ومدة خلافتهم، وبعض نشاطاتهم.

2) المرحلة التفسيرية التحليلية؛ وتستند إلى المطالعة التي تستدعي حضوراً ذهنياً يعمل على ربط الأفكار فيما بينها ومحاولة تفسيرها وتحليلها وإيجاد الروابط المنطقية بينها، مع الاستعانة بقراءات منفردة لأي مكون من مكونات الثقافة، وهذه المرحلة يقف عندها الباحثون والمحللون السياسيون، ولو عدنا إلى المثال السابق لربطنا بين مدة الخلافة للخلفاء الأربعة، ومعهم الإمام الحسن رضي الله عنه، التي استغرقت ثلاثين عاماً (من عام 11 هـ إلى 41 هـ)؛ وبين قوله عليه الصلاة والسلام: «خلافة النبوة ثلاثون سنة» (صحيح الجامع: 3257)، وفي رواية: «الخلافةُ ثلاثونَ سنةً، ثم تكونُ مُلْكًا» (أخرجه أبو داود والترمذي، وحسنه الألباني)؛ للدلالة على إقرار النبي لهؤلاء الخلفاء. يقول شيخ الإسلام ابن تيمية: "واعتمد عليه الإمام أحمد وغيره في تقرير خلافة الخلفاء الراشدين الأربعة، وكونها راشدة مهدية ورحمة لقوله عليه الصلاة والسلام: «إنه من يعش منكم بعدي فسيرى اختلافاً كبيراً، عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهدين من بعدي، تمسكوا بها وعضوا عليها بالنواجذ» (أخرجه أبو داود والترمذي). وقوله عليه الصلاة والسلام: «ستكون خلافة نبوة ورحمة» (أخرجه أحمد). وفي هذا رد على من طعن بشرعية بعض الخلفاء الراشدين.

3) المرحلة الابتكارية؛ وتقوم على القراءة التي تعتمد على تفكيك الأفكار وتحليلها وتجزئتها إلى عناصرها الأولية وإعادة تركيبها من خلال الإلمام بأي فكرة أو قضية أو ظاهرة من جميع جوانبها، مع قدرة عقلية ابتكارية قادرة على الإبداع والابتكار للوصول إلى تفسير جديد أو صياغة مبتكرة، وهذا ما ينطبق على المنظرين السياسيين الذين يصنعون الأفكار، والقادة الذين يصنعون الأحداث السياسية أو السيطرة عليها. ولو عدنا مرة ثانية إلى مثالنا السابق، وبعد أن علمنا تاريخ الخلفاء الراشدين وشرعية خلافتهم من خلال النصوص السابقة؛ نقوم بتجزئة آليات انتخاب هؤلاء الخلفاء، فأبو بكر الصديق تولى الخلافة بعد اجتماع السقيفة مع اعتماد بعض الإشارات النبوية وأعمال الرأي من الصحابة؛ كقول علي: "أفلا نرضى لدنيانا من ارتضاه النبي لديننا". وخلافة عمر كانت بترشيح من الخليفة أبي بكر فارتضاه أهل الحل والعقد. وخلافة عثمان كانت باعتماد ستة من أهل الحل والعقد جُعل الأمر فيهم ليختاروا أحدهم للخلافة وصاحَبه استبيان رأي أبناء الأمة لا سيما في مركز الخلافة. وخلافة علي كانت بعد ثورة وتغلب وارتضاء أهل الحل والعقد، ثم عادت الخلافة للحسن من غير نص وتنازل عنها لمعاوية جمعاً للمسلمين وحقناً للدماء وحفظاً لبيضة الإسلام، رضي الله عنهم أجمعين. وهكذا بتفكيك النصوص مع إعادة الربط نستخرج أصول النظام السياسي، ونصوغ نظرية الحكم في الإسلام.

مبادئ في الارتقاء:
وإزاء هذه المراحل يمكن أن نحدد بعض المبادئ:
1) هذه المراحل الثلاث تعتمد على التدرج من الاستيعاب إلى التفسير حتى الابتكار، ولا بد من التكرار الثلاثي أو أكثر لمطالعة أي مكون من مكونات الثقافة السياسية، أي أن يُجعل لكل مرحلة مطالعة منفردة؛ فيُقرأ النص قراءة أولية للاطلاع العام والاستيعاب، وقراءة ثانية للتفسير والتحليل، وثالثة للابتكار.

2) تقديم الدراسات والبحوث في العموم وفي ضوء هذه المراحل، يكون على ثلاثة مستويات: الأول: الدراسة الكاملة لمرحلة الاستيعاب. والثاني: ملخص موسع لا يتجاوز 700 كلمة للمرحلة التفسيرية. أما الملخص الثالث فلا يتجاوز 250 كلمة للمنظرين والقادة وصناع القرار. وخير مثال بعض إصدارات التقرير الارتيادي (الإستراتيجي) لمجلة البيان.
3) بعضهم تكون قدراته الذهنية محدودة لا تتجاوز مرحلة الاستيعاب وإن قرأ النص عشرات المرات، وآخرون لا يتجاوزون التفسير والتحليل وإن تكرّرت قراءاتهم.
4) القمم السياسية تنتهي لمن تصبح له مَلكة يقتدر من خلال مطالعة واحدة لأي مكون من مكونات الثقافة السياسية أن يأتي بالابتكار والتجديد.

5) إن تحصيل الثقافة السياسية يستند إلى أمرين مهمين: الموهبة والاكتساب. فأما الموهبة فهي هبة ربانية ومنحة إلهية يؤتيها الله تعالى بعض عباده، وتنتقل عادة إلى بعض الأجيال وراثياً، يقول الله تعالى: {يُؤْتِي الْـحِكْمَةَ مَن يَشَاءُ وَمَن يُؤْتَ الْـحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْرًا كَثِيرًا وَمَا يَذَّكَّرُ إلاَّ أُوْلُوا الأَلْبَابِ} [البقرة: 269]. وأما الاكتساب فيعتمد على جهد الإنسان في التحصيل واكتساب المزيد والمواظبة على ذلك.

مصادر الثقافة السياسية:
إن الإسلامي الذي يهتم بالأمور السياسية، ثقافة أو عملاً، لا بد أن يدرك أهم المصادر التي ينبغي عليه الإلمام بها لتشكيل العقلية السياسية لديه، منها:
- الكتاب والسنة: فهما يشكلان المرجعية العليا لكل مسلم وفي أي مجال يعمل فيه، ومن خلالهما تتشكل العقيدة السياسية وتتبلور الرؤى والمفاهيم وتتأصل المبادئ الكلية والقيم التي لا بد منها لأي سياسي أو مثقف في السياسة.

- السيرة النبوية: وهو العلم الباحث في حياة الرسول محمد صلى الله عليه وسلم من جميع أطرافها، وتمثل السيرة المسار العملي الذي يجب على المسلمين أن ينسجوا على منواله؛ فهو القدوة والأسوة والأنموذج العالمي الأرقى على مستوى البشرية كلها، وقد التفت بعض الباحثين المعاصرين إلى جوانب من السيرة تتعلق بقيادة النبي للأمة وإدارته للدولة الإسلامية وعلاقاتها الخارجية.

- التاريخ: هو معرفة أحوال الطوائف وبلدانهم ورسومهم وعاداتهم وصنائع أشخاصهم وأنسابهم ووفياتهم، والغرض منه الوقوف على الأحوال الماضية. والتاريخ الإسلامي، كما يقول بعض الباحثين: سجل لأعمال الأمة الإسلامية، فهو يقوم بدور الراصد لحركتها بالإسلام حال استقامتها عليه أو انحرافها عنه، كما يرصد حركة علمائها وقادتها ومصلحيها. أما الفائدة العظمى من دراستنا لتأريخنا، فهي أن نعرف كيف تحركت الأمة بالإسلام، والأسباب التي أدت إلى تلك الحركة، ونتائج تلك الحركة، سواء أكانت نتائج طيبة أم سيئة، وبذلك تتم الإفادة من دراسة التاريخ. وينبغي للمثقف السياسي أن يركز على تاريخ الدولة الإسلامية وتاريخ الخلفاء والحركات السياسية، وكذا التاريخ السياسي للدول الإسلامية والدول المحيطة بالعالم الإسلامي.

- أنظمة الحكم وفلسفته: ومن مستلزمات الثقافة السياسية أن يطلع صاحبها على فلسفة الحكم والنظريات السياسية والأنظمة الدستورية والقوانين الدولية والإقليمية والمحلية، فكلما كان زاده منها أوسع كانت ثقافته أشمل وأنضج، فمن الصعب على المثقف أن يصوغ أو يحلل ظاهرة ما وهو غير ملمّ بالأطر القانونية التي تكتنفها. ولذا ينبغي على المثقف الإسلامي أن يلمّ بنظام الحكم والفقه الدستوري الإسلامي.

- اللغات: كلما كان المثقف مُجيداً لأكثر من لغة حية أو عالمية، فإن مداركه ستكون أوسع؛ فاللغات لها دور في تشكيل عقلية أصحابها في طريقة التفكير والفقه عن الآخرين وبها يتواصل مع غيره والبيان عما يجول في العقل من معانٍ.



 

طه أحمد الزيدي

 

المصدر: مجلة البيان
  • 1
  • 0
  • 3,548

هل تود تلقي التنبيهات من موقع طريق الاسلام؟

نعم أقرر لاحقاً