التباين المنهجي
عبد الكريم بكار
أحاول باستمرار فهم أسباب تباعد رؤى أبناء التيار الإسلامي في تشخيص الواقع وتحديد خطوط العمل في المستقبل، وأعتقد أن وضع اليد على ذلك ليس من الأمور السهلة، وكل ما نقوله في هذا الشأن لا يعدو أن يكون ضربًا من التخمين العلمي، وذلك بسبب طبيعة البحث في هذا النوع من القضايا، ولعلِّي هنا ألمس المؤشرات التالية...
- التصنيفات: قضايا إسلامية معاصرة -
أحاول باستمرار فهم أسباب تباعد رؤى أبناء التيار الإسلامي في تشخيص الواقع وتحديد خطوط العمل في المستقبل، وأعتقد أن وضع اليد على ذلك ليس من الأمور السهلة، وكل ما نقوله في هذا الشأن لا يعدو أن يكون ضربًا من التخمين العلمي، وذلك بسبب طبيعة البحث في هذا النوع من القضايا، ولعلِّي هنا ألمس المؤشرات التالية:
1- دعونا نقول: إنَّ الإنسان في نهاية المطاف هو ابن ثقافته والمعارف التي في حوزته، كما أنَّه ابن (المنهج المستتر) والذي يعني الأدبيات والرمزيات التي أحاطت به في مراحل تعلمه المختلفة. لو نظرنا إلى أبناء السبعين والثمانين لوجدنا أنَّ المعارف التي تلقوها والبيئات التي درسوا فيها متباينة على نحو تام مع ما تلقاه أبناء الثلاثينيات والأربعينيات ومن وجوه ذلك التباين أنَّ حجم المعرفة المنظمة في الماضي كان أصغر بكثير من حجم المعرفة الذي حظيت به الأجيال اللاحقة، هذا يعني أنَّ كثيرًا مما يظنه الأكبر سنًا حقائق مسلمة قد صار عبارة عن نظريات هي موضع جدل وشك، وهذا واضح في كل العلوم ولا سيما العلوم الكونية المتصلة بالمادة وواقع الحياة، أضف إلى هذا أنَّ مناهج البحث العلمي نفسها قد تأثرت تأثيرًا كبيرًا، بالمعارف المتراكمة ومخرجات البحث العلمي، فصارت أكثر سعة ومرونة وأبعد عن الصرامة والحتم... وهذا أثر تأثيرًا بالغًا في التركيب العقلي للأجيال الجديدة نسبيًا حيث نلاحظ أنَّهم صاروا أقل ادعاءً للأمجاد التليدة وأقل تعلقًا بالتاريخ وأكثر جرأة على نقد أعمال القدماء، وهذا في الحقيقة جعل التقييم للتاريخ الإسلامي مختلفًا إلى حد بعيد.
2- لو رجعنا إلى الوراء قرنًا واحدًا لوجدنا أنَّ معظم مثقفي الأمة كانوا من طلاب العلم الشرعي وخريجي الحلقات العلمية في المساجد، كما أنَّ العلوم التجريبية كانت شبه معدومة كما أنَّ تطبيقاتها العملية كانت هزيلة جدًا، وهذا جعل من المثقف آنذاك عبارة عن مدرس وخطيب وواعظ ليس أكثر، وهذا بالطبع في الأعم الأغلب. ولا يخفى أن علماء الشريعة هم الأكثر مصداقية وموثوقية لدى كل الأجيال، وهذا دفع ويدفع بالشباب اليوم إلى أن يتخذوا منهم مرشدين وموجهين، كما أنَّهم يريدون منهم الإشراف على المؤسسات الناشئة بل يريدون منهم إدارتها والغوص في الكثير من تفاصيلها؛ لكن الشباب سرعان ما يصابون بالصدمة لأنَّ الأسس المعرفية والخبرة الإدارية لدى الكبار لا تلائم ما يطلبه الشباب، بل إنها تمضي في اتجاه مضاد له، مما يعني بقاء الجنود من غير قادة وبقاء القادة من غير جنود!
3- من الواضح أنَّ السواد الأعظم من طلاب العلم الشرعي قد تلقوا معارفهم في بيئاتهم المحلية، وهي معارف تراثية بامتياز على حين أن كثيرًا من الشباب والكهول قد درسوا خارج أوطانهم وفي الجامعات الغربية تحديدًا، مما أتاح لهم فهم أسلوب الحياة هناك وتذوق حلاوته، وكثير منهم قد تخصص في علوم الإدارة والمال والاقتصاد والحاسب والتخطيط.. ومن طبيعة هذه العلوم جعل أصحابها أكثر التصاقًا بالواقع وأشد وعيًا بمتطلباته. هذه الأمور وأمور أخرى مثلها توجِد الكثير من التباين في رؤيتنا الإصلاحية وفي أولويات العمل الاجتماعي.
ما العمل؟
لا شك في أن لتقدم السن تأثيره البيِّن في تفسير الإنسان لما يدور حوله وفي طرق التعامل معه، ومن هنا فإنِّي أدعو الشباب والكهول إلى أن يشاوروا كبار السن من ذوي الخبرة، وعلى كبار السنِّ تقديم الدعم والعون للشباب ولا سيما الدعم المالي، لكن من وجه آخر، فإنَّ على الأجيال الجديدة أن تأخذ زمام المبادرة، وتسارع إلى عمل ما تعتقد أن عليها أن تعمله، احترام الكبار والاستفادة منهم شيء، وانتظارهم والأخذ بكل ما يقولونه شيء آخر، قد مضت سنة الله تعالى في أن يكون لكل زمان منظروه وحكماؤه وقادته ويصعب على أي إنسان أن يكون حكيم كل الأزمان.