حديث: يا عبادي إني حرمت الظلم على نفسي
لما كانت الحكمة من الخلق هي الابتلاء والتكليف، بيّن سبحانه أن العباد محاسبون على أعمالهم، ومسؤولون عن تصرفاتهم، فقد جعل الله لهم الدنيا داراً يزرعون فيها، وجعل لهم الآخرة داراً يجنون فيها ما زرعوه، فإذا رأى العبد في صحيفته ما يسرّه، فليعلم أن هذا محض فضل الله ومنّته، إذ لولا الله تعالى لما قام هذا العبد بما قام به من عمل صالح، وإن كانت الأخرى، فعلى نفسها جنت براقش، ولا يلومنّ العبد إلا نفسه.
عن أبي ذر الغفاري رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم فيما يرويه عن ربِه عز وجل أنه قال: «يا عبادي إني حرمت الظلم على نفسي، وجعلته بينكم محرماً فلا تظالموا، يا عبادي كلكم ضالّ إلا من هديته، فاستهدوني أهدكم، يا عبادي كلكم جائع إلا من أطعمته، فاستطعموني أُطعمكم، يا عبادي كلكم عارٍ إلا من كسوته، فاستكسوني أكسكم، يا عبادي إنكم تخطئون بالليلِ والنهار، وأنا أغفر الذنوب جميعاً فاستغفروني أغفر لكم، يا عبادي إِنكم لن تبلغوا ضري فتضروني، ولن تبلغوا نفعي فتنفعوني، يا عبادي لو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنّكم كانوا على أتقى قلب رجل واحد منكم ما زاد ذلك في ملكي شيئاً، يا عبادي لو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم كانوا على أفجرِ قلب واحد منكم ما نقص من ملكي شيئاً، يا عبادي لو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم قاموا في صعيد واحد فسألوني، فأعطيت كل واحد مسألته ما نقص ذلك مما عندي إلا كما ينقص المخيط إذا أدخل البحر، يا عِبادي إنما هي أعمالكم أحصيها لكم ثم أوفيكم إياها، فمن وجد خيراً فليحمد الله، ومن وجد غير ذلك فلا يلومن إلا نفسه» رواه مسلم.
الشرح
بين يديك أخي الكريم أحد الأحاديث القدسية العظيمة، التي يرويها لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم عن رب العزة جل وعلا، فتعال بنا نعيش مع هذا الحديث، ونستظل بفيئه، وننهل من عذبه الصافي.
لقد بدأ الحديث بإرساء قواعد العدل في النفوس، وتحريم الظلم والعدوان ، يقول النبي صلى الله عليه وسلم فيما يرويه عن ربه: «يا عبادي إني حرمت الظلم على نفسي، وجعلته بينكم محرماً فلا تظالموا»، وحقيقة الظلم: وضع الشيء في غير موضعه، وهذا مناف لكمال الله تعالى وعدله، فلذلك نزّه الله تعالى نفسه عن الظلم فقال: {وما أنا بظلام للعبيد} ( ق : 29 ) ، وقال أيضا : {وَمَا اللَّـهُ يُرِيدُ ظُلْمًا لِّلْعِبَادِ} (غافر: 31) .
ولئن كان الله تعالى قد حرّم الظلم على نفسه، فقد حرّمه على عباده، وحذّرهم أن يقعوا فيه؛ وما ذلك إلا لعواقبه الوخيمة على الأمم، وآثاره المدمرة على المجتمعات، وما ظهر الظلم بين قوم إلا كان سبباً في هلاكهم، وتعجيل العقوبة عليه?، كما قال سبحانه في كتابه العزيز: {وَكَذَٰلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ الْقُرَىٰ وَهِيَ ظَالِمَةٌ ۚ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ} (هود: 102) ، ومن ثمّ كانت دعوة المظلوم عظيمة الشأن عند الله، فإن أبواب السماء تفتح لها، ويرفعها الله فوق الغمام يوم القيامة، بل إنه سبحانه وتعالى يقول لها «وعزتي لأنصرنك ولو بعد حين» كما صح بذلك الحديث.
ثم انتقل الحديث إلى بيان مظاهر افتقار الخلق إلى ربهم وحاجتهم إليه، وذلك في قوله: «يا عبادي كلكم ضال إلا من هديته، فاستهدوني أهدكم، يا عبادي كلكم جائع إلا من أطعمته، فاستطعموني أُطعمكم، يا عبادي كلكم عار إلا من كسوته، فاستكسوني أكسكم»، فبيّن أن الخليقة كلها ليس بيدها من الأمر شيء، ولا تملك لنفسها و لا لغيرها حولاً ولا قوة، سواءٌ أكان ذلك في أمور معاشها أم معادها، وقد خاطبنا القرآن بمثل رائع يجسّد هذه الحقيقة، حيث قال: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ ضُرِبَ مَثَلٌ فَاسْتَمِعُوا لَهُ ۚ إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِن دُونِ اللَّـهِ لَن يَخْلُقُوا ذُبَابًا وَلَوِ اجْتَمَعُوا لَهُ ۖ وَإِن يَسْلُبْهُمُ الذُّبَابُ شَيْئًا لَّا يَسْتَنقِذُوهُ مِنْهُ ۚ ضَعُفَ الطَّالِبُ وَالْمَطْلُوبُ} ( الحج : 73 ) أي: إذا أخذ الذباب شيئاً من طعامهم ثم طار، وحاولوا بكل عدتهم وعتادهم أن يخلصوا هذا الطعام منه ما استطاعوا أبداً، فإذا كان الخلق بمثل هذا الضعف والافتقار، لزمهم أن يعتمدوا على الله في أمور دنياهم وآخرتهم، وأن يفتقروا إليه في أمر معاشهم ومعادهم.
وليس افتقار العباد إلى ربهم مقصوراً على الطعام والكساء ونحوهما، بل يشمل الافتقار إلى هداية الله جل وعلا، ولهذا يدعو المسلم في كل ركعة بـ: {اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ} (الفاتحة : 6) .
ثم بيّن الله تعالى بعد ذلك حقيقة ابن آدم المجبولة على الخطأ، فقال: «يا عبادي إنكم تخطئون بالليلِ والنهار ، وأنا أغفر الذنوب جميعا ، فاستغفروني أغفر لكم»، إنه توضيح للضعف البشري، والقصور الذي يعتري الإنسان بين الحين والآخر، فيقارف الذنب تارة، ويندم تارة أخرى، وهذه الحقيقة قد أشير إليها في أحاديث أخرى، منها: ما رواه الإمام ابن ماجة بسند حسن، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «كل بني آدم خطّاء، و?ير الخطائين التوابون»، فإذا كان الأمر كذلك فإن على الإنسان المسلم أن يتعهّد نفسه بالتوبة، فيقلع عن ذنبه، ويستغفر من معصيته، ويندم على ما فرّط في جنب الله، ثم يوظّف هذا الندم الذي يصيبه بأن يعزم على عدم تكرار هذا الذنب، فإذا قُدّر عليه الوقوع في الذنب مرة أخرى، جدد التوبة والعهد ولم ييأس، ثقةً منه بأن له رباً يغفر الذنب ويقبل التوبة من عباده المخطئين.
ثم بين لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم- فيما يرويه عن ربّه- شيئاً من مظاهر الكمال الذي يتصف به الله جل وعلا، مبتدئاً بالإشارة إلى استغناء الله عن خلقه وعدم احتياجه لهم، كما قال تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَنتُمُ الْفُقَرَاءُ إِلَى اللَّـهِ ۖ وَاللَّـهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ} (فاطر : 15)، فالله تعالى غني حميد، لا تنفعه طاعة عباده، ولا تضره معصيتهم، بل لو آمن من في الأرض جميعاً، وبلغوا أعلى مراتب الإيمان والتقوى، لم يزد ذلك في ملك الله شيئاً، ولو كفروا جميعاً، ما نقص من ملكه شيئاً، لأن الله سبحانه وتعالى مستغن بذاته عن خلقه، وإنما يعود أثر الطاعة أو المعصية على العبد نفسه، وقد جاء في القرآن الكريم ما يؤكد هذه الحقيقة ويوضحها، قال الله عز وجل: {يَوْمَ نَطْوِي السَّمَاءَ كَطَيِّ السِّجِلِّ لِلْكُتُبِ ۚ كَمَا بَدَأْنَا أَوَّلَ خَلْقٍ نُّعِيدُهُ ۚ وَعْدًا عَلَيْنَا ۚ إِنَّا كُنَّا فَاعِلِينَ} (الأنعام : 104)، فمن عرف حجج الله وآمن بها واتبعها، فقد بلغ الخير لنفسه، ومن تعامى عن معرفة الحق، وآثر عليها ظلمات الغواية، فعلى نفسه جنى، وأوردها الردى.
وبالرغم من ذلك فإن نعم الله سبحانه مبثوثة للطائع والعاصي على السواء، دون أن يجعل تلك المعاصي مانعاً لهذا العطاء، وهذا من كرم الله تعالى و جوده، وهي أيضا مظهر من مظاهر سعة ملك الله تعالى، فإن الله لو أعطى جميع الخلق ما يرغبون، لم ينقص ذلك من ملكه شيئاً يُذكر.
ولما كانت الحكمة من الخلق هي الابتلاء والتكليف، بيّن سبحانه أن العباد محاسبون على أعمالهم، ومسؤولون عن تصرفاتهم، فقد جعل الله لهم الدنيا داراً يزرعون فيها، وجعل لهم الآخرة داراً يجنون فيها ما زرعوه، فإذا رأى العبد في صحيفته ما يسرّه، فليعلم أن هذا محض فضل الله ومنّته، إذ لولا الله تعالى لما قام هذا العبد بما قام به من عمل صالح، وإن كانت الأخرى، فعلى نفسها جنت براقش، ولا يلومنّ العبد إلا نفسه.
- التصنيف:
نوارة آل علي
منذنوارة آل علي
منذنوارة آل علي
منذ