التربية الوالدية رهان مجتمعي
إن استعادة دور الأسرة في التربية ينبغي أن يشكل اليوم هاجسًا مركزيًا، يفرضه الارتباط الحتمي بين التربية وكافة المشاريع النهضوية وتجارب التحديث في العالم العربي.
إن استعادة دور الأسرة في التربية ينبغي أن يشكل اليوم هاجسًا مركزيًا، يفرضه الارتباط الحتمي بين التربية وكافة المشاريع النهضوية وتجارب التحديث في العالم العربي.
ولعل أول ما يجدر التصدي له هو تصحيح المفاهيم الخاطئة حول التربية الوالدية، والتي تقف عند حدود تأثيث فضاء الطفل بالمستلزمات المادية التي تهيء له شروط تعلم جيد، أو تعويده على الامتثال لمنظومة القيم والأعراف دون إبداء عناية كافية بخصائص هذه المرحلة ومتطلباتها النفسية والاجتماعية.
ينشأ التفاعل بين الطفل ووالديه في فترة مبكرة، فمنذ الأيام الأولى من حياة المولود يكون قادرًا على التحدث مع أمه وأبيه من خلال ما يسميه عالم النفس الإنجليزي دافيد لويس (اللغة السرية)، ويقصد تلك اللغة الصامتة التي تتوجه إلى العيون و ليس الآذان، أي الاتصال غير الشفهي والذي يكون على قدر من الكمال والرهافة مما يجعل الطفل قادرًا على التعبير عن أدق معاني المشاعر (1).
والمفروض أن يكون لدى الأم على الخصوص قدرة على تفكيك رموزه وتعابيره حتى يسود بينهما قدر من التوافق والانسجام الذي يجعلها قادرة على الاستجابة لمتطلباته، كما يُبدي الطفل في سنواته الأولى حساسية شديدة تجاه الإشارات الجسدية للوالدين، كنبرة الصوت والإيماءات والتوترات العضلية، مما يجعله معرضًا لاضطرابات عميقة تؤثر على نموه النفسي والحركي.
هذا التفاعل الذي يشبهه (مونتانيه) بشوط كرة طائرة حقيقي يدور بين الطفل وأمه وأبيه، يُحيلنا على الأهمية التي يكتسيها دور الوالدين في توفير ظروف التنشئة السليمة، وإشباع حاجة الطفل للحب والرعاية والثقة والتقدير الاجتماعي. وهو ما يفرض بالضرورة إلمامهما بخصائصه النمائية ودوافعه وحاجاته الداخلية.
يقول الباحث عبد التواب يوسف: "إن الطفل ليس دمية ولاتسلية، بل هو حياة كاملة، حياة خاصة، كيان وإنسان، وليس الآباء والمعلمون كل شيء في الأمر، حيث للطفل شخصيته، ثم المجتمع، ثم القيم التربوية والأخلاقية التي تسود، وبالتالي فنحن في حاجة ماسة إلى الدراسة والبحث، وهذا يقودنا بلا شك إلى معرفة النظريات التربوية وتطبيقاتها لكي ينمو الأبناء على أسس قويمة" (2).
لقد كان الإسلام سباقًا إلى الحث على تحقيق الوالدية الفاعلة، وتحميل الآباء مسؤولية النمو السوي وغرس المباديء الإسلامية في نفوس الصغار بدءًا بالبناء العقدي الذي نص عليه الحديث الشريف: «ما من مولود إلا يولد على الفطرة فأبواه يهودانه أو ينصرانه أو يمجسانه» (3)، وصولا إلى الحث على تعليمهم المهارات الرياضية كالسباحة والرماية وركوب الخيل! بمعنى أن التصور الإسلامي للتربية يضع الاتجاهات الوالدية في صلب انشغاله، ويُغذيها بكم هائل من التوجيهات والتطبيقات التي تضمن تمتين البناء الأسري.
وهو ما تنبه العلماء والمربون الأوائل، فأغنوا المكتبة التربوية الإسلامية برسائل ومصنفات تخاطب الوالدين وتحدد مسؤوليتهما بدقة فيما يتعلق بالتنشئة وتمرير القيم والتصورات السليمة.
ولعل من أشهر ما ورد في هذا الباب رسالة (لفتة الكبد إلى نصيحة الولد) للإمام أبي الفرج بن الجوزي، والتي ضَمنها توجيهات ونصائح قيمة لابنه الذي رأى منه توانيًا عن الجد في طلب العلم واشتغالا باللهو ومصاحبة المفسدين.
فأضاءت تلك الرسالة في الحقيقة جوانب عدة يجدر بالوالدين التفطن لها، ومنها البُعد الوقائي والحلول الاستباقية للمشاكل التي ينجم عنها انفراط عقد التربية السليمة! (4). إن ما تضج به المجتمعات المسلمة اليوم من اتجاهات والدية خاطئة لا يُمكن رده إلى غياب نموذج سلف أو تعاليم دينية موجهة، بل هو محصلة التغيرات المتسارعة التي يشهدها العالم، وما تولد عنها من تغيرفي النسق القيمي للأفراد وصعوبة في التكيف مع الأنساق البديلة التي تعرض الهوية والمعتقد للتلاشي و الذوبان!
أدرك الوالدان أنهما يواجهان تحديات العولمة، وثورة إعلامية وتكنولوجية غير مسبوقة، تتسم بالإثارة والجذب والإغراء. فتباينت الاتجاهات الوالدية بين: أسلوب قمعي تسلطي يبالغ في حماية الطفل والتشديد على مراقبته وضبطه، وآخر يُبالغ في تدليله والتساهل معه، وترك الحبل على الغارب بزعم التكيف الإيجابي، وثالث يُفرط في توجيهه، وتحديد المسار الذي يتوجب عليه اتباعه خطوة بخطوة، دون مراعاة لميوله واستعداداته ورغباته.
وبذلك أصبحت التربية الوالدية طرفًا في المشكلة بدل أن تكون طرفًا في الحل، وأسهمت في الرفع من وتيرة الاضطرابات النفسية التي تغذي اليوم سائر أشكال التمرد والعنف وضعف الانتماء الاجتماعي.
إن تحقيق تربية والدية فاعلة يفرض التصدي لجملة من العوائق أهمها الأمية، وتدني الأوضاع المعيشية وضعف الكفاءة البيداغوجية التي تُمكن الوالدين من مواجهة المتغيرات، وتأمين علاقات نفسية إيجابية. كما يفرض، بحسب الدكتور حسن شحاتة، مشاركة ثلاثية بين الوالدين والإعلام والمدرسة، وضم سنوات رعاية الطفولة المبكرة إلى التعليم العام، حتى يتم استثمارها وفق المباديء والمفاهيم التربوية المعاصرة (5).
يتطلب الأمر إذن صيغًا جديدة، ومنظورًا متكاملا يضعها في صلب الانشغال العام، لا باعتبارها شريكًا في العملية التربوية فحسب، بل صمام أمان في عالم متغير!
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) ليونيل روشان: التفتح النفسي الحركي عند الطفل. عويدات للنشر والطباعة. لبنان 2001. ص.13
(2) عبد التواب يوسف: دليل الآباء الأذكياء في تربية الأبناء. دار المعارف. القاهرة 2001. ص8-9.
(3) رواه مسلم من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
(4) انظر: لفتة الكبد إلى نصيحة الولد. الإمام الحافظ أبو الفرج بن الجوزي. مكتبة الإمام البخاري. مصر. 1412هـ.
(5) د.حسن شحاتة: رؤى تربوية وتعليمية متجددة. دار العالم العربي. القاهرة 2008. ص 16-17.
حميد بن خبيش
- التصنيف:
- المصدر: